وساد الصمت هنيهة وقال وجدي: حتى عبد الحميد أبو جريشة؟
في وقاحة منقطعة النظير، قال أبو سريع: من عبد الحميد أبو جريشة؟ - ألا تعرفه؟ - ربما الشيخ الأعمى المقطوع. - أليس له عندك ألف وستمائة جنيه؟ - وهذا الفقي الأعمى من أين له بمبلغ كهذا؟ - ألم يقل لك؟ - أنا لم أره وحدنا عمري كله، أنا لا أراه إلا في المآتم، وحين نقوم بدفن أحد الأموات. لقد سمع الإشاعة، فقال: فرصة أعمل لنفسي شأنا ومكانة. ومتى يجد مثل هذه الفرصة، حتى يجعل الناس يلوكون اسمه.
وصمت وجدي لحظات قائلا: إنه الوحيد بين الذين يقولون إنهم استأمنوك وخنت أماناتهم الذي فكرت أن أرد له مبلغه، فقد تألمت لأمره كل الألم. - خصيمك النبي إن فعلت. - ما دمت تنفي كل هذا النفي سأصدقك، والأمر الآن أصبح بينك وبين الله. - يا رجل لقد عرفتني منذ نحن أطفال، وعملت معك سنوات، وكنت أتصور أنه إذا صدق الجميع عني هذه الشائعات فأنت بالذات ستنفيها. - إنهم كثيرون يا أبو سريع. - مهما كثروا. - فكيف تتصور أن يكونوا في مثل هذا العدد؟ - واحد أراد أن يسيء إلى سمعتي فتبعه الآخرون واجدين فرصة عندك لعلك تجود عليهم بشيء أو يتظاهرون بأنهم كانوا ضحية لثري، وخصوصا بعد أن عرفوا، فإنني بعت لك أرضي بهذا المبلغ الكبير، وشرفك يا وجدي بك كلهم شأنهم كشأن عبد الحميد أبو جريشة. - أنا منذ اليوم لن أكلمك في هذا الموضوع، وسأترك أمرك لله وكلامه ورسله فهم خصومك إن كنت من الكاذبين. - فقط ألم يقل لك أحد أنه استأمنني على مبلغ كبير بلا إيصال مني، ولا سند في يده ورددت له أمانته؟ - الحقيقة أن كثيرين قالوا ذلك، وأكبر المدافعين عنك الشيخ عبد الفتاح أبو إسماعيل. - ألم يقل لك المبلغ الذي استأمنني عليه؟ - يقول عشرة آلاف. - ألم يكن هذا أولى من عبد الحميد أبو جريشة؟ - كما قلت لك إنك ستقف بين يدي الله الذي حلفت به وبقرآنه، وهو الواحد الديان، أما عني فإني أعيذ نفسي أن أصدق شيئا لا أجد عليه دليلا ماديا حتى الآن. - ولن تجد، والأيام بيننا. أتسمح لي أن أقول لك شيئا؟ - قل. - إذا قدم أي مدع من الذين يتهمونني زورا ورقة واحدة تثبت كذبي وصدقه، سأدفع لكل من يتهمونني المبالغ التي يدعون أنهم أودعوها عندي بصفة أمانة. - أهذا عهد؟ - عهد الله بيني وبينك، فإن رأيتني أخيس به فلا تعرفني بعدها أبدا. - اللهم فاشهد، أنا عملت ما رأيت أنه واجبي، وليس لي شأن بهذا الموضوع إلا إذا ظهر فيه جديد. - إذا ظهر هذا الجديد ستجدني بين يديك أنفذ عهد الله الذي وثقته بيني وبينك. - وهو كذلك، سلام عليكم. - وعليكم السلام يا سعادة البك، زيارتك هذه لا تحسب، وهذا شرف أحب أن أناله بغير أن يكون السبب له هو شكك في. - الأيام القادمة كثيرة، ومن يدري ربما أكثر من زيارتك حين تنكشف هذه الغمة، بيتك جميل. كيف وجدته؟ - إنه شقة مفروشة، حين تأتي المرة القادمة سيكون ذلك في بيتي إن شاء الله. - إن شاء الله، سلام عليكم.
وتصافح الرجلان، وانصرف وجدي، وقد تمكن أبو سريع أن يزعزع ثقته التي جاءه بها من أنه خائن الأمانة.
استطاع أبو سريع بمعاونة من لطفي أن يحصلا من البنك بالوسائل غير المشروعة على عشرة ملايين من الجنيهات، وما يلبث أبو سريع أن يشتري قطعا أخرى من الأرض، وينال عليها بنفس الوسائل عشرات الملايين من الجنيهات سواء كان حصوله على هذه الأراضي بعقود بيع وشراء صحيحة، أو بنفس الوسيلة التي حصل بها على قطعة الأرض الأولى، واشترى أيضا بوسائله شقة أقام فيها هو وسلمى.
أما لطفي فقد أصبح كما قدر أبوه هو المشرف على أرض سعدية وأموالها منذ مات أبوها بعد أن ظل فترة يصدق عليه قول المنتقم الجبار: لا يموت فيها ولا يحيا.
الفصل الحادي عشر
قالت نبوية لأبيها: أنا لا أعرف يابا لماذا لم تسع في طلاقي من زردق حتى الآن؟ - يا بنتي هل جننت؟ - أجنون أن أطلق من مجرم في قضية قتل ضبط فيها متلبسا؟! اسمع يابا والله إن لم تطلب طلاقي من هذا الزواج الذي لم يستمر إلا أياما معدودة، سأذهب إلى تامر ابن وجدي بك، وأجعله يرفع لي قضية وهو لا يأخذ من أبناء البلد قرشا. - يا عبيطة، وهل أنا متأخر؟ - شهور الآن وأنت تسوف. - لأن القضية لم يحكم فيها. - إنها ثابتة يابا. - المحكمة لم تقل شيئا حتى الآن، وما دام لم يحكم على زردق فنحن لا نستطيع أن نطالب بالطلاق. - يابا المحاكم حبالها طويلة. - حكمة ربنا يا بنتي، وأنا ماذا بيدي أن أصنع؟ - أيرضيك أن أظل هكذا كالبيت الوقف لا أنا حرة، ولا أنا زوجة؟ - لا يرضيني، ولا يرضي أحدا، ولكن ماذا نفعل؟ - كان عليك أن ترفضه أول الأمر. - وأجعله يقتلنا جميعا أنا وأنت وأمك وإخوتك. - الأعمار بيد الله. - إنما قال الله: لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. - هذا الرعب هو الذي جعلهم يفيعون كالذئاب في خلق الله. - يا بنتي البني آدم إذا قتل مرة واحدة يقتل مائة مرة، فما بالك برجل وظيفته في الدنيا أن يقتل؟! - نهايته سلام عليكم. - وعليكم السلام، إلى أين؟ - في ستين داهية.
وخرجت نبوية وصفقت الباب خلفها، وكان الليل في موهنه الأول، وبدأت الظلمات تلقي دكنتها على الأرض، وكان هذا هو الوقت الذي أرادته نبوية لتنفذ ما عزمت عليه في نفسها.
كان الشيخ عبد الحميد في منزله يستمع إلى الراديو، وإن كان منصرفا عنه بفكره إلى ذلك الأمر الذي صمم أن ينفذه مهما كانت الصعاب، ومهما كانت العواقب.
Página desconocida