141

وهؤلاء هم الذين يقولون مع معروف الكرخي: إن التصوف هو معرفة الحقائق الإلهية، يكثر فيهم الاشتغال بالفلسفة وتأويل مذاهبها، ولكنهم ينقلونها من الفكر إلى الشعور ويحاولون أن «يحسوها» كإحساس المرء بالكائنات التي يتعلق بها الحب ويشهد عليها الجمال.

وكل فكرة يؤمن بها الصوفية تنطوي في فكرة واحدة أصيلة شاملة لكل ما عداها: وتلك هي بطلان الظواهر وقيام الحقيقة فيما وراءها.

فمن قديم الزمن قال الفلاسفة إن هذه المادة المتغيرة خداع من الحس وإن جوهر الوجود الصادق إنما هو العقل السرمدي الذي لا تغير فيه، أو هو الروح السرمدي كما يرى بعض الفلاسفة الذين يوحدون العقل والروح.

ولكن التصوف هو الشعور بهذه الحقيقة لا مجرد التفكير فيها، وسبيل المتصوف إلى ذلك هو الإعراض عن هذه الظواهر بالزهد فيها والتنصل منها، فهي الحجب التي تستر الحقيقة الإلهية عن النفس البشرية، وكلها باطل تتكشف عن وهم زائل؛ إذ لا موجود كما قال ابن عربي: «إلا الله، ولا يعرف الله إلا الله.»

ومنهم من يغلو فيقول بوحدة الوجود، ويقول: إن الله هو جميع هذه الموجودات، وإنها ليست فيه على سبيل التجزئة والتفرقة، ولكنها تكمن فيه كما يكمن الربع والنصف في الواحد، فليس هو كله، وليس هو منفصلا عنه، وليس هو موجودا على التحقيق، ولكنه موجود بالإضافة إلى وجود الله، أو أن وجوده كوجود الفرد بالنسبة إلى حقيقة النوع، فهو ليس بمعدوم، ولكنه لا يزيد تلك الحقيقة ولا ينفصل عنها.

وليس في الكون قبح أو شر عند هؤلاء المتصوفة إلا بالمقابلة بين بعض الموجودات وبعضها دون الوجود المطلق الذي لا يقبل التعيين والمقابلة، ولا توجد الأشياء بالنسبة إليه وجود الانفصال والتخصص والموافقة والنفور، كما قال بهاء الدين العاملي: «إن نجاسة الأشياء وتقذرها ليست وصفا ثابتا في أنفسها، فإن كل طبيعة متعينة لها ملاءمة بالنسبة إلى البعض ومنافرة بالنسبة إلى البعض الآخر، وذلك من آثار ما به الاشتراك وما به الاختلاف الواقع من التعيين، فأيهما غلب ظهر حكمه من الملاءمة والمنافرة، والنجاسة الواقعة في بعض الأشياء إنما هي بالنسبة إلى ما يقابلها من الطبائع التي وقعت بينها أسباب المخالفة، فهي لا تثبت لشيء إلا بالنسبة إلى ما يقابلها، لا بالنسبة إلى الإطلاق والمطلق، فهي وما يقابلها مما سمي نظافة على السوية بالنسبة للمطلق.»

والمتصوفة في النظر إلى هذه الأشياء فريقان: فريق يرى أن «الكشف» حاضر يتحقق باحتجاب هذه الموجودات الباطلة، ومنها معالم الشخصية الإنسانية، فإذا غاب الإنسان عن حسه وعن محسوساته فهو في حضرة الله، وإذا استولى الحق على قلب أخلاه من غيره كما قال الحلاج: «وإذا لازم أحدا أفناه عمن سواه»، وذاك هو الفناء في الله بلغة أبي يزيد البسطامي، أو حب الذات للذات كما يقول ابن الفارض:

وما زلت إياها وإياي لم تزل

ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت

ويستوي في هذا الشعور متصوفة الشرق والغرب من جميع الأديان، فانتفاء الشعور بالموجودات الباطلة هو الشعور بالله عندهم؛ لأن الشعور بالبطلان هو الذي يحجب الشعور بالحقيقة. قالت القديسة تريزا

Página desconocida