ويجيء الماديون في الزمن الأخير فيحسبون أنهم جماعة تقدم وإصلاح للعقول وتقويم لمبادئ التفكير، والواقع أنهم في إنكارهم كل ما عدا المادة يرجعون القهقرى إلى أعرق العصور في التفكير، والواقع أنهم في إنكارهم كل ما عدا المادة يرجعون القهقرى إلى أعرق العصور في القدم، ليقولوا للناس مرة أخرى إن الوجود هو المحسوس، وإن المعدوم في الأنظار والأسماع معدوم كذلك في ظاهر الوجود وخافيه، وكل ما بينهم وبين همج البداءة من الفرق في هذا الخطأ - أن حسهم الحديث يلبس النظارة على عينيه ويضع المسماع على أذنيه!
ويحسبون على هذا أنهم يلتزمون حدود العلم الأمين حين يلتزمون حدود النفي ويصرون عليه في مسألة المسائل الكبرى، وهي مسألة الوجود، بل مسألة الآباد التي لا ينقطع الكشف عن حقائقها في مئات السنين ولا ألوف السنين ولا ملايين السنين. «لا» إلى آخر الزمان في هذه المسألة الكبرى، ونحن لا نستطيع أن نقول: «لا» إلى آخر الزمان في مسألة من مسائل الحجارة أو المعادن أو الأعشاب أو مسائل البيطرة وعلاج الأجسام.
وليس النوع البشري على أبواب محكمة يخاصم فيها من يثبتون أو ينكرون، ويتحداهم وهو جالس في مكانه أن يثبتوا له ما ينفيه ولا يهتدى إليه بالعين والمجهار ولكنه على الأقل أمام «معمل للتجارب» يبدأ فيه البحث ويعيده ثم يبدؤه ويعيده في كل عصر على ضوء جديد، وهو أمام الكون خاصة لم يكد يبدأ البحث في مسألة الآباد إلا منذ مئات معدودة من السنين، فياله من علم بديع هذا العلم الذي يقطع بالنفي إلى آخر الزمان، دون أن يتردد أو ينتظر مفاجآت الزمان.
والواقع أن العلم كله يقوم على أساس الإيجاب والترقب ولا يقوم على أساس النفي والإصرار. وما من حقيقة علمية إلا وهي تطوي في سجلها تاريخا طويلا من تواريخ الاحتمال والرجاء والأمل في الثبوت، وإن تكررت دواعي الشك بل دواعي القنوط، فبحث الإنسان عن العقاقير وبحث عن المعادن، وبحث عن الثمرات والغلات بروح ترتقب إيجابا وثبوتا ولا تنتقل من نفي إلى نفي ومن إصرار إلى إصرار، وهذه هي روح العلم أمام الصغائر من شئون البيوت والأسواق، فلماذا تكون روح العلم إصرارا محضا وإنكارا متلاحقا على غير أساس وبغير ترقب أو انتظار في نفي كبرى المسائل على الإطلاق؟
وأجدر الأزمنة أن يتبدل فيه هذا الموقف هو الزمن الذي تكشفت فيه الأجسام عن عنصرها الأول، فإذا هو إشعاع أو حركة في فضاء، فاقترب الوجود المادي نفسه من عالم المعقولات والمقدورات، وتقرر لنا أن الحواس لا تستوعب معنى الوجود في الصميم؛ لأن زوال العدم هو الصفة الوحيدة اللازمة للوجود، ولا يستلزم زوال العدم تجسما ولا تجرما ولا كثافة من هذه الكثافات التي تتمثل بها الأجسام للحواس، بل يكفي فيه حركة مقدورة أو معنى كأنه من طبيعة المعقولات، فما أضيق النطاق الذي بقي للحس الظاهر من أسرار الوجود، وما أحرانا أن نفسح للوعي الكوني وللبداهة مجالا يتسع مع الزمان، ولا نحبسه في نطاق يضيق ثم يضيق حتى يسقط من الحسبان.
والإنسان قد رأى نور الشمس والكواكب بعينه منذ مئات الألوف من السنين، ولم يقبس نور الكهرباء من ينبوع الضياء الكوني إلا في القرن الأخير، فتدرج من قدح الحجر إلى حك الحطب إلى فتيلة الدهن إلى غاز الاستصباح إلى نور الكهرباء في هذا الأمد الطويل من الدهور وراء الدهور.
فوعيه الباطن لم يقصر عن وعي عينيه في هذا الشوط البعيد؛ لأنه تنقل من عبادة الحصى والحشرات إلى عبادة الإله الواحد في بضعة آلاف من الدورات الشمسية، وجاز لنا أن نقول: إن ضميره كان أسرع من عينيه إلى اقتباس الضياء، وكان أقدر من فكره على مغالبة الظلام، وأي ظلام؟ إنه لم يكن ظلاما كظلام الليالي والكهوف يسلم مقاده لكل قادح زند أو نافخ عود، ولكنه كان ظلاما تجوس فيه مردة الجهل وشياطين العادات وأبالسة المطامع والشهوات، فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على حاجة الضمير إلى ذلك النور الذي اهتدى به، واهتدى إليه.
الله ذات
الله ذات واعية.
فلا يجوز في العقل ولا في الدين أن تكون له حقيقة غير هذه الحقيقة، وأن يوصف بأنه معنى لا ذات له أو قوة لا وعي لها كما وصف في بعض المذاهب النسكية - كالمذهب البوذي - الذي تفرع على البرهمية، ولا يخرج الباحث من مراجعته على وصف مستقر للمعنى الذي أرادوه.
Página desconocida