فالبروتون كهربة موجبة بالقياس إلى السالبة، والنيوترون كهربة محايدة بالنسبة للاثنين، والسالبة تلتزم السلب في علاقتها بالكهربات الأخرى، وقد يكون بعض هذه الموجودات سالبا في حالة وموجبا في حالة أخرى.
وهذه كلها موجودات اعتبارية بالقياس إلى غيرها، فكيف يكون وجود المادة المجردة من جميع هذه الاعتبارات؟ وكيف تكون المادة المطلقة على قدر ما نتصور الإطلاق في هذه الموجودات؟
إننا أشرنا إلى تجارب علماء «كليفورنيا» في هذه المباحث في باب العوالم الأخرى من كتاب «القرن العشرون ما كان وما سيكون» وذكرنا أنهم يحتملون وجود كائنات لا مادية
Anti-Matter
على بعض العوالم الأخرى، ولا نعلم ماذا ثبت من هذه الكائنات اللا مادية في مباحث البروتون التي أجراها العلماء المجازون وزملاؤهم المشتغلون بها في شتى الميادين، ولكن المهم في الأمر أن الحقيقة المادية والحقيقة المجردة لا تتناقضان عند العلم الحديث، خلافا لما جرى عليه العرف بين عامة الباحثين إلى عهد قريب.
فقد كان العرف الشائع إلى أوائل القرن العشرين أن البحث عن الحقيقة المجردة والبحث عن الحقيقة المادية طريقان متعارضان، ينبغي لمن يتوخى أحدهما أن يولي ظهره للآخر، ولا يترقب الوصول إلى غاية معقولة من سلوكه إياه.
فاليوم قد تبين - على الأقل - أن الإمعان في البحث عن حقيقة المادة يؤدي بنا إلى الحقيقة المجردة وينتهي بنا إلى التسليم بكائنات «لا مادية» تخالف ما كنا ندركه من صور المادة المحسوسة.
ولا بد من الحقيقة المجردة إلى جانب الحقائق الاعتبارية، أو الحقائق التي يقاس بعضها إلى بعض ولا تستقل بذواتها عن وجود آخر وراءها، وجود يسميه علماء المادة أنفسهم وجودا «لا ماديا» للتمييز بينه وبين الموجبات والسوالب والمحايدات وسائر هذه المضافات.
إن السنوات التي مضت منذ تأليف هذا الكتاب عن «الحقيقة الإلهية»، قد تقدمت بنا في طريقنا ولم تزل تتقدم بنا فيه وتحطم الحواجز التي يخيل إلينا بادئ الرأي أنها تنكص بنا عنه أو تتشعب بنا حوله.
فإذا أردنا أن نلخص ذلك كله في سطور قليلة فخلاصته الواضحة أن الإيمان بالمحسوسات ينقص على أيدي التجارب العلمية نفسها ويحل محله إيمان بالغيب المجرد الذي لا يوصف بالمادية، أو كما قلنا في كتابنا «عقائد المفكرين»: إن القرن العشرين عصر الشك في الإلحاد والإنكار بمقدار ما كان القرن الذي قبله عصر الشك في الإيمان والنظر إلى الغيب المجهول.
Página desconocida