85

ويأتي أنكسغوراس بعد فيثاغوراس في الزمن والمكانة بين حكماء آسيا الصغرى، وهو الذي عمم كلام هيرقليطس عن الكلمة

Logos

وسماها

Nous

أي العقل ، ووصفه بأنه جوهر مجرد خالد واحد لا يتعدد، وأنه هو مصدر حركة دوارة تدفع ما خف إلى أعلى الكون، وتهبط بما سفل إلى مركزه، وما من شيء إلا وفيه أضداد حتى أصغر الذرات التي لا ترى بالعين، إلا العقل فإنه منزه عن التعدد والتناقض، وهو الله أو هو الصلة بين الله والعالم، ولا فرق بين العقل في الإنسان وفي الحيوان وفي الجماد إلا بالأداة التي يستخدمها، ولولا تفاوت الأجساد في إتقان الأداة لما اختلفت عقول البشر وعقول الحيوانات وعقول الحجارة الصماء.

والأثر الأكبر الذي يذكر لهذا الفيلسوف أنه كان أول من نقل الفلسفة من آسيا الصغرى إلى أثينا في أيام بركليس، وكانت أثينا قبل ذلك تتنكر للمباحث الفلسفية وتتهم من يبحثون فيها وينقطعون عن الشعائر الدينية، ولم يسلم أنكسغوراس من تعصب أهلها لأنهم سنوا قانونا يعاقب كل من يتعرض للأشياء «التي في العلى» ويهجر عبادة الأرباب الأولمبية وما جرى مجراها، واتهموه بالكفر؛ لأنه كان يقول بأن الشمس صخر محمي، وأن القمر كالأرض من تراب، ولولا بركليس لما نجا من مصير كمصير سقراط بعده بقليل.

وقبل أن ننتقل إلى المدرسة الأثينية الكبرى - وهي مدرسة سقراط وأفلاطون وأرسطو - نلم بمدارس ثلاث من مدارس الفلسفة التي كانت لها عناية خاصة، أو كان لها شأن خاص - بمسائل العقيدة الدينية، وهي مدرسة إيطاليا الجنوبية ومدرسة الرواقيين ومدرسة أبيقور، وبعض فلاسفة هذه المدارس لاحق للمدرسة الأثينية في الزمان.

ويرجع نشاط المدرسة الإيطالية أيضا إلى مدارس آسيا الصغرى؛ لأن فيثاغوراس وأكسينوفان هما صاحبا الفضل الأكبر في تنبيه الأذهان إلى مباحث الفلسفة في إيليا وصقلية بعد هجرتهما من وطنهما الأول، وقد نبغ هنالك كثير من أصحاب الآراء الفلسفية أجدرهم بالذكر في هذا المقام ثلاثة: هم بارمنيد وزينون وأمبدوقليس؛ لأنهم يمثلون كل ناحية من نواحي التفكير في مدارس إيطاليا الجنوبية.

ولباب مذهب بارمنيد أنه لا وجود لغير الواحد، وأن كل وجود غيره وكل ما نراه من التعدد والتغير إنما هو وهم الحس وخداع الظواهر، فلا تغيير ولا أضداد كما يقول هيرقليطس، وإنما هي حالة واحدة نراها على درجات ونحسبها لذلك من قبيل الأضداد، فالبرد قلة في درجة الحرارة، والظلام قلة في درجة الإضاءة، والمرض قلة في درجة الصحة، وقس على ذلك جميع الأضداد من هذا القبيل.

قال مدللا على بطلان التغيير: «كيف يتأتى أن الشيء الذي هو كائن يفقد الكينونة؟ وكيف يتأتى أن يكون بعد أن لم يكن؟ فإذا أحدث هذا الشيء فلا بد قبل حدوثه من زمن لم يكن فيه. وكذلك يقال إذا كان حدوثه سيبدأ في المستقبل، وأين تبحث عن أصل الشيء الذي هو كائن؟ وكيف ومتى يحدث نماؤه؟ لا أرى لك أن تقول: إنه يأتي من لا شيء، فإن اللاشيء لا يقبل التعبير، ولا يقبل التفكير.

Página desconocida