فما الله؟ هو الكون كله!
وما الكون كله؟ هو الله!
وهذا قصارى ما يؤخذ من «وحدة الوجود» وليس هو البحث المقصود، وكأنما التفسير النهائي لجملة الأشياء يلجئنا إلى «ذات» لا محالة تقصد وتريد، فلا تفسر القوى بالقوى ولا المعاني بالمعاني ولا الأكوان بالأكوان، ولكنك تفسرها جميعا «بذات» مريدة فيسمى ذلك تفسيرا تستريح إليه العقول، وشوبنهور نفسه يقرر أن الوجود فكرة وإرادة، وأن الفكرة هي القداسة الإلهية والإرادة هي مظاهرها الدنيوية، وأن الفكرة تدخل في حيز الإرادة لتعود إلى حالة لا سعي فيها ولا عنت ولا مجاهدة؛ لأن العنت كله من الإرادة في محاولاتها الكثيرة، فلا تفسير لشيء لا فكرة له ولا إرادة إلا بكيان يفكر ويريد، وليس تصور «الذات الإلهية» عادة إنسانية تعودها الإنسان بغير تفكير - كما يرى بعض النفسانيين - لأنه تعود أن يخلع صورته على الأشياء ويحسبها ظلالا له تحكيه في ملامحه وخوافيه، ولكنها نهاية ما يدركه العقل واعيا صاحيا مع التفكير ومتابعة التفكير إلى أقصى مداه.
مصر
رأينا في فصل سابق أن تعميم العقائد المشتركة كان مرتهنا بقيام الدول الواسعة التي تطوي فيها عقائد القبائل والشعوب وتتجاوز أطرافها حدود الأمة الواحدة، ونسميها في عصرنا هذا بالإمبراطوريات.
والدول التي كان لها القسط الأوفى من هذه المساهمة العامة هي مصر وبابل والهند والصين وفارس واليونان، وتضاف إليها اليابان لولا أنها في عزلتها قد أخذت أكثر مما أعطت، وقد تخلفت من جراء هذه العزلة عن بعض الأطوار التي سبقتها إليها الأمم المتصلة بالمعاملات والمبادلات، فتلبثت ببقايا الوثنية إلى مطلع العصر الحديث.
أما مصر فتاريخها في أطوار الاعتقاد هو تاريخ جميع الأطوار من أدناها إلى أعلاها بلا استثناء.
فشاعت فيها «الطواطم» في كلا الوجهين قبل اتحاد المملكة وبعد هذا الاتحاد، ويظن الكثيرون من علماء الأديان أن تقديس الصقر والنسر وابن آوي والقط والنسناس والجعل والتمساح وغير ذلك من فصائل الحيوان هي بقايا «طوطمية» تحولت مع الزمن إلى رموز، ثم فقدت معنى الرموز واندمجت في العبادات المترقية على شكل من الأشكال.
وشاعت فيها عقيدة الأرواح، فكان المصريون من أعرق الأمم التي آمنت بالروح، ثم آمنت بالبعث والثواب والعقاب بعد الموت، ورمزوا للروح «كا» تارة بزهرة، وتارة بصورة طائر ذي وجه آدمي، وتارة بتمساح أو ثعبان، وقالوا بأن الروح تتشكل بجميع الأشكال، ولكنهم لم يقولوا بتناسخ الأرواح، ولعل اختلاف الرموز من بقايا اختلاف الطواطم في زمان سابق لزمان الاعتقاد بالبعث والثواب والعقاب.
أما أثبت العبادات وأعمها وأقواها وأبقاها إلى آخر العصور فهي عبادة الموتى والأسلاف دون مراء، فإن عناية المصري بتشييد القبور وتحنيط الجثث وإحياء الذكريات لا تفوقها عناية شعب من الشعوب، وقد بقيت آثار هذه العبادة إلى ما بعد بزوغ الديانة الشمسية وتمثيل أوزيريس بالشمس الغاربة، ثم تغليبه على عالم الخلود وموازين الجزاء.
Página desconocida