الصاحب والخليفة أبو بكر الصديق
الصاحب والخليفة أبو بكر الصديق
Géneros
ثبات الصديق أمام فتنة الأولاد
نوع آخر من الثبات للصديق ﵁ وأرضاه: ثبات الصديق أما فتنة الأولاد: الأولاد فتنة كبيرة، والمرء يقبل أن يضحي تضحيات كثيرة إذا كان الأمر يخصه هو شخصيًا، ولكن إذا ارتبط الأمر بأولاده فإنه قد يتردد كثيرًا، وغالبًا ما يحب الرجل أولاده أكثر من نفسه، كما أن ضعف الأولاد ورقتهم واعتمادهم على الأبوين يعطي مسوغات قد يظنها الرجل شرعية للتخلف عن الجهاد بالنفس والمال، قال الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التغابن:١٤]، روى الترمذي وقال: حسن صحيح: أن رجلًا سأل ابن عباس ﵄ عن هذه الآية فقال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي ﷺ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي ﷺ، فلما أتوا النبي ﷺ بعد ذلك رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم -يعني: أولادهم؛ لأنهم منعوهم أن يأتوا إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التغابن:١٤]، وانظر الآية التالية مباشرة لهذه الآية في سورة التغابن يقول الله ﷿ فيها: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [التغابن:١٥].
هكذا بهذا التصريح وهذا التقرير الواضح: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [التغابن:١٥]، فأين أبو بكر الصديق ﵁ وأرضاه من هذه الآيات ومن هذه الفتنة؟ القضية كانت في منتهى الوضوح في نظر الصديق ﵁ وأرضاه، فأوراقه كانت مرتبة تمامًا، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله ونصرة رسول الله ﷺ مقدمة عنده على كل شيء، فـ الصديق مع رقة قلبه ومع عاطفته الجياشة ومع تمام رأفته بأولاده كان لا يقدم أحدًا منهم مهما تغيرت الظروف على دعوته وعلى جهاده، وما فتن بهم لحظة، بل أعلن الدعوة مع رسول الله ﷺ في مكة ودافع عن الرسول ﷺ حتى كاد أن يقتل، ولم يفكر أنه إذا مات سوف يخلف وراءه صغارًا ضعافًا محتاجين في وسط من الكفار المتربصين، فكان يجاهد ويعلم أنه إذا أراد فعلًا الحماية للذرية الضعيفة عليه أن يتقي الله ﷿، وأن ينطلق بكلمة الدعوة وكلمة الحق مهما كانت العوائق، قال ﷿: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء:٩].
والصديق لما هاجر مع رسول الله ﷺ كان يبكي من الفرح؛ لأنه سيصحب رسول الله ﷺ في طريق مليء بالمخاطر مخلفًا وراءه ذرية في غاية الضعف، ويعلم أن قريشًا ستهجم على بيته لا محالة، وقد حدث ذلك وضرب أبو جهل عليه لعنة الله أسماء بنت الصديق ﵄ فسال الدم منها، فما رأى الصديق كل ذلك، بل كل ما رآه هو نصرة رسول الله ﷺ والطريق إلى الله ﷿، وليس هذا فقط ولكنه حمل كل أمواله معه، وكل ما تبقى بعد الإنفاق العظيم كان (٥٠٠٠) درهم حملها جميعًا لرسول الله ﷺ، وماذا ترك لأهله؟ ترك لهم الله ورسوله.
إنه يقين عجيب وثبات يقرب من ثبات الأنبياء، وأبو قحافة والد الصديق ﵁ كان طاعنًا في السن وقت الهجرة، وكان قد ذهب بصره؛ فدخل على أولاد الصديق وهو على وجل من أن الصديق قد أخذ كل ماله وترك أولاده هكذا، هو يعرف أن الصديق سيأخذ المال، لكن الابنة الواعية الواثقة المطمئنة أسماء بنت الصديق ﵂ وعن أبيها وضعت يد الشيخ الكبير على كيس مملوء بالأحجار توهمه أنه مال، فسكن الشيخ لذلك، هذا الشيخ الكبير لم يفهم هذه التضحيات، ولن يفهمها أحد إلا من كان على يقين يقارب يقين الصديق ﵁.
والصديق في موقف الهجرة يوظف أولاده في عملية خطيرة إنها عملية التمويه على الهجرة وهي عملية قد تودي بحياتهم في وقت شط الغضب بقريش حتى أذهب عقلها، فـ عبد الله بن الصديق ﵄ كان يتحسس الأخبار في مكة نهارًا ثم يذهب ليلًا إلى غار ثور يخبر الرسول ﷺ وأباه بما يحدث في مكة، ويظل حارسًا ع
5 / 5