الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية
الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية
Editorial
دار القلم
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٣٨ هـ - ٢٠١٧ م
Ubicación del editor
بيروت - لبنان
Géneros
الكِفاية
في التَّفسيرِ بِالمأْثورِ والدِّراية
تأليف الفقير إلى رحمة ربه
د. عبدالله خضر حمد
الجزء الأول
المقدمة والتمهيد وتفسير سورة الفاتحة
الطبعة الأولى
١٤٣٨ هـ - ٢٠١٧ م
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
الرقم الدولي ISBN: ٩٩٥٣ - ٧٢ - ٧١٥ - ٥
1 / 1
الطبعة الأولى
١٤٣٨ هـ - ٢٠١٧ م
الناشر: دار القلم
بيروت - لبنان
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
1 / 2
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]. ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] [النساء: ١]. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
أما بعد:
يعد تفسير القرآن الكريم الركيزة المهمة لدارسي العلوم الإسلامية، والدراسات المرتكزة عليها، كالدراسات الاسلامية، والثقافة الإسلامية ... الخ، والتفسير هو فهم القرآن الكريم، وفق إحدى مدارس المفسرين، كالمدرسة اللغوية، والمدرسة الموضوعية، والمدرسة اإلعجازية، وتفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنّة النبوية، إلى غيرها من المدارس الأخرى، وتؤكد نتائج الدراسات التي أجريت أخيرًا حول موضوع تفسير القرآن ومصادره، كدراسة عبد العليم صبّاح (١٩٩٩)، ودراسة محمد عبد النبي محمود (٢٠٠٤)، وغيرها من الدراسات بأن دراسة التفسير لها أهمية كبيرة للطلبة في كافة مراحل التعليم، سواء على الصعيد الجامعي، أو التعليم في الدراسات العليا، وأكدّت هذه الدراسات على أن للتفسير دورًا كبيرًا في فهم مقصود المولى ﷿ في آياته في كافة الوقائع واألحداث، كما أشارت دراسة عبد الوافي المعلم (١٩٩٧)، بأن عن طريق دراسة تفسير القرآن الكريم يمكن الوقوف على بعض الألفاظ الغريبة في القرآن الكريم، ومعرفة أسباب نزول الآيات القرآنية الكريمة.
وقد أفرد الإمام القرطبي في مقدمة تفسيره بابًا سمّاه: " باب ما جاء في إعراب القرآن وتعليمه والحث عليه، وثواب من قرأ القرآن معربًا" (١)، ضمنه مجموعة من الأحاديث والأخبار التي تدل في مجموعها على تفضيل من قرأ القرآن معربًا وذم اللحن فيه وذلك "صونًا من تحريف الكلم عن مواضعه ودرءًا للخروج على مراد اهلل ﵎" (٢).
_________
(١) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: ١/ ٢٣.
(٢) مدرسة التفسير في الأندس، مصطفى إبراهيم المشني، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط ١، ١٩٨٦، ص: ٣٩٣.
1 / 3
ومن الأحاديث والأخبار في هذا الشأن ما رواه أبو هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه" (١).
وقال عبد الله بن مسعود ﵄: " جوّدوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات، وأعربوه فإنه عربي، والله يحب أن يعرب به" (٢).
وقال أبو بكر (٣)، وعمر (٤) ﵄: " لبعض إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ حروفه" (٥).
وقال ابن عمر: "أعربوا القرآن" (٦).
قال السيوطي: "والمقصود من الإعراب في هذه النصوص ليس ما اطلع به علماء النحو، وإنما المقصود تفسير ألفاظه وتوضيح معانيه وبيان غريبه" (٧).
فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله، وتفسير ذلك، وطلبه من مظانه، وتَعلُّم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ] [آل عمران: ١٨٧]، وقال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [آل عمران: ٧٧].
فذمّ الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله إليهم، وإقبالهم على الدنيا وجمعها، واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب الله، فعلينا أن ننتهي عما ذمَّهم الله تعالى
_________
(١) أخرجه ابن أبي شيبة (٦/ ١١٦)، وأبو يعلى الموصلي (٦٥٦٠): ص ١١/ ٤٣٦، والحاكم: ٢/ ٤٧٧، والبيهقي في شعب الإيمان: ٣/ ٥٤٨. وإسناده ضعيف.
(٢) النشر ١/ ٢١٠، وانظره في "الوجيز" للقرطبي ص ٨٨، ويؤيده ما رُوي عن البراء بن عازب من قول الرسول ﷺ: "زينوا القرآن بأصواتكم" وهو صحيح الإسناد. أخرجه أحمد ٤/ ٢٨٥، ٢٩٦، ٣٠٤، وأبو داود ٢/ ٧٤، برقم: ١٤٦٨، والنسائي ٢/ ١٧٩، ١٨٠، برقم: ١٠١٥، ١٠١٦، وابن ماجه ١/ ٤٢٦، برقم: ١٣٤٢، والدارمي ٢/ ٥٦٥، برقم: ٣٥٠٠، والحاكم في المستدرك ١/ ٥٧١ - ٥٧٥، والطيالسي في مسنده، انظر: منحة المعبود ٢/ ٣، برقم: ١٨٨٦.
(٣) هو: أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة بن عامر، خليفة رسول الله ﷺ وأفضل الأمة، وأحد المبشرين بالجنة، هو أشهر من أن يعرف. توفي سنة (١٣ هـ) وله (٦٣) سنة. وسيرته ومناقبه في أغلب كتب التاريخ، أفرد له المحب الطبري مجلدا خاصا من أربعة مجلدات في ترجمته للعشرة المبشرين بالجنة في كتابه المسمى (الرياض النضرة). [انظر: تذكرة الحفاظ: ١\ ٤، وشذرات الذهب: ١\ ٢٤].
(٤) هو: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح. لقبه رسول الله ﷺ بالفاروق، وتولى الخلافة بعد أبي بكر الصديق، ولقب بأمير المؤمنين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. قتله أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة سنة ٢٣ هـ، وعمره (٦٣) سنة. [انظر: تذكرة الحفاظ: ١\ ٨، وشذرات الذهب: ١\ ٣٣].
(٥) حكاه عنهما القرطبي في تفسيره: ١/ ٢٣، ولم أجده بهذا اللفظ وإنما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري فقال: ''أما بعد: فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي فتمعددوا فإنكم معديون''. أ. هـ. أي تشبهوا بجدكم معد بن عدنان، انظر: المصنف (١٠\ ٤٥٦).
(٦) أخرجه أبو علي الصواف في " الفوائد " (٣/ ١٦١/٢) وأبو علي الهروي في " الأول من الثاني من الفوائد " (١٨/ ٢) عن ليث عن طلحة بن مصرف عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله مرفوعا وإسناده ضعيف. انظر: السلسلة الضعيفة والموضوعة، للألباني: ٣/ ٥٢١.
(٧) الإتقان، السيوطي: ٢/ ٢٢٤.
1 / 4
به، وأن نأتمر بما أمرنا به، من تَعَلُّم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه، وتفهمه وتفهيمه، قال الله تعالى: [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [الحديد: ١٦، ١٧]. ففي ذكره تعالى لهذه الآية بعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما يحيي الأرض بعد موتها، كذلك يلين القلوب بالإيمان بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي، والله المؤمل المسؤول أن يفعل بنا ذلك، إنه جواد كريم.
المنهج في التفسير
المنهج لغة: نَهَجَ: الطريق الواضح و(المَنْهَجُ) و(المِنْهَاجُ) مثله و(نَهَجَ) الطريق (يَنْهَجُ) بفتحتين (نُهُوجًا) وضح واستبان و(أَنْهَجَ) بالألف مثله و(نَهَجْتُهُ) و(أَنْهَجْتُهُ) أوضحته يستعملان لازمين ومتعديين (١) نهج النهج: الطريق الواضح، وكذلك المنهج والمنهاج. وأنهج الطريق، أي استبان وصار نهجا واضحا بينا، قال يزيد بن الخذاق العبدى (٢):
ولَقَدْ أَضَاءَ لَكَ الطَّرِيقُ وأَنْهجَتْ ... سُبُلُ المَسَالكِ والهُدَى يُعْدِي
ونهجت الطريق، إذا أبنته وأوضحته، يقال: اعمل على ما نهجته لك، ونهجت الطريق أيضا، إذا سلكته. وفلان يستنهج سبيل فلان، أي يسلك مسلكه (٣)، وفي التنزيل ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (المائدة: ٤٨) (٤).
والمنهج اصطلاحًا: هو فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة، إما من أجل الكشف عن حقيقة حين نكون بها جاهلين، وإما من أجل البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين " (٥) وهذا تعريف عام لمنهج البحث العلمي والتعريف الاصطلاحي العام هو قريب من التعريف اللغوي لأن كليهما يعتمد على التوضيح والاستبانة للطريق.
ويعرف المنهج بأنه "أداة التربية ووسيلتها، وهو ذلك الطريق الواضح الذي يسلكه المربي أو المدرس مع مَنْ يربيهم لتنمية معارفهم، ومهاراتهم، واتجاهاتهم، أو هو مجموع الخبرات التربويّة، والثقافيّة، والاجتماعيّة، والرياضيّة، والفنيّة، التي يهيئها المدرس لتلاميذه داخل المدرسة وخارجها بقصد مساعدتهم على النّمو الشامل في جميع النواحي وتعديل سلوكهم طبقًا لأهدافها التربويّة" (٦).
_________
(١) مصباح المنير ٢/ ٦٢٧.
(٢) ديوان المفضليات، المفضل الضبي، تحقيق: احمد شاكر وعبدالسلام محمد هارون، دار المعرف، ط ٦: ١/ ٢٩٦.
(٣) صحاح تاج اللغة وصحاح العربية. تأليف: إسماعيل بن حماد الجوهري. تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار. الناشر: دار العلم للملايين - بيروت. الطبعة: الرابعة ١٤٠٧ هـ- ١٩٨٧ م. ١/ ٣٤٦، وابن منظور، لسان العرب (٢/ ٣٨٣).
(٤) ابن منظور، لسان العرب (٢/ ٣٨٣).
(٥) عبد الفتاح خضر، أزمة البحث العلمي في العالم العربي ص ١٢.
(٦) فلسفة التّربية: د. الدمرداش ود. منير، ١/ ٣٠١.
1 / 5
وانطلاقًا من هذا المفهوم الشامل للمنهج الدراسيّ المعاصر؛ فإنَّ للمنهج أربعة أركان رئيسية:
أولها: الأهداف التربويّة.
ثانيها: المادة العلميّة الشاملة للمعارف، وأوجه النشاط والخبرات التي تتكوّن منها مادة المنهج.
ثالثها: طُرق وأساليب التدريس المتبعة مع التلاميذ لدفعهم إلى التعلُّم وتحقيق أهدافه المرسومة.
رابعها: طُرق التقويم والقياس (١).
أمَّا المنهج الإسلاميّ فإنَّه يعرف بأنَّه قانون الحياة الذي أنزله الله سبحانه إلى الجنس الإنسانيّ ليحكّموه في حياتهم وشؤونهم المختلفة، وهو منهج يتجاوب مع الفطرة الإنسانيّة التي فطر الله تعالى الناس عليها، والله أعلم بها؛ لأنَّه خالقها، قال تعالى: [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: ١٤]، ذلك أنَّ الخالق أعلم بتصميم منهاج الحياة من الإنسان الذي يجهل طبيعة نفسه وطبيعة عقله، قال تعالى: [مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾ [الكهف: ٥١].
إنَّ الإنسان يعلم ما يبدو له من ظاهر الحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٧].
ومن هنا؛ فإنَّ الإطار العام لهذا المنهج التربويّ الربانيّ المُنْزَل في جميع الأديان متفق في تجاوبه مع الفطرة الإنسانيّة الكامنة في كل إنسان؛ لأنَّ الناس جميعًا صفتهم الفطرة مشتركة عقلًا، ونفسًا، وروحًا، وقلبًا، وجسمًا، فهو منهاج متكامل للإنسان في هذه المجالات الخمسة، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٣٠].
وبناءً على ما تقدّم؛ فإنَّا نقصد بـ "مناهج المفسّرين": "الطُرق التي يتبعها المفسِّرون في تفسير كتاب الله تعالى". ذلك أنَّ منهم الذي يعتمد على الرواية، ومنهم مَنْ يعتمد على الدّراية، ومنهم مَنْ يجمع بين الرواية والدّراية، ومنهم مَنْ يعتمد على الفهم الشَّخصيّ والمجال الذي تخصَّص فيه.
ومن هنا برزت عدّة مسمّيات، منها: "التَّفسير بالمأثور"، "التَّفسير الموضوعيّ"، "التَّفسير الصوفيّ الإشاريّ"، "التَّفسير الصوفيّ النَّظريّ"، "التفسير العلميّ"، و"التَّفسير البدعيّ" الذي يؤول كلام الله ويحمّله معاني فاسدة وبعيدة عن النَّص القرآنيّ الكريم.
إن أصح الطرق في ذلك أن يُفَسَّر القرآن بالقرآن، ومن ثم بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، كما قال الشافعي-﵀: "كل ما حكم به رسول الله ﷺ فهو مما فهمه من القرآن. قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: ١٠٥]، وقال تعالى: ﴿وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: ٦٤] " (٢).
_________
(١) مناهج الدّراسات الإسلامية: د. عابدين توفيق، ١/ ٣٢.
(٢) مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية: ١٣/ ٣٦٣، وتفسير ابن كثير: ١/ ٤.
1 / 6
وعن أيوب السختياني أن رجلا قال لمطرف بن عبد الله بن الشخير -وهو من كبار التابعين (ت ٩٥ هـ): لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال له مطرف: "والله ما نريد بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا" (١).
وقال مكحول الشامي -وهو من ثقات التابعين وفقهائهم- (ت ١١٣ هـ): "القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن" (٢).
وعن حسان بن عطية -وهو أحد ثقات التابعين، مات بعد سنة ١٢٠ هـ- قال: "كان الوحي ينزل على رسول الله ﷺ، ويحضره جبريل بالسنة التي تفسر ذلك" (٣).
وقال يحيى بن أبي كثير -وهو من صغار التابعين الثقات الأثبات، ت ١٢٩ هـ-: "السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السنة" (٤).
_________
(١) أخرجه أبو خيثمة في (كتاب العلم) ص ٤١ رقم (٩٧)، وابن عبد البر في (جامع بيان العلم) ص ٥٦٣.
(٢) أخرجه المروزي في (السنة) رقم (١٠٤)، وابن شاهين في (شرح مذاهب أهل السنة) رقم (٤٨)، وابن بطة في (الإبانة الكبرى) رقم (٨٩)، والخطيب في (الكفاية) ص ١٤، وأورده ابن عبد البر في (جامع ببان العلم) ص ٥٦٣، وعزاه إلى سعيد بن منصور.
وجاء هذا عن الإمام الأوزاعي -راويه عن مكحول، وهو من كبار أتباع التابعين، وأئمة الفقه المشهورين، ت ١٥٧ هـ- أنه قال: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب". أورده ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) ص ٥٦٣، وعلق عليه فقال: "يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه، وهذا نحو قولهم: ترك الكتاب موضعا للسنة، وتركت السنة موضعا للرأي".
وجاء أيضا عن حماد بن زيد -وهو من أتباع التابعين، مات سنة ١٧٩ هـ- قال: " إنما هو الكتاب والسنة، والكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب" أخرجه الخطيب في (الفقيه والمتفقه) ١: ٢٣١ رقم (٢٣١).
(٣) أخرجه بهذا اللفظ: ابن عبد البر في (جامع بيان العلم) ص ٥٦٣، وذكره القرطبي في تفسيره ١: ٣٩.
وأخرجه الخطيب في (الكفاية) ص ١٥، ولفظه: (كان جبرائيل ينزل على النبي ﷺ بالقرآن، والسنة تفسر القرآن).
وأخرجه الدارمي رقم (٥٨٨) في المقدمة: باب السنة قاضية على كتاب الله، والمروزي في (السنة) رقم (١٠٢) (٤٠٢)، ونعيم بن حماد في زوائده على (الزهد) ص ٤٣٩ رقم (٩١)، وابن بطة في (الإبانة الكبرى) رقم (٩٢)، واللالكائى في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) ١: ٨٣ رقم (٩٩) والخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) ١: ٢٦٦ - ٢٦٧ رقم (٢٦٨) (٢٦٩) (٢٧٠)، وفي (الكفاية) ص ١٢ بنحوه. وصحح إسناده ابنُ حجر في (فتح الباري) ١٣: ٣٠٥.
(٤) أخرجه الدارمي رقم (٥٨٧) في المقدمة: باب السنة قاضية على كتاب الله، والمروزي في (السنة) رقم (١٠٣)، وابن شاهين في (شرح مذاهب أهل السنة) رقم (٤٧)، وابن بطة في (الإبانة الكبرى) رقم (٩٠) (٩١)، والخطيب في (الكفاية) ص ١٤. وأورده ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث) ص ٣٨٠ وعلق عليه فقال: "أراد أنها مبينة للكتاب، منبئة عما أراد الله تعالى فيه". وأورده السيوطي في (مفتاح الجنة) ص ٩١، وعقب عليه فقال: "قال البيهقي: ومعنى ذلك أن السنة مع الكتاب أقيمت مقام البيان عن الله،كما قال الله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، لا أن شيئًا من السنن يخالف الكتاب".
قلت -القائل السيوطي-: "والحاصل أن معنى احتياج القرآن إلى السنة؛ أنها مبينة له، ومفصلة لمجملاته، لأن في لِوَجازته كنوز تحتاج إلى من يعرف خفايا خباياها فيبرزها، وذلك هو المنزل عليه ﷺ، وهو معنى كون السنة قاضية عليه، وليس القرآن مبينا للسنة ولا قاضيا عليها، لأنها بينة بنفسها إذ لم تصل إلى حد القرآن في الاعجاز والإيجاز، لأنها شرح له، وشأن الشرح أن يكون أوضح وأبين وأبسط من المشروح، والله أعلم".
وجاء هذا عن الأوزاعي قال: "إن السنة جاءت قاضية على الكتاب، ولم يجيء الكتاب قاضيا على السنة". أخرجه الحاكم في (معرفة علوم الحديث) ص ٦٥.
وقال الفضل بن زياد: سمعت أحمد بن حنبل -وسئل عن الحديث الذي روي أن السنة قاضية على الكتاب- قال: "ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكن السنة تفسر الكتاب، وتعرف الكتاب، وتبينه). أخرجه الخطيب في (الكفاية) ص ١٤ - ١٥، وأورده ابن عبد البر في (جامع بيان العلم) ص ٥٦٤، والقرطبي في تفسيره ١: ٣٩.
وجاء في (مسائل الإمام أحمد) رواية ابنه عبد الله رقم (١٥٨٦): "قال عبد الله: سألت أبي، قلت: ما تقول في السنة تقضي على الكتاب؟ قال: قد قال ذلك قوم منهم مكحول والزهري. قلت: فما تقول أنت؟ قال: أقول: السنة تدل على معنى الكتاب". وأخرجه الخطيب في (الفقيه والمتفقه) ١: ٢٣٠ - ٢٣١.
وفهم ابن القيم من عبارة الإمام أحمد معنى الإنكار، فقال في (الطرق الحكمية) ص ١٠٧: "وقد أنكر الإمام أحمد على من قال: السنة تقضي على الكتاب، فقال: بل السنة تفسر الكتاب وتبينه".
1 / 7
وقال الإمام الطبري ﵀: "تأويلُ القرآن غيرُ مدرك إلا ببيان من جعل الله إليه بيان القرآن" (١).
وقال ابن تيمية ﵀: "اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة الدين؛ أن السنة تُفَسِّر القرآن، وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عن مجمله" (٢).
وقال الشاطبي ﵀: "لا ينبغي في الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر في شرحه وبيانه، وهو: السنة" (٣).
ولهذا قال رسول الله ﷺ: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" (٤)، قال ابن القيم ﵀ معلقا على الحديث: "هذا هو السنة بلا شك" (٥)، وقال ابن كثير: "يعني: السنة، والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي، كما ينزل القرآن؛ إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن" (٦)، إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن، وقد استدل الإمام الشافعي، ﵀ وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك.
والغرض أنك تطلب تفسيرَ القرآن منه، فإن لم تجدْه فمن السنة، كما قال رسولُ الله ﷺ لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "بم تحكم؟ ". قال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد؟ ". قال: بسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد؟ ". قال: أجتهد برأيى. قال: فضرب رسول الله ﷺ في صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفَّق رَسُولَ رسولِ الله لما يرضى رسول الله" (٧)، وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد، كما هو مقرر في موضعه، وحينئذ،
_________
(١) تفسير الطبري ٢: ١٨١.
(٢) مجموع الفتاوى ١٧: ٤٣٢.
(٣) الموافقات ٣: ٣٦٩.
(٤) رواه الإمام أحمد في المسند (٤/ ١٣١)، وأبو داود في السنن برقم (٤٦٠٤)، والبيهقي في السنن الكبرى ٩/ ٣٣٢، والطبراني في "الكبير" (٢٠/ ٢٨٣)، والمروزي في السنة (٤٠٣، ٢٤٤)؛ والخطيب في الكفاية (١/ ٨٠)؛ وابن عبد البر في التمهيد (١/ ١٤٩ - ١٥٠)، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان ١/ ١٨٨ رقم (١٢)، والطحاوي في (شرح معاني الآثار) ٤/ ٢٠٩، من حديث المقدام بن معدى كرب، ﵁، وصححه العلامة الألباني في "مشكاة المصابيح" (١/ ٥٧/ ١٦٣).
(٥) التبيان في أقسام القرآن ص ١٥٦.
(٦) تفسير ابن كثير: ١/ ٧.
(٧) رواه الإمام أحمد في المسند (٥/ ٢٣٠) وأبو داود في السنن برقم (٣٥٩٢) والترمذي في السنن برقم (١٣٢٨) من طرق عن شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ به، وقال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل، وأبو عون الثقفي اسمه محمد بن عبيد الله". وللشيخ ناصر الألباني مبحث ماتع بين فيه كلام العلماء في نقد الحديث. انظر: السلسلة الضعيفة برقم (٨٨١).
1 / 8
إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعبد الله بن مسعود، ﵁، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا جابر بن نوح، حدثنا الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود -: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت؟ وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم، بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته (١).
وقال الأعمش أيضًا، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن" (٢).
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي ﷺ، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا" (٣).
ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس، ابن عم رسول الله ﷺ، وترجمان القرآن وببركة دعاء رسول الله ﷺ له حيث قال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" (٤).
قال ابن مسعود: "نعْم ترجمان القرآن ابنُ عباس" (٥).
فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود: أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة. وقد مات ابن مسعود، ﵁، في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح، وعُمِّر بعده ابن عباس ستًا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟ .
وقال الأعمش عن أبي وائل: "استخلف علِيّ عبد الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة، [وفي رواية: سورة النور]، ففسرها تفسيرًا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا" (٦).
ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره، عن هذين الرجلين: عبد الله بن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول الله ﷺ حيث قال: "بَلِّغوا عني ولو آية، وحَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومن كذب عَلَىَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه
_________
(١) تفسير الطبري (١/ ٨٠) وجابر بن نوح ضعيف لكنه توبع، فرواه البخاري في صحيحه برقم (٥٠٠٢) عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش به.
(٢) رواه الطبري في تفسيره (١/ ٨٠) من طريق الحسين بن واقد عن الأعمش به.
(٣) رواه الطبري في تفسيره (٨٢): ص ١/ ٨٠، إسناده صحيح.
(٤) رواه الإمام أحمد في المسند (١/ ٢٦٦، ٣١٤، ٣٢٧) وأصله في صحيح البخاري برقم (٧٥).
(٥) أخرجه الطبري في تفسيره (١٠٥): ص ١/ ٩٠.
(٦) رواه الطبري في تفسيره (٨٥)، و(٨٦): ص ١/ ٨١، والفسوي في تاريخه: ١/ ٤٩٥، من طريق الأعمش به.
1 / 9
البخاري عن عبد الله (١)، ولهذا كان عبد الله بن عمرو يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك.
وتجدر الإشارة بأن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، كما أنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدّتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم. ولكن نَقْلُ الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ [الكهف: ٢٢]، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث، فدل على صحته إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما، ثم أرشد على أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فقال في مثل هذا: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾ فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس، ممن أطلعه الله عليه، فلهذا قال: ﴿فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا﴾ أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته، لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشتغل به عن الأهم فالأهم. فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضًا. فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالا متعددة لفظًا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيع الزمان، وتكثر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور، والله الموفق للصواب.
قال سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد: "كان ابن عباس إذا سئل عن الآية في القرآن قال به، فإن لم يكن وكان عن رسول الله ﷺ أخبر به، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، ﵄، فإن لم يكن اجتهد برأيه" (٢).
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جَبْر، فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد
_________
(١) صحيح البخاري (٣٢٧٤): ص ٣/ ١٢٧٥، ومسند الإمام احمد (٦٤٥٠): ص ٢/ ١٥٩.
(٢) سنن الدارمي (١٦٨): ص ١/ ٢٦٥.
1 / 10
بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح، عن مجاهد، قال: عَرضْتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها" (١).
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا طَلْق بن غنام، عن عثمان المكي، عن ابن أبي مُلَيْكَة قال: "رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله" (٢).
ولهذا كان سفيان الثوري يقول: "إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به" (٣).
وكسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق ابن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مُزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ، يحسبها من لا علم عنده اختلافًا فيحكيها أقوالا وليس كذلك، فإن منهم من يعبّر عن الشيء بلازمه أو بنظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي.
وقال شعبة بن الحجاج وغيره: "أقوال التابعين في الفروع ليست حجة؟ فكيف تكون حجة في التفسير؟، يعني: أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك " (٤).
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام (٥)، لما رواه محمد بن جرير، ﵀، بسنده عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: " من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار " (٦).
وفي رواية أخرى: "من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ " (٧).
لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ، لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرمًا ممن أخطأ، والله أعلم، وهكذا سمى الله القَذَفة كاذبين، فقال: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النور: ١٣]، فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر، لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، ولو كان أخبر بما يعلم، لأنه تكلف ما لا علم له به، والله أعلم.
_________
(١) رواه الطبري في تفسيره (١٠٨) (ص ١/ ٩٠).
(٢) تفسير الطبري (١٠٧) ص ١/ ٩٠.
(٣) أخرجه الطبري في تفسيره (١٠٩): ص ١/ ٩١ من طريق أبي بكر الحنفي سمعت سفيان فذكره.
(٤) تفسير ابن كثير: ١/ ١٠، وانظر: تفسير البغوي: ١/ ١٧، ومقدمة في أصول التفسير ص: ٥٠،
(٥) انظر: شرح مقدمة التفسير: لابن تيمية: ١/ ١٣٩.
(٦) تفسير الطبري (٧٤) ص ١/ ٧٧، وأخرجه الترمذي في سننه: (٢٩٥٢)، وقال حديث حسن، والنسائي في سنن النسائي الكبرى (٨٤ ٨٠)، وأبو داود في سننه (٣٦٥٢)، والحديث مداره على عبد الأعلى بن عامر قال أبو زرعة: ضعيف، وتركه ابن مهدي.
(٧) تفسير الطبري (٨٠) ص ١/ ٧٩. وانظر: سنن أبي داود برقم (٣٦٥٢) وسنن الترمذي برقم (٢٩٥٣)، قال الترمذي: غريب، وسنن النسائي الكبرى برقم (٨٠٨٦).
1 / 11
ولهذا تَحَرَّج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن أبي مَعْمَر، قال: قال أبو بكر الصديق، ﵁: أيّ أرض تقلّني وأي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب" الله ما لا أعلم" (١).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمد بن يزيد، عن العَوَّام بن حَوْشَب، عن إبراهيم التَّيْمِي، أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ [عبس: ٣١]، فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني؟ إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. منقطع (٢).
وقال أبو عبيد أيضًا: "حدثنا يزيد، عن حميد، عن أنس، أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ [عبس: ٣١]، فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر" (٣).
وقال عَبْد بن حُمَيْد: "حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، قال: كنا عند عمر بن الخطاب، ﵁، وفي ظهر قميصه أربع رقاع، فقرأ: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف فما عليك ألا تدريه" (٤).
وهذا كله محمول على أنهما، ﵄، إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل، لقوله: ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا﴾ الآية [عبس: ٢٧، ٢٨].
وأخرج الطبري بسنده الصحيح عن ابن أبي مُلَيْكَة: "أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها" (٥).
وقال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، قال: "سأل رجل ابن عباس عن ﴿يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [السجدة: ٥]، فقال له ابن عباس: فما ﴿يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: ٤]؟ فقال له الرجل: إنما سألتك لتحدثني. فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه، الله أعلم بهما. فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم" (٦).
وأخرج - أيضًا - ابن جرير الطبري: عن مَهْدي بن ميمون، عن الوليد بن مسلم، قال: "جاء طَلْق بن حبيب إلى جُنْدُب بن عبد الله، فسأله عن آية من القرآن؟ فقال: أحرِّج عليك إن كنت مسلمًا إلا ما قمتَ عني، أو قال: أن تجالسني" (٧).
وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: "إنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن، قال: لا أقول في القرآن شيئًا" (٨).
_________
(١) رواه الطبري في تفسيره (٧٩): ص (١/ ٧٨).
(٢) فضائل القرآن (ص ٢٢٧) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٠/ ٥١٣) عن محمد بن عبيد عن العوام بن حوشب به.
(٣) فضائل القرآن (ص ٢٢٧) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١٠/ ٥١٢) عن يزيد به، ورواه الحاكم في المستدرك (٢/ ٥١٤) من طريق يزيد عن حميد به، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
(٤) ورواه ابن سعد في الطبقات (٣/ ٣٢٧)، ورواه البخاري في صحيحه برقم (٧٢٩٣) عن سليمان بن حرب به مختصرًا ولفظه: "نهينا عن التكلف".
(٥) تفسير الطبري (٩٨): ص ١/ ٨٦.
(٦) فضائل القرآن: ٢٢٨.
(٧) تفسير الطبري (٩٩): ص ١/ ٨٦.
(٨) رواه الطبري في تفسيره (٩٣): ص ١/ ٨٥، من طريق ابن وهب عن مالك به.
1 / 12
وقال الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: "إنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن" (١).
وقال شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، قال: "سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال: لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء، يعني: عكرمة" (٢).
وقال ابن شَوْذَب: حدثني يزيد بن أبي يزيد، قال: "كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت، كأن لم يسمع" (٣).
وأخرج ابن جرير الطبري بسنده عن عبيد الله بن عمر، قال: "لقد أدركتُ فقهاء المدينة، وإنهم ليعظِّمون القول في التفسير، منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع" (٤).
وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن هشام بن عُرْوَة، قال: "ما سمعت أبي تَأوَّل آية من كتاب الله قط" (٥).
وقال أيوب، وابن عَوْن، وهشام الدَّسْتوائِي، عن محمد بن سيرين: "سألت عبَيدة السلماني، عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن؟ فاتَّق الله، وعليك بالسداد" (٦).
وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ، عن ابن عون، عن عبد الله بن مسلم بن يسار، عن أبيه، قال: "إذا حدثت عن الله فقف، حتى تنظر ما قبله وما بعده" (٧).
حدثنا هُشَيْم، عن مُغيرة، عن إبراهيم، قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه (٨).
وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السَّفْر، قال: "قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله ﷿" (٩).
وقال أبو عبيد: حدثنا هشيم، حدثنا عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن مسروق، قال: "اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله" (١٠).
_________
(١) رواه الطبري في تفسيره (٩٥): ص ١/ ٨٦، من طريق ابن وهب عن مالك به.
(٢) رواه الطبري في تفسيره (١٠١): ص ١/ ٨٧، وابن أبي شيبة في المصنف (١٠/ ٥١١) من طريق محمد بن جعفر عن شعبة به.
(٣) رواه الطبري في تفسيره (١٠٠): ص (١/ ٨٦) عن العباس بن الوليد عن أبيه عن ابن شوذب به.
(٤) تفسير الطبري (٩٢): ص ١/ ٨٥.
(٥) فضائل القرآن: ٢٢٩.
(٦) رواه الطبري في تفسيره (٩٧): ص ١/ ٨٦، من طريق ابن علية عن أيوب وابن عون به.
(٧) فضائل القرآن: ٢٢٩.
(٨) فضائل القرآن (ص ٢٢٩) ورواه أبو نعيم (٤/ ٢٢٢) من طريق جرير عن المغيرة به.
(٩) فضائل القرآن (ص ٢٢٩).
(١٠) جاء من حديث أبي هريرة، ومن حديث أنس، وأبي سعيد الخدري، ﵃. أما حديث أبي هريرة، فرواه أحمد في المسند (٢/ ٢٦٣) وأبو داود في السنن برقم (٣٦٥٨) والترمذي في السنن برقم (٢٦٤٩) وابن ماجة في السنن برقم (٢٦١) من طريق علي ابن الحكم عن عطاء عن أبي هريرة، وقال الترمذي: "حديث حسن". وأما حديث أنس، فرواه ابن ماجة في السنن برقم (٢٦٤) من طريق يوسف بن إبراهيم عن أنس، وقال البوصيري في الزوائد (١/ ١١٧): "هذا إسناد ضعيف". وأما حديث أبي سعيد، فرواه ابن ماجة في السنن برقم (٢٦٥) من طريق محمد بن داب عن صفوان بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبي سعيد، وقال البوصيري في الزوائد (١/ ١١٨): "هذا إسناد ضعيف".
1 / 13
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا، فلا حرج عليه، ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة، لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧]، ولما جاء في الحديث المروى من طرق: "من سئل عن علم فكتمه، ألْجِم يوم القيامة بلجام من نار" (١).
فأما الحديث الذي رواه أبو جعفر بن جرير بسنده عن عائشة، قالت: لم يكن النبيُّ ﷺ يفسر شيئًا من القرآن، إلا آيًا بعَددٍ، علمهنّ إياه جبريل ﵇" (٢). فإنه حديث منكر غريب (٣).
وتكلَّم عليه الإمام أبو جعفر بما حاصله أن هذه الآيات مما لا يعلم إلا بالتوقيف عن الله تعالى، مما وقفه عليها جبريل. وهذا تأويل صحيح لو صح الحديث، فإن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعذر أحد في جهله، كما صرح بذلك ابن عباس في رواية الأعرج عنه: " التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله" (٤).
قال ابن جرير: "وقد روى نحوه في حديث في إسناده نظر: حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي، أنبأنا ابن وهب قال: سمعت عمرو بن الحارث يحدث عن الكلبي، عن أبي صالح، مولى أم هانئ، عن عبد الله بن عباس: أن رسول الله ﷺ قال: "أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال وحرام، لا يعذر أحد بالجهالة به. وتفسير تفسره [العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ﷿، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب" (٥).
والنظر الذي أشار إليه في إسناده هو من جهة محمد بن السائب الكلبي؛ فإنه متروك الحديث؛ لكن قد يكون إنما وهم في رفعه. ولعله من كلام ابن عباس، كما تقدم، والله أعلم بالصواب.
والطَّرِيقةُ التي اتَّبعها في التفسير:
أولا: ذكر الروايات حول اسم السورة.
_________
(١) تفسير الطبري (٢٣٧٥): ص ١/ ٨٤، ورواه أبو يعلى في مسنده (٨/ ٢٣) من طريق معن القزاز عن فلان بن محمد بن خالد، عن هشام بن عروة به، ورواه البزار في مسنده برقم (٢١٨٥) "كشف الأستار" عن محمد بن المثنى، عن محمد بن خالد بن عثمة، عن حفص - أظنه ابن عبد الله - عن هشام عن أبيه به.
(٢) تفسير الطبري (٩١): ص ١/ ٨٤.
(٣) انظر: حاشية تفسير الطبري: ١/ ٨٤.
(٤) تفسير الطبري (٧١): ص ١/ ٧٥.
(٥) تفسير الطبري (٧٢): ص ١/ ٧٦.
1 / 14
ثانيا: ذكر مكان نزولها وعدد آياتها، وسبب نزولها -إن وجد-.
ثالثا: أغراض السورة ومحتويات السورة وفضائلها-إن وجد-.
رابعا: تفسير السورة: أذكر الآيةَ، ثم أذكر مَعْناها العام (١)، ثم أقوم بتَفْسيرَها من القُرْآن أو من السُّنَّة أو من أقوال الصحابة والتَّابعين، وأحْيانًا أذكر كل ما يتعلَّق بالآية من قضايا أو أحْكام، مع ذكر الأدِلةَ من الكِتَاب والسُّنة، وأقْوَال المذاهب الفِقْهِيَّة وأدِلتَهَا والتَّرْجِيحَ بَيْنَها.
خامسا: الاهتمام باللغة وعلومها، والإحتكام كثيرًا عند الترجيح والاختيار إلى المعروف من كلام العرب، والإعتماد على أشعارهم، والرجوع إلى مذاهبهم النحوية واللغوية.
سادسا: إختيار مذهب السلف في إثبات الصفات وإمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل.
سابعا: إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله.
ثامنا: الإضراب عن كثير من قصص المفسرين وأخبار المؤرخين إلا ما لا بد منه، وما لا غنى عنه للتبيين.
تاسعا: تقدير الإجماع وإعطائه اعتبارا كبيرًا في الإختيار والترجيح.
عاشرا: بيان أوجه القراءات السورة.
الحادي عشر: ذكر فوائد كل آية (٢).
الثاني عشر: الإعجاز البياني والدراسة الأسلوبية للسورة: إذ خصصت مبحثا للدراسة الأسلوبية لكل سورة، مبينا الظواهر الأسلوبية في المستويات (التركيبية والدلالية والصوتية). وذلك في مجلد خاص نهاية التفسير.
كما تولدت رغبتنا في تخصيص مهاد عام حول (علوم القرآن واتجاهات التفسير)، وذلك من خلال فصلين:
الفصل الأول: مهاد عام حول علوم القرآن، وقد اختص بشرح مفاهيم مفردات علوم القرآن الكريم، وبعد تعريف القرآن الكريم لغة واصطلاحا تناول البحث المواضيع الآتية:
(أولا: - مفهوم الوحي، ثانيا: - نزول القرآن، ثالثا: - مراحل جمع القرآن الكريم وترتيبه، رابعا: - المكي والمدني، خامسا: - أسباب النزول، سادسا: - المحكم والمتشابه في القرآن الكريم، سابعا: -الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، ثامنا: - القراءات، تاسعا: - الإسرائيليات، عاشرا: - تفسير القرآن وشرفه، حادي عشر: إعجاز القرآن، ثاني عشر: - ترجمة القرآن الكريم بغير لغته، الثالث عشر: - فضائل القرآن).
الفصل الثاني: فقد اختص بعلوم التفسير واتجاهاته، وذلك من خلال محورين:
المحور الأول: تناولنا فيه أنواع التفسير وذلك من خلال محاور:
(١ - التفسير بالمأثور، ٢ - التفسير بالدراية، ٣ - التفسير الإشاري).
في حين تطرقنا في المحور الثاني الى: اتجاهات التفسير، وذلك من خلال العناوين الآتية:
_________
(١) وذلك معتمدا على كتاب: التفسير الميسر، نخبة من أساتذة التفسير، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف - السعودية، الطبعة: الثانية، مزيدة ومنقحة، ١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م.
(٢) أخذت جلّها من تفسير ابن عثيمين، مع تصرف بسيط وبعض الإضافات فيها.
1 / 15
(١ - الاتجاه اللغوي، ٢ - الاتجاه العلمي، ٣ - الاتجاه الموضوعي، ٤ - الاتجاه الفقهي، ٥ - الاتجاه البلاغي).
وفي الخاتمة: استظهرنا أهم النتائج التي توصلنا إليها في هذا التمهيد.
أقولُ ذلك ملتمِسًا العُذْرَ مِنْ عالِمٍ سَقَط عَلَى زَلَل، أو قارئ وَقَعَ على خَطَأ، فَمِثْل هذَا العَمَلِ الكبِير لا بُدَّ أنْ تَظْهرَ فيهِ بَعْض الأخطاءِ المطبعيةِ، والأوْهامِ الْيَسِيرةِ، وصَدَقَ المُزَنيُّ ﵀ حين قال: "لَوْ عُورضَ كتابٌ سَبْعينَ مرةً لَوُجِدَ فيه خَطَأ، أبَى اللهُ أن يكون صَحِيحًا غَيْر كِتابِهِ"، فالمرْجُو من أهْلِ العِلْمِ أن يُرْسِلُوا لِي ما لَدَيْهِم من مُلاحظاتٍ أو اسْتِدْراكٍ أو تَعْقِيبٍ حتى أتدَاركَ ذلك في الطبعةِ اللاحقةِ إن شَاءَ اللهُ.
ولا أنْسَى في خِتَامِ كَلِمَتي أنْ أرْفَعَ شُكْرِي إلى مَقَامِ والديَّ الَّلذَيْنِ كان لهما الفَضْلُ في تَنْشِئَتِي، وإرْشَادِي إلى العِلْمِ وحُبِّهِ، والاجْتِهادِ فِي طَلَبِهِ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا﴾ [نوح: ٢٨].
واللهَ أسْألُ أنْ يَنْفعَ به الجميعَ، وأنْ يجْعَلَهُ خالصًا لِوجْهِهِ الْكَرِيم، وأنْ يَكُونَ من الثَّلاث التي يَنْقطِعُ عَمَلُ ابْنِ آدمَ إذا مات إلا مِنْها، وأنْ يكْتُبَ لجميع من أسْهَمَ فيه الأجْرَ والمثوبَةَ، إنه وَلِيُّ ذلك والقادِرُ عليه، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِه أجْمَعينَ. وكتبه:
عبدالله بن خضر بن حمد بن بيرداود
العراق/ أربيل: ٢/ شعبان/ ١٤٣٨ هـ
1 / 16
الفصل الأول
مهاد عام حول علوم القرآن
توطئة
لقد فصل أبو شهبة في كتابه، المدخل لدراسة القرآن الكريم، المعنى المقصود بعلوم القرآن (١)، إذ بدأ أولا بكلمة علوم، فذكر أن معنى العلم _مفرد علوم_ في اصطلاح أهل التدوين، "جمله من المسائل المضبوطة بجهة واحدة" (٢)، والعلم في اللغة نقيض الجهل، وهو مصدر مرادف للفهم والمعرفة والإدراك، ويراد به إدراك الشيء على حقيقته، ثم نُقل بمعنى المسائل المختلفة المضبوطة ضبطًا علميًا والمتعلقة بعلم ما، ومن أحسن ما قيل في كلمة العلم أنها أشهر من أن تعرف.
وإن تعريف القرآن عند الأصوليين والفقهاء "هو كلام الله المنزل على نبيه محمد ﷺ، المعجز بلفظه، المتعبد بتلاوته، المنقول بالتواتر، المكتوب في المصاحف، من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس" (٣). تخصيص التعريف بهذا الشكل يخرج منه الكتب السماوية الأخرى _التي لم تنزل على محمد ﷺ، وتخرج أيضا الأحاديث القدسية التي هي أيضا لفظا من الله تعالى، لكنها غير معجزة ولا يتعبد بتلاوتها (٤).
أما المركب الإضافي، علوم القرآن، فمكون من كلمتين، كلمة علوم وقرآن.
وقد عرف الكفافي والشريف علوم القرآن بأنه (٥): علم أو دراسة تدور حول أي جانب من جوانب القرآن الكريم، وهذا يتضمن علوم كثيرة مثل علم: رسم القرآن، إعراب القرآن، تفسير القرآن، أسباب النزول، المكي والمدني، الناسخ والمنسوخ، غريب القرآن، القراءات، فضل القرآن، الأحرف السبعة، مجاز القرآن، أقسام القرآن، أمثال القرآن، حجج القرآن، نزول القرآن وتنجيمه، جمع القرآن وكتابته، المصاحف العثمانية، فواتح السور، المحكم والمتشابه، إعجاز القرآن، تشبيه القرآن واستعاراته، الإعجاز في نغم القرآن، ترجمة القرآن، ترتيب القرآن، العام والخاص، المطلق والمقيد، المنطوق والمفهوم، جدل القرآن، قصص القرآن، وغيرها (٧).
وأوضح الدكتور زرزور (٦) أن هذه العلوم من الأجدر أن تسمى"علوم التفسير" أو "علوم تفسير القرآن"، لأن غرضها الرئيسي إنما هو لتسهيل فهم وتفسير القرآن. وقد دعم رأيه هذا بأن كتب التفسير الكبيرة عادة ما تشتمل على مقدمة تذكر فيها أهم هذه العلوم قبل البدء بالتفسير، أمثال كتاب الطبراني والأصفهاني. وأفضل كما ذكرت بالمقدمة، تقسيم محاور هذه العلوم الى: العلوم للمحافظة على المحتوى، العلوم للمحافظة على القراءة، والعلوم للمحافظة على التفسير، والعلوم لإظهار الإبداع القرآني.
والقرآن في اللغة: اختلفت فيه أقوال العلماء هل هو مصدر أم وصف؟ ثم هل هو مهموز أم غير مهموز؟
والذي نختاره أنه مصدر مهموز على وزن فُعلان بالضم كالغفران، والشكران، من قرأ يقرأ قراءةً، وقرآنًا، ويشهد لهذا الاختيار ورود القرآن بمعنى القراءة في قوله تعالى ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨)﴾ [القيامة: ١٧ - ١٨] أي: قراءته عليك حتى تعييه (٨).
_________
(١) أبو شهبة، محمد بن محمد، المدخل لدراسة القرآن الكريم،بيروت، دار الجيل، ص ١٨.
(٢) المصدر السابق.
(٣) المدخل لدراسة القرآن الكريم. أبو شهبة، مرجع سابق، ص ٢٠.
(٤) المصدر السابق.
(٥) الكفافي، د. محمد عبد السلام والأستاذ الشريف، عبد الله، في علوم القرآن دراسات ومحاضرات، بيروت_لبنان، دار النهضة العربية،١٩٧٢،ص ٢٧.
(٦) د. الصالح، صبحي، مباحث في علوم القرآن، الطبعة الخامسة والعشرون، بيروت_لبنان، دار العلم للملايين،٢٠٠٢ م، والقطان، مناع، مباحث في علوم القرآن، الطبعة الثانية، الرياض، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع،١٤١٧ هـ/١٩٩٦ م.
(٧) د. زرزور، عدنان محمد، فصول في علوم القرآن، الطبعة الأولى، بيروت_لبنان، المكتب الإسلامي،١٤١٩ هـ/١٩٩٨ م، ص ١٠.
(٨) انظر: تفسير السمعاني: ١١٥٥، وتفسير الطبري: ٢٣/ ٤٩٩.
1 / 17
فـ"قرأ": تأتي بمعنى الجمع والضم والتلاوة، والقراءة: ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، وقد نقل من هذا المعنى المصدري، وجعل اسمًا للكلام المعجز، المنزل على محمد ﷺ من باب إطلاق المصدر على مفعوله، فأصبح كالعلم الشخصي له، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: ٣٧].
ولعلوم القرآن معنيان:
أحدهما: معنى عام: وهوأنواع المعارف والعلوم المتصلة بالقرآن الكريم، سواء كانت خادمة له، أو دل القرآن على مسائلها وأحكامها (١).
فعلوم خادمة للقرآن كعلم التجويد، وعلم التفسير، وعلوم اللغة العربية، وعلم الناسخ والمنسوخ، ونحو ذلك، وعلوم دل القرآن على مسائلها وأحكامها، كعلم الفقه، وعلم التوحيد، وعلم الفرائض، وعلم التاريخ، ونحو ذلك.
وقد توسع بعض العلماء في ذلك حتى أدخلوا علم الطب، وعلم الفلك، والجبر، والهندسة، وغيرها.
ولكن ليس هنالك شك أن كل العلوم الدينية والعربية داخلة في معنى علوم القرآن في معناه العام.
والثاني: ومعنى خاص باعتباره علما مدونا:
إن علوم القرآن باعتباره فنًا مدونًا عبارة عن مباحث أساسية ينبغي الإلمام بها لكل مقبل على فهم ودراسة القرآن الكريم وإلا ضل عن سواء السبيل، لذا يمكن تعريفه بأنه: "أنواع المعارف والعلوم الخادمة للقرآن الكريم كعلم النزول، وعلم الرسم، وعلم التجويد والقراءات، وعلم أسباب النزول، وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم التفسير ونحو ذلك" (٢).
وفي القرن الثاني بدأ تدوين هذه العلوم في كتب منفصلة، كل علم يدرس ويدون على حده، ثم جمعت هذه العلوم في كتاب واحد لتأخذ الشكل المسمى بعلوم القرآن المتعارف عليه الآن. وقد ذكر الدكتور صبحي الصالح (٣) أن بداية ظهور الشكل المعاصر لعلوم القرآن إنما بدأ في كتاب "البرهان في علوم القرآن" للحوفي (ت ٤٣٠ هـ). بينما حدد كفافي والشريف بداية بلورة المفهوم المعاصرلعلوم القرآن في القرن الثامن على يد الزركشي (ت ٧٩٤ هـ) في كتابه "البرهان في علوم القرآن" (٤).
فوائد معرفة علوم القرآن:
ولمعرفة علوم القرآن فوائد جمة، منها (٥):
١ - أن دراسة القرآن الكريم وفهمه وتفسيره إنما تتطلب معرفة المفسر لهذه العلوم، لمعرفة أسباب النزول، لمعرفة الناسخ والمنسوخ وغيرها من علوم القرآن حتى يتفادى الخطا والزلل، والإسلام يحث على العلم والمعرفة، وبالعلم ترقى الأمم، فكيف إذا تكون ثقافة الدارس لعلوم القرآن، فهي أشرف الثقافات والعلوم.
_________
(١) انظر: مناهل العرفان: ٢٣، ودراسات في علوم القرآن الكريم، فهد الرومي: ٣٢.
(٢) مناهل العرفان: ٢٣.
(٣) مباحث في علوم القرآن، د الصالح: ص ١٢٤.
(٤) في علوم القرآن، الكفافي والشريف، مرجع سابق، ص ٣٣.
(٥) انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم. أبو شهبة، مرجع سابق، ص ٢٦.
1 / 18
علوم القرآن من أهم العلوم، وأعلاها، وأنفعها، إذ هو السبيل لفهم كتاب الله، ومعرفة أحكامه، وحكمه، ولذا تظهر علوم القرآن الكريم من جوانب عديدة أبرزها ما يأتي:
٢ - يساعد على فهم وتدبر القرآن الكريم، واستنباط أحكامه، ومعرفة حكمه، وحل مشكله، وفهم متشابهه، بصورة صحيحة دقيقة، لأنه لا يمكن أن يفهم القرآن ويفسره من لا يعرف نطقه، ورسمه، وأوجه قراءته، وأسباب نزوله، وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ونحو ذلك، فهو الأساس، والمفتاح لفهم القرآن الكريم.
٣ - زيادة الثقة واليقين بهذا القرآن العظيم، خاصة لمن يتعمق في معرفة إعجازه، وأحكامه، وحكمه، ويقف على دقيق أسراره، إذ الجهل بمثل هذه العلوم يجعل المسلم عرضة للشبهات التي يقصد من ورائها زعزعة اليقين.
٤ - معرفة الجهود العظيمة - الممتدة عبر التاريخ وفي كل القرون - التي بذلها العلماء لخدمة هذا الكتاب، ودور هذه الجهود في حفظه من التغيير والتبديل، وفي تيسير فهمه.
٥ - التسلح بعلوم قيمة تمكن من الدفاع عن هذا الكتاب العزيز ضد من يتعرض له من أعداء الإسلام، ويبث الشكوك والشبهات في عقائده وأحكامه، وتعاليمه، وهو من أعظم الواجبات.
٦ - زيادة ثقافة الفرد المسلم بالمصدر الأول لدينه، وأعظم ما يملكه في وجوده، إذ ينبغي لكل مسلم أن يأخذ حظه من القرآن مهما كان تخصصه، ومهنته، وحرفته.
٧ - نيل الأجر والثواب، إذ تعلم مثل هذه العلوم من أوسع أبواب العبودية لله ﷿.
٨ - تطهير القلب، وتهذيب النفس، وزيادة الإيمان، إذ تعلم علوم القرآن يربط المسلم بصورة قوية بكتاب الله الذي أنزله الله شفاء للناس ورحمة.
وبعد هذه التوطئة لعلوم القرآن سوف نتناول القرآن لغة واصطلاحا:
١ - تعريف القرآن لغة
اختلف العلماء في تعريف القرآن لغة، على أقوال:
القول الأول: أن كلمة القرآن مهموزة على وزن فُعلان، مشتق من (القرء) بمعنى الجمع. وهذا قول قتادة (١)، والزجاج (٢)، وأبو عبيدة (٣).
وفي سبب تسميته بالقرآن وجهان:
أحدهما: أنه سمّى قرآنا، لأنه يجمع السور فيضمها، قال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٧]، أي: "تأليف بعضه إلى بعض، ثم قال ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٨]، أي: فإذا ألّفنا منه شيئا، فضممناه إليك فخذ به، واعمل به وضمّه إليك، وقال عمرو ابن كلثوم في هذا المعنى (٤):
ذراعى حرّة أدماء بكر ... هجان اللّون لم تقرأ جنينا
_________
(١) حكاه عنه الماوردي في النكت والعيون: ١/ ٢٤.
(٢) انظر: معاني القرآن: ١/ ٣٠٥، وتهذيب اللغة: ٣/ ٢٩١٣.
(٣) انظر: مجاز القرآن: ١/ ١، والبرهان للزركشي: ٣/ ٥٧٦.
(٤) البيت من معلقته، وانفرد أبو عبيدة بهذه الرواية، أنظر شرح العشر للتبريزى ١١١، وهو فى جمهرة الأشعار ٧٦، والأضداد للأصمعى ٦، والطبري ٢٩/ ١٠٢، والجمهرة ١/ ٢٢٨، والقرطبي ٣/ ١١٤، واللسان والتاج (قرأ).
1 / 19
أي لم تضمّ فى رحمها ولدا قط، (١) ... وفى آية أخرى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ﴾ [النحل: ٩٨]، أي: إذا تلوت بعضه فى إثر بعض، حتى يجتمع وينضمّ بعضه إلى بعض ومعناه يصير إلى معنى التأليف والجمع" (٢).
والثاني: أنه سُمي قرآنًا؛ لأن القارئ يُظهرُه ويبينه ويلقيه من فيه، أخذ من قول العرب: ما قَرَأَتِ الناقة سلًا قَط، أي: ما رمت بولد. حكاه قطْرب (٣)، وأبو هيثم (٤)، واللحياني (٥)، واستشهدوا بقول الشاعر (٦):
أَرَاها الوليد أن الخلا فتشذّرتْ ... مرَاحًا ولم يقرأ جنينًا ولا دمَا
معناه: "لم ترمِ بجنين، وسمي قرء المرأة من هذا على مذهب أهل العراق، والقرآن يلفظه القارئ من فيه ويلقيه، فسمي قرآنًا، ومعنى قرأت القرآن: لفظت به مجموعًا" (٧).
قال أبو إسحاق: "وهذا القول ليس بخارج من الصحة وهو حسن. قَرَأْتُه، أي: جَمَعْتُه" (٨).
وذكر الأشعري (٩) ﵀ هذا المعنى في بعض كتبه فقال: "إن كلام الله يسمى قُرآنًا؛ لأن العبارةَ عنه قرن بعضه إلى بعض" (١٠).
قال الفراء: "ظن أن القرآن سمي من القرائن، وذلك أن الآيات يصدق بعضها بعضًا، ويشبه بعضها بعضًا، فهي قرائن، فمذهب هؤلاء أنه غير مهموز" (١١).
القول الثاني: أن كلمة القرآن مشتقة من (قرأ) بمعنى ألقى وأظهر. وهذا قول ابن عباس (١٢).
_________
(١) «أي لم تضم ... قط»: رواه أبو الطيب اللغوي عن أبى عبيدة (الأضداد ٨٠ ب)، وهو فى الأضداد للاصمعى ٦، وأخذه البخاري، وقال ابن حجر: هو قول أبى عبيدة أيضا قاله فى المجاز رواية أبى جعفر المصادرى عنه، وأنشد قول الشاعر: «هجان» البيت.
والسلى بفتح المهملة وتخفيف اللام. وحاصله أن القرآن عنده من «قرأ» بمعنى جمع، لا من «قرأ» بمعنى تلا. (فتح الباري ٨/ ٣٤٠)
(٢) مجاز القرآن: ١/ ٢ - ٣.
(٣) انظر: تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٢، "التفسير الكبير" ٥/ ٨٦.
(٤) تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٢، "اللسان" ٦/ ٣٥٦٥.
(٥) تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٢، "اللسان" ٦/ ٣٥٦٥.
(٦) البيت لحميد بن ثور في "ديوانه" ص ٢١، "لسان العرب" ٦/ ٣٥٦٥ (قرأ).
(٧) تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٢، "اللسان" ٦/ ٣٥٦٥.
(٨) "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٩١٢.
(٩) هو: علي بن إسماعيل بن أبي بشر، أبو الحسن تتلمذ في العقائد على الجبائي زوج أمه، وبرع في علمي الكلام والجدل على طريقة المعتزلة، ثم رجع فرد عليهم، وشُهر بمذهب ينسب إليه، وقيل إنه رجع بعده إلى مذهب السلف، له: "مقالات الإسلاميين"، و"الإبانة"، توفي سنة ٣٢٤ هـ. انظر: "شذرات الذهب" ٢/ ٣٠٣، "الأعلام" ٤/ ٢٦٣.
(٤) في (م): (كتاب).
(١٠) البرهان، للزركشي: ١/ ٢٧٨. ونقله الواحدي في التفسير البسيط: ٣/ ٥٧٦، وهذا مذهب الأشاعرة واعتقاد السلف إثبات صفة الكلام لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل على حد قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١].
(١١) نقلا عن التفسير البسيط: ٣/ ٥٧٧، والتفسير الكبير: ٥/ ٨٦.
(١٢) حكاه عنه الماوردي في النكت والعيون: ١/ ٢٣.
1 / 20