جلست هناك وقتا لا أدري أقصيرا كان أم طويلا، ثم شعرت فجأة بشيء من الرهبة يمسني من السكون العميق الذي حولي، فما كدت أتنبه له حتى خيل إلي أنني في عالم صاخب مضطرب. سمعت خفق الأوراق على الأعواد، ووسوسة النسيم بين الغصون، وخشخشة الحشر بين الحشائش، فاضطرب خيالي ووقف شعر رأسي، ولم أطق البقاء مكاني، وهممت بالرجوع إلى موضع صاحبي، فنظرت حولي لأرى الطرق التي جئت منها فلم أجد أمامي إلا غابة شجراء، وضوء القمر يسطع من فوقها ويتخللها. فخيل إلي أن المكان قد امتلأ أرواحا من الجان تتلاعب وتتواثب من حولي، وأسرعت في سيري وأنا أتلفت ورائي ولا أتبين لي طريقا . وفيما أنا كذلك لاح لي عن بعد شيء يتحرك، يشبه أن يكون قطا أو فهدا أو ظبيا أو ذئبا أو غير ذلك مما يسير على أرض الغابات يلتمس قوتا. فشعرت بوجهي يتقد، ورفعت يدي لألتمس جبيني فوجدته باردا تبلله قطرات من العرق. وحاولت أن أشجع نفسي بأن أسمع صوتي، فحاولت أن أغني، ولكن الألحان شردت عن ذهني، وجعلت ألوم نفسي على هذا الفزع الذي لا سبب له، وأجاهدها بكل ما استطعت أن أتذكره من الحكم. ولكن ذلك كله لم يجدني شيئا.
ثم سمعت صوتا لا شك في أنه كان صوت حيوان مسكين يعاني الآلام المبرحة بين أنياب عدو مفترس أو مخالبه أو أظافره. فوقفت حيث كنت وجعلت أستمع. وأمسكت أنفاسي فسمعت الصرخات تتوالى في فزع، ثم سمعتها تضعف قليلا قليلا ثم انقطعت فجأة. لقد استسلم الحيوان المسكين بعد أن ضعف واسترخى وخضع لما لا حيلة له فيه، وذهب إلى المصير المحتوم في جوف الوحش المفترس، كما ذهب ألوف وألوف من أسلافه على مر الدهر الطويل.
ولم يكن من العجيب أن يسطو حيوان على آخر في الغابة؛ فإن هذا هو قانونها الأزلي. ولم يكن من العجيب أن أجد مثلا جديدا من احتيال الكائنات على اقتناص الرزق؛ فإن قانون الغابة كان دائما هكذا: من عز بز، ومن غلب افترس، ومن استطاع صيدا اصطاد، ومن قدر على الروغان راغ. ولكني مع هذا اهتززت هزة عنيفة عند سماع ذلك الصوت. فلما عاد السكون العميق إلى الغابة خيل إلي أن ذلك الصمت أكثر ضجة من أعنف الهيعات في معامع الحرب. وصرت كلما خطوت خطوة تمثلت حولي نضالا متصلا فيه فتك وفيه فناء وفيه مطاردة وهروب. وكلما مررت بكومة من الأوراق الجافة وسمعت بينها خشخشة تمثلت لي صورة معركة دامية بين قوي وضعيف أو بين سريع وبطيء. ولج بي التصور حتى ضاقت نفسي بالسكون الشامل الذي لا ينطوي على سلام بل يستر تحته حربا متصلة قاسية.
وتمنيت لو تمزق هذا الصمت عن زمجرة الأسود وضحكات الضباع وفحيح الأفاعي؛ فقد كان ذلك أرفق بنفسي لأنه لا يخدعها بمظهر كاذب من سلام مموه خداع. وبدت لي الحياة الإنسانية عند ذلك جنة نعيم إذا قيست بالحياة في هذه الغابة الساكنة؛ لأن الإنسان قد أقام قوانين تحمي الضعفاء من الأقوياء، وتبيح للبطيء أن يسعى على بطئه، وللصغير أن يبقى على هوان أمره. وأسرعت في سيري وأذهلني الاضطراب عن التفكير في مكاني أو في المآل الذي ينتهي إليه سيري، وجعلت أخبط بين الشجر خبط عشواء، لا أبالي أين تحملني قدماي. ولم أتنبه إلا فجأة وقد لاحت لي بين الأشجار عن بعد أنوار لهيب تسطع فوق الجذوع والأغصان. فعادت إلي صورة صاحبي الفارس، فاتجهت إليه، وكان السير قد أجهدني واضطراب الفكر قد نال مني، فأحسست بتعب شديد يشيع في أعضائي، وتمنيت لو اتخذت من بعض أكوام الورق الجاف فراشا. ولكني تحاملت على نفسي حتى بلغت مكان الفارس، فوقفت لحظة أنظر إليه وهو منصرف إلى إعداد طعامه، ينحني على النار ليضع فيها أعوادا تزيدها ضراما، ويميل عليها ينفخ فيها ورأسه الأصلع يلمع في ضوئها والشرر يتطاير من حوله. فلما أحس بمقدمي رفع رأسه وهو يبسم سرورا، حتى بدت أسنانه السوداء من تحت شاربيه. فارتميت إلى جانبه خائر القوى، وخرجت مني آهة نفست بها عن صدري. فقال لي بعد أن نفخ في النار نفخة: «لقد سرت طويلا.» فقلت له في صوت ضعيف: «أما نضج طعامك؟»
فقال في مرح: نعم كاد ينتهي، حساء وأرز بقطعة من زند البقر.
فقلت له: هنيئا مريئا.
فقال وهو يبلع ريقه: وسنبوذج ولوزينج.
فقلت ضاحكا: إنها وليمة.
فضحك وقال وهو يشير إلى زق من جلد المعز: وكأس من النبيذ المعتق.
فقلت مبادرا: أما هذا فلا شأن لي به.
Página desconocida