فقلت: إذن مت جوعا.
وما كان أشد عجبي إذ سمعته يقول: فليكن! وماذا علي لو مت جوعا إذا كنت من الخالدين بعد موتي؟ إنها ضريبة العظمة، إنها ثمن الخلود.
فنظرت إليه وهززت رأسي أسفا؛ إذ إنني أبوه الذي جاء به إلى الحياة.
ولست أدري من ذا الذي يلقي مثل تلك الأوهام في عقول هؤلاء المساكين؟ أم لعلها تنبت في الرءوس بغير أن يلقي أحد بذورها كما تنبت الحشائش على جانبي نهر ماهوش.
ولو كان أمر عجيب ولدي لا يزيد على هذا الهراء لهان الأمر عندي، ولكنه كاد يؤدي به يوما إلى الهلاك - حماك الله يا ولدي.
كنت يوما جالسا في الحديقة عند الساقية، فمر بي عجيب وكان يقرأ في معجمه، فلما اقترب مني نظر إلي باسما في خبث، وكان ظريفا فلم يعرج علي ولم ينشد لي شيئا من تأليفه ولا من محفوظه. فلما بعد عني لم تبعد صورته عن ذهني، وجعلت أفكر في حاضره وفي مستقبله، وأسأل الله له الهداية. ثم جاء صديقي أبو النور فجلس إلى جانبي وأخذنا نتحدث، فشاركني فيما كنت فيه من التفكير في أمر ولدي، ولما رآني لا أرضى له صناعة الأدب سألني في سذاجة: وهل اخترت له صناعة أخرى تكون أجدى عليه؟
فاندفعت قائلا في حماسة: ماذا تقول يا رجل؟ لقد حسبتك أعلم بالحياة من ذلك! إن كل صناعة أخرى وكل تجارة غير هذه المهنة أجدى على أي شاب يريد أن يحيا، فليكن طبيبا إذا شاء أو حجاما أو منجما، فلن يزاحمه في صناعته إلا من كان له شيء من العلم بصناعته. فالناس يفتحون أعينهم ويسألون عن الطبيب قبل أن يسلموا إليه أبدانهم للعلاج، ويسألون عن الحجام قبل أن يأذنوا له بأن يسيل الدم من عروقهم، ويسألون عن المنجم قبل أن يعطوه أجره على تضليلهم، أو فليكن فقيها فإنها تجارة رابحة ولن يزاحمه فيها إلا من كابد مشقة الحفظ وأعمى عينيه من طول القراءة، أو فليكن خبازا فالناس لا يتدسسون بين الخبازين إذا لم يكونوا قادرين على صناعة الرغيف. فليكن أي شيء من هذا أو غير هذا؛ لأنه عند ذلك يصير صاحب حرفة محدودة معروفة، لها قيود وفيها أسرار تمنعها عن الدخيل وتحميها من الدعي، ولكن لا يبلغن به السفه أن يدخل برجليه إلى تلك الرملة الخوانة التي يسمونها صناعة الأدب.
وقد نسيت في حماستي أنني أخاطب صديقي، وحسبت أنني أتحدث إلى نفسي لا يسمعني أحد غيري، ولكني شعرت فجأة بهزة في ساعدي، فتنبهت فإذا أبو النور يقول لي: أقول لك أما تسمع؟
فسكت وتلفت حولي، فطرقت أذني صرخة مكتومة كأنها خارجة من بطن الأرض، فقمت مع صاحبي نركض باحثين عن مبعث الصوت في أنحاء الحديقة فلم نجد شيئا، واتهمنا أسماعنا وعدنا إلى الساقية نلقف أنفاسنا، وهممت أن أسأل صديقي عن رأيه في الأشباح التي ترفع أصواتها في الليل، هل يمكن أن تصرخ في وضح النهار؟ وإذا بالصراخ المكتوم ينبعث مرة أخرى كأنه يصعد من تحت أقدامنا، فنظرت إلى صديقي مدهوشا وهمست: بسم الله الرحمن الرحيم.
ولكني رأيته يذهب إلى شفة البئر التي تحت الساقية وينظر من فوهتها، فسرت وراءه وأطللت برأسي، فماذا رأيت؟ كان هناك رأس ولدي عجيب فوق سطح الماء، وهو يحاول أن يسند نفسه على الجدار الأملس ويضطرب برجليه في الماء، وسمعته يصيح: الوهس! الوهس! الوحي الوحي، الجدار المتملس يحاور كفي، وسراب الماء يداعب أنفاسي، والهلاك المشمخر يراود أجلي.
Página desconocida