ويصف لنا الكاتب الروماني أبوليوس في روايته المعروفة «الحمار الذهبي» طقوس الاستسرار في عبادة الإلهة إيزيس السرية في روما، وصف شاهد عيان لأنه مر بها هو نفسه عندما جرى تنسيبه إلى العبادة وصار بعد ذلك كاهنا للإلهة.
فبعد وصفه للطقوس الاستهلالية التي تتضمن العماد بالماء، مما اقتبسناه في دراستنا السابقة عن معمودية يسوع، ينتقل إلى القسم الثاني وهو طقس الموت والانبعاث، فيقول دون الدخول في التفاصيل السرية: «وعندما حل مساء اليوم الأخير وأنا في موضعي، رأيت الكهان يتقاطرون علي من كل زوايا المعبد وفي يد كل منهم هدية تهنئة لي، ثم جاء الكاهن الأعظم وألبسني عباءة قطنية وقادني إلى قدس أقداس المعبد. وإني لأعتقد الآن بأن قارئ كلماتي هذه قد هاجه الشوق لمعرفة ما جرى لى هناك. ولكني لو سمحت للساني بالنطق وسمحت أنت لأذنك بالسمع، سيلقى لساني جزاء بما نطق وتلقى أذنك جزاء بما سمعت، ومع ذلك فإنني أستطيع الإفضاء بما هو مسموح لي بإفضائه، شريطة أن تكون مستعدا لتصديق كل كلمة مما أقول. لقد دنوت من حافة الموت الفعلي ووضعت قدمي على عتبة بيرسيفوني (إلهة العالم الأسفل)، ثم سمح لي أن أعود سابحا عبر العناصر كلها. في منتصف الليل شهدت الشمس ساطعة كوقت الهاجرة. مثلت في حضرة آلهة العالم الأسفل؛ حيث كان آلهة العالم الأعلى يقدمون لهم الولاء. وعندما انتهى الطقس الجليل، خرجت من قدس الأقداس وعلي اثنا عشر ثوبا، فأمرني الكاهن أن أرتقي المنبر القائم في وسط المعبد أمام تمثال الإلهة، وأمسكني مشعلا بيدي اليمنى ووضع إكليلا على رأسي من أغصان النخيل.»
2
في هذا المناخ الديني الذي كان يموج بعبادات الأسرار، ظهرت الكنيسة المسيحية الأولى التي أسسها يسوع. وفي الحقيقة، فإن قراءة ما وراء السطور في أسفار العهد الجديد، تدلنا على أن أتباع يسوع الأوائل كانوا يشكلون حلقة مغلقة من المريدين لا يمكن دخولها إلا لمن يمتلك الرغبة والقدرة على الارتقاء الروحي، وذلك بعد مروره بطقوس استسرار وتنسيب تعبر به إلى تلك الحلقة.
هذه الطبيعة السرانية للجماعة المسيحية الأولى، هي التي تفسر لجوء يسوع إلى التعبير عن أفكاره من خلال الأمثال التي غمضت أحيانا حتى على تلاميذه أنفسهم. نقرأ في إنجيل متى: «ثم دعا الجموع وقال لهم: اسمعوا وافهموا: ما يدخل الفم لا ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجسه. فدنا منه التلاميذ وقالوا له: أتعلم أن الفريسيين استاءوا عندما سمعوا هذا الكلام؟ فأجابهم: كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يقلع. دعوهم وشأنهم إنهم عميان يقودون عميانا. وإذا كان الأعمى يقود أعمى سقطا معا في حفرة. فقال له بطرس: فسر لنا المثل. فأجابه: أوأنتم حتى الآن لا فهم لكم ...» (متى، 15: 11-16). وعندما قال للجموع مثله المعروف عن الزارع، انفرد به تلاميذه وسألوه عن مغزى المثل، قال لهم: «أنتم أعطيتم سر ملكوت الله، وأما الذين من خارج فيسمعون كل شيء بالأمثال، حتى إنهم مهما نظروا لا يبصرون ومهما سمعوا لا يفهمون» (مرقس، 4: 10-13). ويسوع يستخدم هنا تعبيرين مهمين يدلان على الطبيعة المغلقة والاقتصارية للجماعة المسيحية الأولى. فقد وصف مريديه بأنهم «قد أعطوا أسرار ملكوت الله» أي أنهم قد عبروا إلى أسرار الدين، ووصف الآخرين بأنهم «من خارج» أي من خارج حلقة العارفين. وهؤلاء الذين «من خارج» هم موتى مقارنة بالذين هم «من داخل». فعندما اختار تلميذا جديدا ليضمه إلى جماعته قال له التلميذ: «يا سيد، ائذن لي أن أمضي أولا وأدفن أبي. فقال له يسوع: دع الموتى يدفنون موتاهم، وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله» (لوقا، 9: 59-60). وقال بعدم إفشاء أسرار الدين إلى الذين هم من خارج: «لا تعطوا الكلاب ما هو مقدس، ولا تلقوا بدرركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأقدامها ثم ترتد إليكم فتمزقكم» (متى، 7: 6).
ويقول في اقتصار المعرفة الحقة على حلقة المريدين الذين عبروا إلى الأسرار: «كل شيء قد دفع إلي من أبي. وليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يكشف له» (لوقا، 10: 22). ويقول بالمعنى نفسه في إنجيل توما: «أكشف أسراري لمن هو أهل لأسراري» ثم يوصي من كشفت له الأسرار بحفظها قائلا: «لا تدع يدك اليسرى تعلم بما تفعله يدك اليمنى» (إنجيل توما، الفقرة 62).
3
ويتحدث بولس الرسول في رسائله عن الحكمة الخفية التي لا تعطى إلا للناضجين في الروح، أي لمن هم «من داخل»: «هنالك حكمة نتكلم عليها بين الناضجين في الروح، وهي غير حكمة هذا العالم ... بل هي حكمة الله السرية الخفية التي أعدها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا ... الذي ما رأته عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر أعده الله للذين يحبونه وكشفه لنا بالروح. لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله ... وما نلنا نحن روح هذا العالم، بل نلنا الروح الذي أرسله لنا الله لنعرف ما وهبه الله» (1 كورنثة، 2: 6-13).
ويميز بولس بين ما يدعوه بالإنسان البشري الذي لم يتهيأ بعد لتلقي حكمة الله، وما يدعوه بالإنسان الروحاني المستعد لتلقي هذه الحكمة: «ونحن لا نتكلم عن حكمة الله بكلام تعلمه حكمة البشرية بل بكلام يعلمه الروح القدس، فنشرح الحقائق الروحانية بعبارات روحانية. فالإنسان البشري لا يقبل ما هو من روح الله لأنه يعتبره حماقة، ولا يقدر أن يفهمه لأن الحكم فيه لا يكون إلا بالروح» ثم يلتفت بولس إلى مستمعيه ممن لم يتعمقوا بعد في أسرار الدين، فيشبه خطابه إليهم بالحليب الذي يقدم للصغار لا بالطعام الذي يقدم للكبار، لأنهم غير مستعدين بعد للفهم: «ولكنني أيها الإخوة ما تمكنت أن أكلمكم مثلما أكلم أناسا روحانيين، بل مثلما أكلم أناسا جسديين هم أطفال بعد في المسيح. غذيتكم باللبن الحليب لا بالطعام لأنكم كنتم لا تطيقونه ولا أنتم تطيقونه الآن. فأنتم بعد جسديون» (1 كورنثة، 2: 13-14، و3: 1-3).
إن الاطلاع على الأسرار هو الذي ينقل الفرد من حالة دنيا من الوجود يكون فيها جاهلا بطبيعة روحه التي هي قبس من نور الله، إلى حالة عليا من الوجود تتحقق فيها معرفة الفرد بمن هو ومن هو ربه. وهذا الانتقال يعريه من جسد الموت ويلبسه جسد الحياة الخالدة. ومع تحقق هذه الحالة من العرفان، ليس علينا أن ننتظر واقعة الموت حتى نبعث إلى حياة جديدة، بل إننا نبعث هنا والآن ونلبس الجسد الروحاني فوق الجسد الأرضي، ونكتشف «طبيعة المسيح» فينا، وهي طبيعة لم تفارقنا قط ولكنها كانت بحاجة إلى تلمس وإيقاظ. وفي هذا يقول بولس: «فمع أن الإنسان الظاهر فينا يسير إلى الفناء، إلا أن الإنسان الباطن يتجدد يوما بعد يوم ... ونحن نعرف أنه إذا تهدمت خيمتنا الأرضية التي نحن فيها (= الجسد)، فلنا في السماء بيت أبدي من بناء الله غير مصنوع بالأيدي. وكم نتأوه أن نلبس فوق خيمتنا الأرضية هذه بيتنا السماوي، لأننا متى لبسناه لا نكون عراة، وما دمنا في هذه الخيمة الأرضية فنحن نئن تحت أثقالنا، لا لأننا نريد أن نتعرى من جسدنا الأرضي بل لأننا نريد أن نلبس فوقه جسدنا السماوي إلى أن تبتلع الحياة ما هو زائل فينا» (2 كورنثة، 5: 1-4).
Página desconocida