وقد طبق يسوع على تلاميذه نوعين من طقوس الاستسرار، النوع الأول هو طقس العماد بالماء من أجل الولادة الثانية. فكل إنسان يولد ولادة بشرية من جسد بشري آخر، ولكن الساعين إلى الكمال عليهم أن يولدوا مرة ثانية ولادة روحية قوامها الماء والروح القدس ليكونوا مستعدين لتلقي أسرار حكمة الله. وهذا هو مؤدى قول يسوع لواحد من معلمي اليهود، وهو نيقوديمس الذي صار فيما بعد تلميذا سريا ليسوع: «الحق، الحق أقول لك. ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا ولد من عل، فقال له نيقوديمس: كيف يمكن للإنسان أن يولد وهو شيخ كبير؟ أيستطيع أن يدخل في بطن أمه ثانية ثم يولد؟ أجاب يسوع: الحق، الحق أقول لك. ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا ولد وكان مولده من الروح والماء. فمولود الجسد يكون جسدا ومولود الروح يكون روحا» (يوحنا، 3: 3-6).
أما النوع الثاني فهو طقس محاكاة الموت، حيث يدفن المريد في قبر لفترة من الزمن ثم يقوم منه إلى حياة جديدة. ويبدو أن قلة فقط من تلاميذ يسوع قد خضعوا لهذا الطقس. ولكننا لا نملك عنه إلا شاهدا واحدا في قصة إحياء لعازر، التي أوردها لنا إنجيل يوحنا وإنجيل مرقس السري. ولنبدأ بإنجيل يوحنا ونقرأ بين سطور القصة. «وكان رجل مريض يدعى لعازر من بيت عنيا، من قرية مريم وأختها مرتا. ومريم هي التي دهنت الرب بالطيب ومسحت قدميه بشعرها، وكان لعازر المريض أخاها. فأرسلت أختاه إلى يسوع تقولان: يا سيد إن الذي تحبه مريض. فقال يسوع حين بلغه الخبر: ليس هذا مرض الموت بل مآله إلى مجد الله ليتمجد ابن الله» (يوحنا، 11: 1-4) نلاحظ هنا كيف نفى يسوع أن يكون مرض لعازر هو مرض الموت، وكيف وجه أنظار مستمعيه إلى وجود خطة ما وراء ما يجري. «وكان يسوع يحب مرتا وأختها ولعازر. على أنه لبث في مكانه يومين بعدما عرف أنه مريض، ثم قال لتلاميذه: لنعد إلى اليهودية (وكانوا حينها في عبر الأردن). فقال له تلاميذه: يا معلم، أتعود إلى هناك وقد أراد اليهود رجمك منذ قريب؟ ... فقال لهم: إن حبيبنا لعازر قد نام وأنا ذاهب لأوقظه. فقال له تلاميذه: يا سيد إن كان قد نام فسيشفى. وكان يسوع يعني موته وهم ظنوا أنه يقول عن رقاد النوم. فقال لهم يسوع علانية: لعازر مات. ويسرني لأجلكم أني لم أكن هناك لتؤمنوا، فلنمض إليه. فقال توما الذي يقال له التوءم لإخوانه التلاميذ: لنذهب نحن أيضا لكي نموت معه» (يوحنا، 11: 5-16).
على عكس ما هو متوقع، فقد تلكأ يسوع في التوجه إلى بيت عنيا لشفاء لعازر مدة يومين، وهذا يدل على عدم شعوره بالقلق حيال مرض لعازر. ثم ألمح ثانية لتلاميذه بأن اضطجاع لعازر ليس اضطجاع موت عندما قال لهم إنه نائم. وعندما لم يفهم التلاميذ قصده قال لهم: لعازر مات. وهنا فهم واحد من التلاميذ ما كان يجري فقال لزملائه: لنذهب نحن أيضا لكي نموت معه. وبالطبع فإن توما في قوله هذا لم يكن يدعو رفاقه إلى القيام بعملية انتحار جماعي من أجل اللحاق بلعازر، وإنما كان يعبر عن رغبة في المرور بالطقس نفسه لكي يغدو أقرب إلى معلمه. وصل يسوع إلى بيت عنيا في اليوم الرابع لموت لعازر ودفنه في قبر منحوت في الصخر قرب بيت الأسرة. وعندما استقبلته الأختان عند مشارف البيت، طلب منهما أخذه إلى موضع الدفن: «وكان القبر مغارة وعلى مدخلها حجر. فقال يسوع: أزيحوا الحجر ... وصاح بأعلى صوته لعازر، اخرج. فخرج الميت مشدود اليدين والرجلين بالأكفان معصوب الوجه بمنديل. فقال لهم يسوع: حلوه ودعوه يذهب» (يوحنا، 11: 17-45).
إن ما حدث في بيت عنيا لم يكن سوى مرحلة متقدمة من طقوس الاستسرار خص بها يسوع تلميذه الحبيب لعازر. ولكن القصة بعد أن جرى تداولها فيما بعد تحولت إلى معجزة إحياء حقيقي لتلميذ ميت. ولعل رواية إنجيل مرقس السري للقصة نفسها (راجع ما أوردناه عن هذا الإنجيل في بحث سابق) تؤيد ما نذهب إليه هنا، لأنها تصف لنا استمرار طقس الاستسرار بعد الخروج من القبر، عندما بقي يسوع مع التلميذ يعلمه أسرار ملكوت الله. وفي الروايتين عدد من نقاط الاختلاف، لعل أهمها ما ورد في الإنجيل السري عن سماع صيحة عالية من القبر لدى اقتراب يسوع منه، الأمر الذي يدل على أن المدفون كان حيا: «ثم جاءوا إلى بيت عنيا، فحضرت إليه امرأة هناك مات أخوها وسجدت أمامه قائلة: يا ابن داود، ارحمني، فانتهرها التلاميذ، ولكن يسوع غضب ومضى معها إلى البستان حيث القبر الذي دفن فيه. ولدى اقترابه صدرت من داخل القبر صيحة عظيمة، فدنا يسوع ودحرج الحجر عن مدخل القبر وتوجه لفوره إلى حيث كان الفتى، فمد ذراعه إليه وأقامه ممسكا بيده. ولما رآه الفتى أحبه وتوسل إليه البقاء معه. وبعد خروجهما توجهوا إلى بيت الفتي لأنه كان غنيا. وبعد ستة أيام لقنه يسوع ما يتوجب عليه فعله. وفي المساء جاء إليه الفتي يرتدي إزارا من الكتان على جسده العاري وبقي معه تلك الليلة، لأن يسوع كان يعلمه أسرار ملكوت الله. وعندما قام عاد إلى الجهة الأخرى من نهر الأردن.»
4
بعد وفاة يسوع غاب طقس الموت الرمزي والانبعاث منه إلى حياة جديدة لا خطيئة فيها ولا موت، واندمج بطقس المعمودية في مضمونه البولسي الجديد، طقس المعمودية بدم يسوع والاتحاد به. فيسوع قد مات نيابة عن البشرية جمعاء ثم قام من بين الأموات من خلال طقس استسراري ذي طبيعة كونية. وطقس المعمودية يجعلنا مشاركين ليسوع في موته وبعثه، ويجعلنا أحرارا من الخطيئة والموت وسلطة الشيطان سيد هذا العالم. نقرأ في الرسالة إلى أهالي غلاطية: «فقبل أن يأتي الإيمان، كان مغلقا علينا بحراسة الشريعة (التوراتية) إلى أن يتجلى الإيمان المنتظر. فالشريعة كانت مؤدبة لنا إلى مجيء المسيح لننال البر بالإيمان، فلما جاء الإيمان لم نبق في حراسة المؤدب لأنكم جميعا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. فإنكم وقد اعتمدتم جميعا في المسيح قد لبستم المسيح. فلم يبق بعد من يهودي أو يوناني، عبد أو حر، ذكر أو أنثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع» (غلاطية، 3: 23-28).
وفي الرسالة إلى أهالي روما: «أوتجهلون أنا وقد اعتمدنا في يسوع المسيح إنما اعتمدنا في موته، فدفنا معه بالمعمودية لنموت فنحيا حياة جديدة كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب. فنحن إذا اتحدنا به بموت يشبه موته فكذلك تكون حالنا في قيامته. وإنا نعلم أن إنساننا القديم (= الخاطئ) قد صلب معه ليزول هذا البشر الخاطئ، فلا نظل عبيدا للخطيئة لأن الذي مات تحرر من الخطيئة. فإذا كنا قد متنا مع المسيح فإنا نؤمن بأننا سنحيا معه. ونعلم أن المسيح بعدما أقيم من بين الأموات لن يموت ثانية ولن يكون للموت عليه من سلطان، لأنه بموته قد مات عن الخطيئة مرة واحدة، والحياة التي يحياها فيحياها لله. كذلك أنتم أيضا احسبوا أنفسكم أمواتا عن الخطيئة ولكن أحياء لله في يسوع المسيح» (روما، 6: 3-11). «فليس بعد الآن من هلاك للذين هم في يسوع المسيح؛ لأن شريعة الروح الذي يهب الحياة في يسوع المسيح قد حررتني من شريعة الخطيئة والموت (= شريعة التوراة). فالذي لم تستطعه الشريعة، والجسد قد أوهنها، حققه الله بإرسال ابنه في جسد يشبه جسدنا الخاطئ كفارة للخطيئة، فحكم على الخطيئة في الجسد ليتم ما تقتضيه منا الشريعة، نحن الذين لا يسلكون سبيل الجسد بل سبيل الروح» (روما، 8: 1-4).
وفي الرسالة إلى أهالي كولوسي: «ففي المسيح يحل جميع كمال الألوهية حلولا جسديا، وفيه تدركون الكمال. إنه رأس كل صاحب رئاسة وسلطان، وفيه اختتنتم ختانا لم يكن من فعل الأيدي وإنما هو خلع الجسد البشري، إنه ختان المسيح. ذلك أنكم دفنتم معه في المعمودية وأقمتم معه أيضا لأنكم آمنتم بقدرة الله الذي أقامه من بين الأموات. كنتم أمواتا بزلاتكم وقلف أجسادكم فأحياكم الله معه وصفح لنا عن جميع زلاتنا، ومحا ما كان علينا من صك للفرائض (= الشريعة التوراتية)، وألغاه مسمرا إياه على الصليب، وخلع أصحاب الرئاسة والسلطة (= ملائكة الشيطان أمير هذا العالم)، وعاد بهم في ركبه ظافرا ... فأما وقد قمتم مع المسيح فاسعوا إلى الأمور التي في العلى حيث المسيح جالس عن يمين الله، ارغبوا في الأمور التي في العلى لا في الأمور التي على الأرض، لأنكم قد متم وحياتكم محتجبة مع المسيح في الله. فإذا ظهر المسيح الذي هو حياتكم تظهرون أنتم أيضا عندئذ معه في المجد» (كولوسي، 2: 9-15، و3: 1-4).
وكما نلاحظ من هذه المقاطع ومن غيرها في رسائل بولس، فإن طقس المعمودية الذي يحرر المتعمد من الموت بعد اتحاده بالمسيح، يحرره أيضا من شريعة وفرائض إله التوراة حاكم هذا العالم. وعلى عكس الرأي السائد بين الباحثين في تاريخ العقيدة المسيحية والذي يعزو إلى بولس ابتكار هذه الأفكار، فإننا نستبعد أن يكون بولس الذي نشأ وتربى على الثقافة الفريسية ودرس الشريعة على يد واحد من أهم معلميها، هو مصدرها، بل لا بد أن يكون قد تلقاها عندما تعمد ودخل الجماعة المسيحية الأولى عقب وفاة يسوع ببضعة أعوام، واطلع على تعاليم يسوع السرية التي كان يبيحها لمن عبر إلى الأسرار.
على أننا لسنا بحاجة إلى البحث في تعاليم يسوع السرية لنعثر على فكرة التحرر من الشريعة لمن آمن بيسوع واتحد به. فقصص الإنجيل حافلة بمواقف وأقوال ليسوع يعلن فيها حريته وحرية تلاميذه من فرائض الشريعة: «بقيت الشريعة وكتب الأنبياء إلى يوحنا المعمدان، ثم ابتدأت البشارة بملكوت الله، فأخذ كل امرئ يبذل جهده ليدخله عنوة ...» (لوقا، 16: 16). ورسالة يسوع أشبه بقطعة قماش جديدة لا يمكن خياطتها على قماش قديم لكيلا تنتزع الرقعة الجديدة شيئا من الثوب القديم. أو مثل خمر جديدة لا يمكن صبها في زقاق (جمع زق وهو وعاء جلدي) قديمة لكيلا تتلف الخمر والزقاق معا (مرقس، 2: 21-22). والسبت جعل لأجل الإنسان وما جعل الإنسان لأجل السبت، ويسوع هو سيد السبت (مرقس، 2: 27-28). وفي مقابل شريعة التوراة التي لا يطيق حملها إنسان، فإن تعاليم يسوع تنسجم مع طبيعة الإنسان وعبؤها خفيف الحمل: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هين وحملي خفيف» (متى، 11: 28-30). والتاريخ النبوي اليهودي لم يقل للناس كلمة حق من الله ولكن يسوع فعل: «أنا الذي قال لكم الحق الذي سمعه من الله، وهذا لم يفعله إبراهيم» (يوحنا، 8: 40).
Página desconocida