وفي عودتنا من البئر استبقتني مسرعة تنادي أباها إلى الخروج.
وما هي إلا لحظة أخرى حتى ارتفع لنا شيخ ضعيف يتكئ على عصا، وكان لا يزال في دور النقاهة من مرضه.
فابتدرته الفتاة قائلة: أبتاه، أقبل للسلام على ضيفنا، إنه يشتغل على الشاطئ في تركيب الآلة الرافعة وهو من أهل الإسكندرية.
فجعل الشيخ يقول: أهلا، ومرحبا، وهو يمد يده مصافحا، وأدركت من حديثه أنه معروف في الحي الذي نشأ به وما جاوره.
وما لبث الحديث أن مال بنا نحن الثلاثة إلى عدة شؤون، فلم أنتبه منه إلا على صفير الصافرة المنبعثة من الآلة الرافعة، إيذانا بالظهيرة. فأسرعت إلى الجرة فاحتملتها وصحت أقول: يا لله! لقد تأخرت عن الجماعة وأخشى أن يرجموني إذا أنا أطلت الغياب ...
وانثنى الشيخ يقول - وقد رآني أهم بالذهاب -: أرجو أن لا تقطع عنا زيارتك.
وأردفت الفتاة على قول أبيها: نعم، زرنا في أي وقت يحلو لك.
وفي طريقي إلى موضع العمل، نسيت الرهان كل النسيان، ورحت أردد بيني وبين نفسي قائلا: نعم، سأزورها قريبا، وإني لأعود بالذاكرة الآن إلى ذلك اليوم الذي لقيتها فيه على تلك الصورة، فلا أذكر ولا أشهد بعين الخيال غير عينيها الجميلتين السوداوين وهما تتحدثان بأبلغ منطق قائلتين: إنني أحبك! •••
وفيما أنا مقبل على المضارب، سمعت صوت صديقي «ف» يصيح قائلا: أين كنت يا رجل طيلة الضحى كلها؟ أفلجرة ذهبت تملؤها تطيل هكذا الغياب، عجبا لك! أكنت تحتفر بئرا لتعود بالجرة من مائها حافلة؟ ...
فتلفت في نواحي المضرب مستوثقا، فلما لم أر أحدا معه، رحت أجيبه قائلا: كلا يا صاح، لقد كنت عند «سوسن» بعد أن ملأت الجرة، حقا أيها الصديق إنها لفتاة ساحرة آية الملاحة.
Página desconocida