وأحسب أنه كان ينبغي لي أن أكون شاكرة لهذا الصنيع، عارفة هذه المحمدة له. ولكن روحا من الثورة والتمرد تولتني؛ إذ أحسست أنني قد خدعت في صفقة الحياة وغبنت، فلقد ظللت الماضي كله أعطي كل شيء ولا آخذ شيئا، أعطيت الشباب والآمال والأحلام، وها أنا ذي اليوم لا أجزى عما وهبت غير العيش بقية الأجل بين جدران ملجأ ...
وا حزناه ... أنا التي لهفت على الحب وحلمت به، ودعوت إليه، قضى القدر أن أحتبس في دار للعجزة ... واللائي أدبر العمر بهن ...
يا لله ... أدبر العمر بهن، ولكني لم أعد كذلك.
لقد كنت فتية أحس في الأضالع وقدة الشباب، وكيف تنطفئ نار تجد في كل يوم وقودها من اللهفة على الحب وحرارة الأمل، والتوق إلى المنى البعيدة؟
لقد ثارت نفسي متمردة تريدان تحتال آخر الحيل قبل أن تسكن إلى اليأس وتودع الأمل الوداع الأخير. •••
وأعلنت صحف المساء أن معرضا للملاهي والألعاب سيقام على ضفاف البحر تذكارا ليوم مشهود، ومضت تطنب في وصف ضروب اللهو التي حشدت فيه. فما كدت أقرأ هذا النبأ حتى أجمعت أمري على أن ألقي بآخر سهم في كنانتي على مرمى الحياة قبل أن أستسلم إلى دخول ذلك الملجأ صاغرة، فعددت فضلة المال التي ادخرتها، فكانت يسيرة ولكنها تكفي لركوب القطار ودفع الأجر ونفقة البيت. إذن لا بأس ... سأثب الوثبة الأخيرة ... سأعيش لنفسي يوما واحدا في العمر، يوما بهيجا حافلا بمتع الحياة من لهو وقصف، وإذن لن يستطيع العيش في الملجأ أن يحرمني نعمة ذكرى ذلك اليوم وصورته ...!
وذهبت إلى دولاب ثيابي فأخرجت أحسن حلله، وأبى شعري الفاحم إلا أن يلتوي ويسترسل فروعا وخصالا متلطفة تلاعب جبيني وخدي، وراح خيال شبابي المستعاد وعيني السوداوتين يضحك لي في المرآة عندما تناولت جعبتي الصغيرة ومشيت منصرفة لاقتناص ... الحب ...!
وأخذت الجماهير تتقاطر، وما لبث الخليج أن بدا حاشدا بالسابحين والسابحات في مختلف الألوان، تسطع منهم الأذرع وتبرق السيقان. وارتفعت صيحات الفرح من شفاه ملتهبة بحرارة الشباب، تختلط في الفضاء بأصوات الباعة من كل صنف ولون، وعادت الرمال البيضاء المترامية على الضفاف حديقة مفراحا بهيجة تطالع العين منها المظلات البديعة والأثواب المهفهفة، وقوالب الحسن التياه، والملاحة ذات الدل والخفر والخيلاء ... وظللت لحظة مستطيلة قانعة بالجلوس فوق الرمال الدافئة وتأمل المارة ورؤية مشاهد الألعاب، ولكني ما لبثت أن درت بعيني فألفيت الناس جماعات، مثنى وثلاث ورباع، كلهم بإلفه فرح، وبرفيقه طروب، أو بصاحبه في سرور وابتهاج، ووجدتني في وسط هذا الجمع وحيدة من الخلان، لا رفيق إليه منتهى جذلي، ولا سمير أضاحكه وأنعم في بهرة الحفل بسمره، فتولتني وحشة أليمة وظمأ إلى الرفقة ولهف على الصاحب والخدين، ورحت أجيل العين في الوجوه لعلي ملاقية وجها أعرفه أو أسمع صوتا آلفه، فوجدتني وحيدة غريبة لا شأن لها بالجمع، بل امرأة محت الأيام مسحة الجمال من معارف وجهها، يدفعها الشباب المساميح الصباح الوجوه بالمناكب، ويمرون بها ولا ينظرون. وا حزناه! لقد كنت بعد كل تلك السنين أحسبني مختلسة من العمر يوما واحدا ذا مراح وابتهاج، أعده ذكرى طيبة مواسية لبقية الأجل أقضيها بين جدران ملجأ موحش أليم.
لك الله أيتها العانس المسكينة، ودعي الأمل، هيهات ما لك في هذه الحياة من نصيب، اذهبي اطلبي إلى الوردة أن تغمض وإلى الزهرة أن تعود كما نواراكما كانت. ما أنت والحب، وما أنت والمراح، أنت عون أبيك وسنده، ولكن أبي ... ها أنا قد عدت وحيدة وقد تركني الذين وصيتني بهم، ولم يعد لصغيرتك من تعينه وترعاه، وذهب الأمل، وخبت وقدة اللهفة على الحب. •••
واحتملني تيار الجمع الزاخر في طريقه، فما لبثت أن وجدتني في السرادق الرحيب الذي أقيم في المعرض للعبة الأحصنة الخشبية، فانتبذت من القوم مكانا فجلست ملقية يدي في حجري وأسلمت خاطري للتفكير.
Página desconocida