2
اعتمادا على رواية يوسيفوس هذه، وما زودنا أحداثها بتواريخ مما صرنا نعرفه الآن، نستطيع وضع مقتل يوحنا في عام 35م وعلى الأرجح في أواخر الربيع قبل بضعة أشهر من المعركة التي جرت في شتاء 35-36م بين الحارثة وهيرود. وعليه فإن معمودية يسوع (وظهوره العلني) قد جرت إما في أواخر عام 34م أو في مطلع ربيع عام 35م. وهذا ما يتفق والتاريخ الذي استنتجناه لصلبه وهو ربيع عام 36م. (3) الميلاد
يقول لنا متى إن يسوع قد ولد في عهد الملك هيرود الكبير في بيت لحم، وإن يوسف النجار قد هرب مع أسرته إلى مصر؛ لأن هيرود كان يطلب قتل الطفل يسوع. وعندما سمع بخبر وفاة هيرود عاد إلى اليهودية ليجد أرخلاوس بن هيرود حاكما على اليهودية. وبما أن هيرود قد توفي عام 4ق.م. فإن مدة سفر العائلة المقدسة إلى مصر وإقامتها فيها ثم العودة إلى اليهودية قد استغرقت على أقل تقدير عامين من الزمان، وعليه تكون ولادة يسوع قد وقعت عام 6ق.م. وهذا يعني اعتمادا على استنتاجاتنا السابقة، أن يسوع قد باشر كرازته وهو في سن الواحدة والأربعين (6ق.م. + 35م)، وأنه صلب وهو في سن الثانية والأربعين. وهذا مستبعد لأنه حينها كان على أبواب الكهولة، بينما تكشف لنا سيرته عن شباب متدفق وحيوية بالغة، ولأن لوقا يقول لنا: «وكان يسوع في بدء رسالته في نحو الثلاثين من عمره» (لوقا، 3: 23). فهل سنجد عند لوقا ما يؤيد استنتاجاتنا؟
يقول لنا لوقا: إن يسوع ولد في سنة الإحصاء العام الذي أمر به القيصر أوغسطس عندما كان كيرينيوس مفوضا عاما في سوريا. ونحن نعلم سواء من يوسيفوس أم من المصادر الرومانية أن هذا الإحصاء كان يجري كل أربع عشرة سنة من أجل تحديث قوائم المكلفين بالضريبة، وأن الإحصاء المذكور عند لوقا قد جرى نحو عام 6م. وهذا يعني أن يسوع في بدء رسالته عام 35م كان له تسع وعشرون سنة، وأنه صلب وهو في نحو الثلاثين، الأمر الذي يأتي في اتفاق مع روح النص الإنجيلي ومع نتائجنا.
ولدينا في الإنجيل أحداث تدل على أن السنة التي بشر بها يسوع كانت سنة التحصيل الضرائب على إجمالي الدخل (= ضريبة مقطوعة) من المكلفين الذين وردت أسماؤهم في قوائم الإحصاء الذي كان يتم كل 14 سنة، وكانت هذه الضريبة تدعى بضريبة القيصر. فإذا كانت سنة الإحصاء التي ولد فيها يسوع تؤرخ ب 6م على ما أوردناه أعلاه، فإن سنة الإحصاء التالية ستكون في عام 20م (6 + 14)، والتي تليها في عام 34م (20 + 14). وبناء على ذلك يكون عام 35م هو عام تحصيل الضرائب التي أعدت قوائمها في العام السابق.
من هذه الأحداث الدالة على سنة الإحصاء، أن الكهنة أرسلوا إلى يسوع جواسيس ليأخذوه بكلمة ضد روما فيسلمونه إلى المحكمة. فجاءوا وسألوه: يا معلم، أيحل لنا أن ندفع الجزية إلى قيصر؟ ففطن لمكرهم فقال لهم: أروني دينارا! لمن الصورة التي عليه والكتابة؟ فقالوا: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذن لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله (لوقا، 20: 20-26 قارن مع مرقس 12: 13-17 ومع متى 22: 15-22). وقبل ذلك حصل لغط بين اليهود؛ لأن يسوع اختار في مدينة أريحا أن يبيت في منزل عشار (= جابي ضريبة) اسمه زكا، وقالوا إنه يحب مخالطة الخاطئين وحثالة الناس (لوقا، 19: 1-7). ومن الأقوال المبكرة ليسوع التي لا يمكن فهمها إلا في ضوء سنة الإحصاء وتحصيل الضريبة، إعلانه في نهاية خطابه الأول في مجمع الناصرة أنه «يركز بسنة مقبولة للرب» (لوقا، 4: 16-19). أي أنه أعلن سنته هذه سنة مقدسة في مقابل إعلانها من قبل السلطات الرومانية سنة إحصاء ضريبي وتحصيل. ومما يدل على أن الناس في تلك السنة قد رزحوا تحت أثقال ضرائب باهظة، أن المفوض الروماني فيتيليوس عندما قدم إلى أورشليم في السنة التالية (راجع أعلاه) قد أعفى المواطنين من ضريبة الثمار والخضار، في محاولة منه للتخفيف من تذمر الناس. ومثل هذا الإجراء كان من صلاحياته على عكس ضريبة القيصر.
لقد ترافقت سنة كرازة يسوع مع فترة تميزت بالاضطراب والغليان. فهيرود أنتيباس المكروه من قبل الجليليين كان في حالة حرب مع الحارثة، وقد حرك قواته العاملة في شرقي الأردن، وهو يخشى من انتفاضة شعبية ضده لا سيما بعد إعدامه ليوحنا المعمدان. وكانت تصله أخبار كرازة يسوع وتبشيره بقرب حلول ملكوت الرب، الأمر الذي ضاعف من قلقه من تأثير هذا المبشر الجديد الذي خلف يوحنا، وكان يفكر جديا بالتخلص منه.
أما بيلاطس فقد أثار نقمة اليهود عليه عندما استخدم أموال الهيكل المقدسة لتمويل مشروع جر مياه الشرب إلى أورشليم، فخرجت الحشود تندد بهذا الانتهاك لحرمة الهيكل، ولكن بيلاطس دس بينهم شرطته السريين الذين انقضوا عليهم طعنا بالخناجر عندما رفضوا الأوامر بالتفرق، وقتلت منهم خلقا كثيرا ويوسيفوس الذي ينقل لنا هذا الخبر، ينتقل بعده مباشرة إلى القول: «في ذلك الزمان عاش إنسان حكيم اسمه يسوع ...» ويبدو أن عددا من الجليليين كانوا بين المحتجين وأوقع جنود بيلاطس بينهم إصابات قاتلة. ولدينا في إنجيل لوقا خبر مقتضب وغامض لا يمكن تفسيره إلا على ضوء هذه الواقعة: «وكان حاضرا في ذلك الوقت قوم يخبرونه عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم» (لوقا، 13: 1).
ولم تكن علاقة بيلاطس مع السامريين أفضل حالا. فقد كان اليهود السامريون في ذلك الوقت يتوقعون أيضا شخصية مسيحانية يدعى الطاحب، سوف يستخرج لهم تابوت العهد ومحتوياته من تحت جبل جرزيم حيث دفن هناك منذ زمن بعيد. ثم ظهر رجل ادعى أنه الطاحب المنتظر تبعه خلق كثير سار بهم إلى جبل جرزيم. ولكن بيلاس رأي في هذه الدعوة الدينية بداية فتنة سياسية، فأرسل قوة عسكرية لقمعها وقتل الكثيرين من أتباع الطاحب ثم حاكم قادة الحركة وأعدمهم. فكتب مجلس السامريين إلى المفوض فيتيليوس يتهمون بيلاطس بقتل الأبرياء. هذه الحادثة التي يرويها يوسيفوس تلقي ضوءا على موقف يسوع الحذر من لقب المسيح، نقرأ في إنجيل لوقا: «فقال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب بطرس: مسيح الله. فانتهرهم وأوصى ألا يقولوا ذلك لأحد» (لوقا، 9: 20-21). وفي إنجيل متى: «حينئذ أوصى تلاميذه ألا يقولوا لأحد عنه أنه يسوع المسيح» (متى، 16: 20).
إن هذا العرض السريع للأوضاع العامة في فلسطين خلال حياة يسوع، وما بيناه من تقاطع أحداث تلك الفترة وشخصياتها مع المفاصل الرئيسة وبعض الأحداث العابرة وغير المفهمة أحيانا في الرواية الإنجيلية، يجعل حياة يسوع ترتسم أمام أعيننا على خلفية تاريخية واضحة كل الوضوح، كما يجعل من القول بلا تاريخية يسوع أطروحة لا يمكن الدفاع عنها.
Página desconocida