Albert Camus: Un intento de estudiar su pensamiento filosófico
ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي
Géneros
ويضيع التفتح الذاتي، الذي يقوم عليه كل حديث أصيل. وينعدم السؤال، ولا يعود ثمة مجال إلا للجواب؛ أعني للصمت والخضوع. بل إن المونولوج الذي يقع خارج دائرة السؤال-والجواب، وخارج علاقة الأنا-بالأنت لا يمكن أن يحتمل التغير والصيرورة؛ ومن ثم فهو يستبعد الزمانية من بنائه. إن المونولوج بطبيعته لا زمني، وكل ما هو غريب عن الزمان فهو غريب عن الوجود.
هذا الصراع بين المونولوج والديالوج يظهر في أجلى صورة في رواية كامي الأخيرة أو قل درته الفريدة «السقطة».
64
إن بطلها القاضي المكفر عن ذنبه جان بابتست كليمانس يضرب لنا المثل الواضح على الحياة التي يقضيها صاحبها أسير المونولوج. إن الشقاء الذي يعانيه الناس يرجع في نظره إلى أنهم لا يقدرون على أن يدخلوا في حديث مشترك أصيل فيما بينهم، ولا أن يعيشوا في حوار بكل ما يميزه من حرية وتفاهم، ومن محبة وتعاطف. إنهم في نظر بعضهم مجرد موضوعات تلاحظ بعضها أو تستخدم بعضها، فهم عاجزون عن تحقيق العلاقة الديالوجية الأصيلة التي تربط الإنسان بالإنسان. إنهم يتحدثون حقا مع بعضهم، ولكن أحاديثهم تمضي عبثا، ولا تحدث لقاء حقيقيا بينهم: «... نحن لم نعد نقول كما كان يحدث في الأزمنة السالفة الطيبة: هذا هو رأيي، فما هي اعتراضاتك عليه؟ لقد تفتحت اليوم عيوننا. واستبدلنا بالديالوج الأوامر.»
65
إن حديث كليمانس مع صاحبه الذي لا نسمعه ولا نراه هو في الحقيقة حديث مع ذاته، أو حوار باطني من طرف واحد، لا يستطيع هو نفسه أن يسميه حديثا. وصاحبه الخفي زميله في المهنة والوطن، وهو بذلك يمثل ذاته الماضية التي لا يكف عن اتهامها واتهامنا معها، في مونولوج متصل يعيده علينا.
كان كليمانس محاميا ناجحا مرموقا في باريس، راضيا عن نفسه وعن العالم، مغتبطا بفضائله الزائفة، سعيدا بتمثيل دور الإنسان الطيب الشاعر بواجبه. ظل يعيش هذه الحياة الراضية المنافقة، لا يعرف نفسه ولا يحاول أن يعرفها، حتى كانت تلك الليلة الحاسمة على مفترق الطريق؛ كان يعبر على أحد جسور نهر السين فإذا به يسمع صرخة مكتومة لامرأة شابة مجهولة، نحيلة متشحة بالسواد، كان قد رآها منذ قليل مائلة بجسدها على سور الجسر. سمع صوت شيء يرتطم بالماء، وتناهت إليه استغاثة فتوقف عن المسير، وتردد فلم تواته الشجاعة الكافية ليحاول إنقاذها. ولم يطل تردده أكثر من لحظات، ولكنها اللحظات التي تكفي لتغيير المصير: «كنت قد قطعت حوالي الخمسين مترا عندما سمعت صوت اصطدام جسم بالماء. وعلى الرغم من المسافة التي تفصلني عنه، فقد بدا لي في سكون الليل كأنه صوت هائل مرتفع الضجيج. ظللت واقفا ولم ألتفت ورائي. وسمعت في الوقت نفسه صرخة تتكرر عدة مرات، متجهة مع تيار النهر المنحدر جنوبا، ثم خرست مرة واحدة. أردت أن أتابع سيري، ولكنني لم أستطع أن أتحرك من مكاني. قلت لنفسي إن الأمر يحتاج إلى السرعة، وأحسست كأن شيئا لا سبيل إلى مقاومته قد تسلط على جسدي ... رحت أتنصت وأنا جامد في موضعي، ثم ابتعدت في خطوات مترددة والمطر يتساقط علي. ولم أخبر أحدا.»
66
كانت سقطة هذه الشابة البائسة في الماء هي سقطته في الخطيئة، ونقطة التحول في حياته. منذ تلك الليلة والصرخة التي لم يسمعها أحد سواه ولم تستنجد بأحد غيره تتردد في أذنيه وتؤرق نومه: نوديت، ولكنني لم أستمع إلى النداء. امتدت يد مجهولة، ذات ليلة باردة معتمة تستنجد به. ولكنه لم يمد يده إليها، لم ينقذ الغريقة ولا أنقذ نفسه معها. إنه الآن الغريق على اليابسة، ينادي في صوت يائس بعد فوات الأوان: «أيتها الفتاة! ألقي بنفسك مرة أخرى في الماء لكي يتسنى لي مرة ثانية أن أنقذك وأنقذ نفسي معك!»
67
Página desconocida