فقال ضاحكا: «لم أجد عندهم ما يشفيني، قل ولا تخش شيئا.»
فنظرت إليه مترددا، ثم تجرأت وجعلت أفحصه ببصري وقلت: لا أظنك تساوي أقل من ألف دينار.
فضحك حتى استلقى على ظهره وضحك من معه وراءه، ثم قال: إنك لم تبلغ في جوابك شيئا. إن ملابسي وحدها تساوي ذلك المقدار من الدنانير.
فقلت وقد امتلأت سرورا من صدق حدسي: «لقد صدق ظني إذن. فما كنت أنظر في تقدير ثمنك إلا إلى هذه الملابس.»
فعاد إلى الضحك حتى كاد نفسه ينقطع، وضحك أصحابه مثله حتى لم يبق في المجلس أحد لا يضحك غيري أنا وكمال الدين، ونحن ننظر إليهم ونتعجب مما يضحكهم.
وبعد حين هدأ تيمور وظهر عليه النشاط وانشرح صدره، ثم نظر إلي جادا وقال: «أيها الشيخ المبارك، إننا نحب أن نسمع وعظك.» فوقعت كلمته علي وقعا ثقيلا، وزادت حيرتي عندما نظرت حولي، ورأيت من كان هناك من حرس وأتباع ومن لحى شهباء وعمائم مكورة بيضاء. فماذا كان لي أن أقول بين هؤلاء؟ وما خرجت من سجني لكي أعظ تيمور، ولعل تلك العظة تعيدني إلى ما كنت فيه من ظلام جحري. وترددت طويلا وأطرقت حائرا وكدت أنطق معتذرا، ولكني لم أجد لنفسي عذرا، وسمعت تيمور يقول لي: «لقد سمعت عن ورعك وعلمك فأحببت أن أراك وأن أسمعك، فلا تحرمنا من بركة مواعظك.» فشعرت كأن روحا جديدا يسري في أعماق قلبي، ونسيت إشفاقي وخوفي، وقمت كأنني أنشط من عقال. فأحسست جذبة في طرف جبتي، ولكني لم أبال صاحبي، وانطلقت أتكلم، فقلت ناظرا إلى تيمور: «لا تصدق حرفا واحدا مما يقوله هؤلاء الذين يمدحونك؛ فإنهم إنما يبيعون لك سلعة يعرفون أنك تحبها.»
وما نطقت بهذه الكلمات حتى رأيت الجمع ينتفض كأن نارا لذعتهم، ورأيت لحاهم تخفق، ونظروا إلي ثم نظروا إلى تيمور ليروا ما هو صانع بي. ولكني لم أنظر إلى أحد وقلت مستمرا: «وإذا أردت أن تسمع عظة فلا شيء يعظك خير من الحقيقة، فتأمل وفكر والتمسها. لقد خلقك الله كما خلق من قبلك، وكما هو خالق من بعدك، وجعل لك أياما على هذه الأرض لن تعيش أكثر منها. ولقد كنت قبل أن تخلق نسيا منسيا، وستمضي بعد حين وتذهب عن هذه الأرض لا تأخذ منها شيئا، فلا تجعل هذه الأيام القصيرة تغطي على الحقيقة الخالدة، ولا تجعل هؤلاء الذين يمدحونك يسخرون من حكمتك. قد خلقك الله كما خلق هؤلاء الناس جميعا، وجعل لكم الحياة ميدانا وامتحانا لكي تؤدوا الواجب الذي ألقاه جل وعلا على الإنسانية عندما خلقها منذ قال:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . وما عبادته إلا السعي إلى الكمال الذي قدره للخلق، وجعله قصد حياتهم. كان من قبلك ملوك بلغوا من السلطان ما بلغت، ثم أضلتهم الحياة فمضوا عنها وصاروا نسيا منسيا، فهم اليوم صور وأسماء مجردة معطلة من كل مجد وهيبة، لا فرق فيها بين فرعون وبين العبد الذي كان يسجد عند قدميه، فالملوك الذين لم يخلفوا إلا آثار العسف والطغيان لم يكونوا أهلا للإنسانية، بل كانت حياتهم على الأرض لعنة لأنهم جحدوا الله الذي وهب لهم الحياة. كان المجد عند الطغاة أن يذلوا الأعزاء، وأن يسفكوا الدماء، وأن يجعلوا أهل الأرض عبيدا ليتملقوا كبرياءهم وغرورهم. فلما مرت أيامهم ذهبوا بعد أن دمغهم اليقين، فعلموا ولات حين علم أن كل ما اضطربوا فيه لم يكن سوى غرور من الغرور، وليس فيه شيء سوى الغرور، وبقيت الأرض بعدهم باسمة كأنها تسخر من جهالتهم العمياء.» «لقد مررت يوما بغابة، ورأيت فيها تنازع الحيوان والحشر، وهناك استطعت أن أدرك الرسالة السامية التي أعدها الله للإنسان، أن يعيش على قانون الرحمة والحب لا على القانون الطليق الذي يحكم الغابة. ولكني كلما تأملت بدا لي أن من بني الإنسان من يريدون أن يطفئوا نور الله، وأن يمسخوا الرسالة السامية ويعودوا إلى قانون الغابة طمعا فيما يصيبونه من وراء ذلك من مجد حيواني وحشي. وهؤلاء ليسوا سوى نكسة من نكسات الحياة، وفلتة من فلتات أقدام الإنسانية في صعودها نحو العلا. الأرض لا تضيق بالناس جميعا إذا أرادوا أن يعيشوا فيها لما أراد الله لهم، بل هي تتسع للجميع وتفتح ذراعيها للجميع، وتدعو الجميع إلى الحياة السعيدة. فهنيئا لمن استطاع أن يكون من رسل الرحمة، ومن أكبر الإنسانية وأعظمها، فلم يسفك دماءها، ولم يدنس كرامتها، وسعى في تحقيق الخير، وأعان على تحقيق السعادة للجميع.»
ولما انتهيت إلى آخر قولي تنفست عميقا وشعرت بأن حملا أزيح عن كاهلي، ونظرت حولي حتى وقعت عيني على تيمور.
وما كان أشد عجبي إذ رأيته يبكي. نعم كان يبكي وهو مطرق والدموع تنحدر على لحيته. وكان الجمع كله مطرقا يشارك في البكاء، إلا صديقي كمال الدين فقد كان ينظر إلي مأخوذا وصدره يعلو ويهبط في اضطراب. فلما رآني قد أمسكت قام نحوي ولم يعبأ بأحد، حتى صار أمامي وضمني إلى صدره، قائلا في صوت متهدج: «لقد عرفت أنك لن تخشى في الحق أحدا، وأحمد الله إذ لم تطعني عندما جذبتك من جبتك.»
Página desconocida