الرد على التعقيب الحثيث للشيخ عبد الله الحبشي
الرد على التعقيب الحثيث للشيخ عبد الله الحبشي
Editorial
مطبعة الترقي
Ubicación del editor
دمشق - سوريا
Géneros
الرد على
التعقيب الحثيث
للشيخ عبد الله الحبشي
وهو مجموع مقالات نشرت تباعًا في مجلة التمدن الإسلامي الغراء
بقلم
مُحَمَّد ناصر الدين الألباني
خادم السنة
١٣٧٧ هـ - ١٩٥٨ م
بسم الله الرَّحمن الرحيم الحمد لله الذي مَنَّ علينا فهدانا للإسلام، ووفَّقَنا لاتباع سنة نبيه ﵊، والانتصار لها، والذبِّ عن حوضها، والرد على من خالفها أو حاد عنها. والصلاة والسلام على رسوله القائل: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها" وعلى آله وصحبه ومن تبعهم على الأخذ بها وإيثارها على كل ما خالفها. أما بعد: فهذه رسالة لطيفه، في الرد على رسالة فضيلة الشيخ عَبْدُ الله الحبشي التي سماها "التعقب الحثيث على من طعن فيما صح من الحديث" أو "تحقيق البيان في إثبات سبحة أهل الإيمان"! لَعَقَّبني فيها -بزعمه- في ثلاثة أحاديث كنتُ تكلمت عليها في بعض مقالاتي التي تنشر تباعا في "مجلة التمدن الاسلامي" الزاهرة، تحت عنوان "الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة"، حكمت فيها بوضع حَدِيث "نعم الذكر السُّبحة، وضعف سند حديثي صفية وسعد ﵄ في التسبيح بالحصى أو النوي، فادَّعى الشيخ أن الحديث الأول ضعيف ليس بموضوع، وأن الحديثين الآخرين صحيحان! وبني على ذلك مشروعية عَدّ الذكر بالسبحة وحملها، بل جَعَلَها من شِعار أهل الأيمان! ولو أن فضيلته ذهب إِلَى ما ذهب إليه دون أن يتعرض للرد علينا بما يخالف علم الحديث واصطلاحاته التي قررها العلماء -لما سمحنا لأنفسنا بالرد عليه، لأن له الحق أن يرى ما يشاء ما دام أَنَّهُ يظنه مشروعًا، والرد على مثل هذه الآراء لا يمكن أن ينتهي! ولكن لمَّا كان الشيخ قد خرج في رده على تلك القواعد، وخالفها مخالفة بينة، بل ونسب إلينا ما لم نقله وَلَا ندين الله به، رأيت أَنَّهُ لا بد من الرد عليه، وبيان أخطائه حَتَّى لا يغتر بها من لا علم عنده، وينسب إلينا ما لم نقله.
بسم الله الرَّحمن الرحيم الحمد لله الذي مَنَّ علينا فهدانا للإسلام، ووفَّقَنا لاتباع سنة نبيه ﵊، والانتصار لها، والذبِّ عن حوضها، والرد على من خالفها أو حاد عنها. والصلاة والسلام على رسوله القائل: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها" وعلى آله وصحبه ومن تبعهم على الأخذ بها وإيثارها على كل ما خالفها. أما بعد: فهذه رسالة لطيفه، في الرد على رسالة فضيلة الشيخ عَبْدُ الله الحبشي التي سماها "التعقب الحثيث على من طعن فيما صح من الحديث" أو "تحقيق البيان في إثبات سبحة أهل الإيمان"! لَعَقَّبني فيها -بزعمه- في ثلاثة أحاديث كنتُ تكلمت عليها في بعض مقالاتي التي تنشر تباعا في "مجلة التمدن الاسلامي" الزاهرة، تحت عنوان "الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة"، حكمت فيها بوضع حَدِيث "نعم الذكر السُّبحة، وضعف سند حديثي صفية وسعد ﵄ في التسبيح بالحصى أو النوي، فادَّعى الشيخ أن الحديث الأول ضعيف ليس بموضوع، وأن الحديثين الآخرين صحيحان! وبني على ذلك مشروعية عَدّ الذكر بالسبحة وحملها، بل جَعَلَها من شِعار أهل الأيمان! ولو أن فضيلته ذهب إِلَى ما ذهب إليه دون أن يتعرض للرد علينا بما يخالف علم الحديث واصطلاحاته التي قررها العلماء -لما سمحنا لأنفسنا بالرد عليه، لأن له الحق أن يرى ما يشاء ما دام أَنَّهُ يظنه مشروعًا، والرد على مثل هذه الآراء لا يمكن أن ينتهي! ولكن لمَّا كان الشيخ قد خرج في رده على تلك القواعد، وخالفها مخالفة بينة، بل ونسب إلينا ما لم نقله وَلَا ندين الله به، رأيت أَنَّهُ لا بد من الرد عليه، وبيان أخطائه حَتَّى لا يغتر بها من لا علم عنده، وينسب إلينا ما لم نقله.
المقدمة / 1
وقد كنا نشرنا ردنا هذا في المجلة المذكورة في مقالات متسلسلة، ثم جمعناها في هذه الرسالة، ليسهل مراجعتها عند الحاجة، ويطلع عليها من شاء ممن لم يكن وقف عليها في المجلة، جزى الله القائمين عليها خيرًا.
وأملي أن يجد القراء الكرام فيها ردًا عادلًا، لا يداهن أحدًا، وَلَا يطعن في أحد ظلمًا، لأن القصد بيان الحق، وتيسير الطريق إليه، ليهتدي من شاء الله له الهدي، وأمَّا من أعرض وَأَبي، وعاند ونأي، فلا سبيل إِلَى إقناعه ولو جئته بكل دليل! .
وسيجد القراء فيها -إن شاء الله تعالي- نموذجًا بديعًا من الأسلوب العملي في تطبيق الفروع على الأصول، سواء ما كان منها في أصول الحديث أو الفقه، وبيانًا لمنهجنا في تضعيف الأحاديث، وتحقيقًا في بعض القواعد الحديثية التي غفل عنها كثير من المشتغلين بالسنة فضلًا عن غيرهم! وتذكيرًا ببعض القواعد الأصولية التي يجب استحضارها والأخذ بها لمن يريد أن يستحسن شيئًا مِمَّا لم يكن من قبل! .
وأوردنا فيها بعض الآثار في التحذير من الابتداع في الدين، ونبهنا على بعض البدع التي ابتلي بها من لا علم عنده بالسنة! وغير ذلك من الفوائد التي ستمر بالقارئ الكريم إن شاء الله تعالي.
أسأل الله ﵎ أن ينفع إخواني المسلمين بها، ويدَّخر لنا أجرها في العقبى.
والحمد لله وكفي، وسلامه على عباده الذين اصطفى.
دمشق: ٢٢/ ١١/ ١٣٧٧
أبو عبد الرَّحمن
محمد ناصر الدين الألباني
المقدمة / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة: عَرَفَتْ دمشقُ محدثَها الأكبَر العلامة الشيخ بدر الدين الحسيني، فلما توفاه الله خلت الديار من إمام تتجه الأنظار إليه في علوم الحديث، غير أن فتي أرناؤوطيًا - (نشأ نشأة علم وتقى، وكان له من اسمه نصيب هو الأستاذ محمد ناصر الدين) - عرف في أوساط الشباب بخدمته الحديث وعلومه، وجمع الشباب عليه، واشتهر بينهم، واستطاع بفصاحة لسانه العربي وطلاوة حديثه، وجودة مناقشته، أن يستأثر بنخبة تأخد عنه وتتلمذ عليه.
وإذ كان الحديث ثاني مصدر للفقه الإسلامي بعد كتاب الله، وكان يعتمد ما صح عند أهل الحديث مذهبًا لأهل الفقه، لذلك اشتهر بعض أنصار الشيخ ناصر بتركهم من الأحكام المذهبية ما عرفوا فيه حديثًا ثابتًا صحيحًا، وبعضهم كان يثير اللفظ، ومن هنا تألب على الأستاذ من تألب.
وأخيرًا نزل في دمشق الشيخ عبد الله بن محمد من آل شيبة (سدنة الكعبة) (وهو وليد الحبشة في هرر في ثالث بطن من مهاجرة أسرته)، وهو يحفظ من أحاديث رسول الله ﷺ عشرة آلاف بروايتها، وله في فقه الشافعية حظ وافر، وكان مقدمه لدمشق لتتبع كتب الحديث وجمع قراءات القرآن ونحو هذا من خدمة الشريعة وعلومها.
ورأى فيه جماعة من أهل الدين والعلم خليفة للشيخ بدر الدين ﵀، فاستنصروا به على الشيخ محمد ناصر الدين، فجرت بينهما مباحثة في جو سبقت له الدعاية بين الطرفين بما جعل الشيخ عبد الله ينقطع عن المباحثة قبل الانتهاء إلى غاية الشوط، حتى إذا رأى الأستاذ الشيبي من بعدها بحوثًا تنشرها مجلتنا للشيخ محمد ناصر الدين في الأحاديث الضعيفة والموضوعة، فإنه تتبع منها ما خالفه به في حديث "السبحة"، وأرسل إلينا بذلك مقالة هممنا بنشرها، ثم ما لبث أن نشر رسالة بعنوان "التعقيب الحثيث على من طعن فيما صح من الحديث".
1 / 1
وإذ كانت خطة المجلة أن تمهد الأسباب لنشر الحقيقة وتتجنب ما وسعها مجال الأخذ والرد بغير طائل، وكنا لمثل ذلك نجمع عادة بين وجهات النظر المختلفة بعرض حجة الفريقين المختلفَين معًا، لذلك فإننا عرضنا على الشيخ محمد ناصر الدين هذه الرسالة فأوجز ما أتى به الأستاذ الشيبي، وبين نقاط الاختلاف؛ وبسط خلال ذلك من قواعد "الجرح والتعديل" بمناقشة رصينة ما تتضاعف به فائدة القراء، وهذا ما سيراه القاريء الكريم، ورائدنا أن يحصحص الحق لطالبيه، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
* * *
قال الأستاذ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني:
موضع الخلاف بيني وبين الشيخ: يدور الخلاف بيني وبين فضيلة الشيخ عبدالله في ثلاثة أحاديث:
الأول: (نعم المذكر السبحة).
الثاني: عن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع رسول الله ﷺ على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به، فقال ﷺ: (أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل)؟ فقال: (سبحان الله عدد ما خلق في السماء ... الحديث).
الثالث: عن صفية قالت: دخل علىّ رسول الله ﷺ وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بهن ... الحديث، نحو الذي قبله. .
فذهبت أنا في مقال نشرته هذه المجلة الكريمة في الجزأين (٩ و١٠ السنة ٢٢) إلى أن الحديث الأول ضعيف السند موضوع المتن؛ وإلى أن الحديثين الآخرين إسنادهما ضعيف، وأنّ ذكر الحصى في الثاني منهما منكر لمخالفته لحديث جويرية الصحيح في مسلم الذي ليس فيه ذكر الحصى. (١)
أما حضرة الشيخ فإنه ذهب في رسالته الآنفة الذكر إلى أن الحديث الأول ضعيف فقط وأن الآخرين صحيحان؛ ولكي يتضح القاريء اللبيب الصواب من هذا الخلاف لابد من أن أذكر الأصول التي بنى الشيخ عليها تضعيفه وتصحيحه، ثم أعود فأجيب عنها بما ييسر الله ﷾.
_________
(١) تم طبع المقال مع المقالات الأخرى في الصحيفة (١/ ١١٠/ ١١٧).
1 / 2
الأصول التي بني عليها الشيخ تضعيف الحديث فقط: [لقد قرر فضيلة الشيخ (ص ٥ - ٩) فيما يتعلق بالحديث الأول أصولا:
أولًا: أنه لا يحكم على الحديث بالوضع بمجرد كون الراوي منكر الحديث أو مجهولًا، بل الأمران من أسباب الضعف الوسطي.
ثانيًا: ولا يحكم عليه بذلك بمجرد أن الراوي يكذب.
ثالثًا: يمنع العمل بالضعيف الشديد لضعف -سوى الموضوع- وهو الذي ينفرد به كذاب أو متهم بالكذب أو من فحش غلطه (ص ٣٨).
رابعًا: ومن القرائن التي يدرك بها الموضوع ما يؤخذ من حال المروي، كأن يكون مناقضًا لنص القرآن والسنة المتواترة أو الإجماع القطعي أو صريح العقل حيث لا يقبل شيء من ذلك التأويل، كما نقله عن الشيخ علي القاري (ص ٩).
الجواب عن هذه الأصول: أقول في الجواب على هذه الأصول على الترتيب السابق:
١ - هذا الأصل صحيح وهو غير وارد علي، لأنني لم أحكم على الحديث الأول بالوضع بمجرد أن في رواته مجهولًا أو منكر الحديث، بل لأنه انضاف إلى ذلك أن السبحة بدعةً وأنها مخالفة لسنة العقد بالأنامل، وكلامي في "المقال المشار إليه" صريح في ذلك لأنني قلت: بعد أن تكلمت على رجال إسناد الحديث (ص ٢٠١).
"فثبت أنه إسناد ضعيف لا تقوم به حجة".
وتمام هذا الكلام: "ثم إن الحديث من حيث معناه باطل عندي لأمور" وهذا نقله الشيخ (ص ١٢) دون الذي قبله!
ولكن الشيخ -سامحه الله- لما نقل كلامي في رسالته (ص ٣ - ٤) ليردَ عليه نقله مختصِرًا هذه الجملة الهامة من كلامي، فبنى رده علي دون النظر إليها، فوقع في هذه الخطيئة المكشوفة التي نسبني بسببها (ص ٥) إلى مخالفتي لأهل الحديث! ولم يكتف حضرته بأن سود أربع صفحات في هذا الأصل الذي لا خلاف فيه، بل عاد في آخر الرسالة (ص ٢٩) فعقد فصلًا آخر في أن الجهالة والنكارة لا يوجبان الوضع، ثم سود لبيان ذك خمس صفحات أخرى، ما كان أغناه عن تضييع الوقت في كتابتها لو أنه تأمل جملتي السابقة
1 / 3
المصرحة بأن إسناد الحديث ضغيف! لو أنه فعل ذلك لما اتهمني بقوله في هذه الفصل (ص ٤١):
"فيه دليل لرد ما زعمه هذا الرجل من أن رواية الراوي للمناكير دليل على كون حديث موضوعًا ... "
أنا لم أقل هذا أيها الشيخ ألبتة ولا أعتقده، بل أعتقد خلافه، وهذا هو المقال في "المجلة المحترمة" ففي أي صحيفة منها هذا الذي تنسبه إليّ؟ ! وأنا بفضل الله تعالى قد مضى علي نحو عشرين سنة في دراسة علم الحديث الشريف أصولًا وفروعًا مع تحقيقه عملًا بإرجاع الفروع إلى الأصول، فثكلتني أمي إذن إن كنتُ زعمتُ هذا الذي تنسبه إلي! فقليلًا من التروي والإنصاف يا حضرة الشيخ!
٢ - خطأ الشيخ في قوله: "إنه لا يحكم على الحديث بالوضع "لكذب الراوي"! هذا الأصل مردود بقول الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة":
"ثم الطعن إما أن يكون لكذب الراوي، أو تهمته بذلك، أو فحش غلطه أو غفلته ...، فالأول: الموضوع (قال الشيخ على القاري في شرحه (ص ١٢٢ - ١٢٣): وهو الطعن بكذب الراوي)، والحكم عليه بالوضع إنما هو بطريق الظن الغالب لا القطع، والثاني المتروك" قال القاري (ص ١٣٠): "وهو ما يكون بسبب تهمة الراوي بكذب" - والثالث: المنكر على رأي".
فأنت ترى أن الحافظ جعل وصف الراوي بالكذب أعلى مراتب الجرح، وجعل حديث من كان من هذه المرتبة "موضوعًا"، وجعل المتهم بالكذب في المرتبة الثانية في الجرح، وجعل حديثه "متروكا"، وهو الشديد الضعف.
فانظر كيف خلط حضرة الشيخ بين المرتبتين فجعلهما مرتبة واحدة، وجعل حديث الكذاب "الموضوع" والمتهم بالكذب "المتروك" في رتبة واحدة وهو الشديد الضعف! .
ومما يدلك على وهمه قول الإمام الصنعاني فيه توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار"
(ج ٢ ص ٢٧٢) بعد أن ذكر مراتب الجرح ومنها المرتبتان الأوليان الواردتان في كلام الحافظ: "ولا تقول في الكذاب أي فيمن وصفوه بذلك إنه متهم بالكذب لأن الأولى تفيد أنه معروف به، والثانية تفيد نفي ذلك وإنما عنده مجرد تهمة".
1 / 4
والخلاصة: إن رواية الكذاب لحديث ما كان في الحكم عليه بالوضع لخصوص هذه الطريق، وعليه جرى عمل النقاد في الحكم على الحديث بالوضع لرواية أحد الكذابين له، كما فعل ابن الجوزي في "الموضوعات" والسيوطي في "ذيله" ولآلئه وغيرهما.
ولا يخالف هذا ما نقله المؤلف (ص ٩) عن الحافظ العراقي "أن مطلق كذب الراوي لا يدل على الوضع" لأنه يعني أنه لا يدل على الوضع قطعًا لاحتمال صدقه ومتابعة غيره له؛ ولكن هذا لا ينفي الحكم عليه بالوضع بطريق الظن الغالب (١) كما سبق عن الحافظ ابن حجر، وبهذا يلتقي قوله مع قول شيخه الحافظ العراقي، والظن الغالب قامت عليه غالب الأحكام الشرعية، ومنه ما نحن فيه، ولا يجوز تركه إلا بدليل أقوى منه، كأن يروي الحديث الذي رواه الكذاب رجل غيره وهو ثقة، فحينئذ يحتج بهذا الحديث، ونقول إنه تبين لنا صدق هذا الكذاب في هذا الحديث لموافقته للثقة، كما أشار لذلك قوله ﷺ في حديث الجني: "صدقك وهو كذوب"! وأما عند فقدان هذا الشاهد الثقة فحديث الكذاب موضوع بلا شك. فقد تبين للقاريء مما سبق من الذي "خالف علم الحديث"؟ !
٣ - خروجه عن المحدثين: في قوله أن الحديث الشديد الضعف هو ما تفرد به كذاب! لا أعلم أحدًا سبق المؤلف إلى وصف الحديث الشديد الضعف - (الذي لم يصل إلى رتبة "الموضوع") - بأنه الذي يتفرد به كذاب! بل لا يشك كل من شم رائحة علم الحديث في (وضع) ما تفرد به كذاب، والذي يمنع بعضهم من الجزم بوضعه هو احتمال أن يكون له طريق آخر خير من طريقه؛ أما والبحث فيما تفرد به كذاب فلا شك في وضعة من وجهة اصطلاح المحدثين، وكلام الحافظ ابن حجر المتقدم من أوضح الأدلة على ذلك، والكلام في بطلان كلمة الشيخ هذه طويل الذيل، فلا نطيل المقال بذكره، وإنما يكفي في بيان خطأه في ذلك أنه يسوي بين حديث من هو كذاب، وبين حديث من هو صدوق ولكنه فاحش الخطأ، وهذا مما لا يقول به أحد غير الشيخ! والذي يعتقده العلماء أن حديث الكذاب موضوع، وحديث الفاحش الخطأ ضعيف جدًا كما سبق.
وغالب ظني أن الشيخ أتي مما نقله السيوطي في "التدريب" (ص ١٠٨) عن
_________
(١) وانظر شرح نخبة الفكر لعلي القاري (ص ١٢٣ - ١٢٤).
1 / 5
الحافظ أنه ذكر الحديث الضعيف ليعمل به في فضائل الأعمال "ثلاثة شروط":
أحدها: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه".
فهذا شيء، مقبول معروف، وما ذكره الشيخ فهو مجهول مرفوض.
٤ - تحقيق القول في القرائن التي يدرك بها الموضوع:
أقول: هذه القرائن التي نقلها الشيخ عن الحافظ ابن حجرُ مسلَّم بها، ولكن هنا في كلام الحافظ دقيقة يجب أن ينتبه لها وهي أن كلامه هذا ليس مقصودًا به الحديث الذي في سنده متهم، بل هو خاص بما كان ظاهر إسناده الصحة التي توجب العمل به، فيرد حينئذ بالمناقصة التي وردت في كلام الحافظ، ولا يمكن حملها على الحديث الذي يرويه كذاب لأمور منها: أولًا: أن كونه من رواية العذاب مسقط له، ولا حاجة حينئذ إلى رده بالمناقضة، ثانيًا: إن التأويل فرع التصحيح، فإذا كان السند موضوعًا كفانا مؤنة التأويل كما لا يخفي، فظهر أن كلام الحافظ لا يقصد به الحديث الذي لا تقوم باسناده حجة.
والغرض من هذا أنني أقول إن الحديث الضعيف السند يحكم بوضعه بقرائن أخرى قد تكون دون التي سبقت في القوة، من ذلك أن يكون مخالفًا للسنة الصحيحة ولو لم تكن متواترة، ويؤيد في في هذا قول الحافظ ابن كثير في "اختصار علوم الحديث" (ص ٨٥) في صدد ذكر الشواهد على الحديث الموضوع:
"ومن ذلك ركاكة ألفاظه، وفساد معناه، أو مجازفة فاحشة، أو مخالفته لما ثبت في الكتاب والسنة الصحيحة"
فتأمل كيف أطلق السنة الصحيحة ولم يقيدها بـ "المتواترة" ذلك لأن كلامه أعم من كلام الحافظ كما ظهر بهذا البيان.
سقوط انتقاد الشيخ لحكمي على الحديث بالوضع: إذ تبين رأينا فيما قرره حضرة الشيخ من القواعد الأربعة، وعرف ما صح منها عند المحدثين وما لم يصح، لم يسلم له انتقاده إياي في حكمي على حديث السبحة بالوضع لأمرين:
1 / 6
الأول: أنني ضعفت إسناده والشيخ وافقني على تضعيفه من هذه الناحية، ولم أحكم بسببها عليه بالوضع فسقط احتجاجه علي بالقاعدة الأولي.
الثاني أنني حكمت بوضعه لأن السبحة بدعة، ولأن التسبيح بها خلاف السنة العملية، كما بينته في "المقال"، فيسقط بهذا قول الشيخ (ص ١٣) بعد أن نقل كلامي في الحكم عليه بالبطلان:
"إبطالك هذا باطل، فمن أين ينطبق هذا على ما قالوه فيها يدرك به الموضوع؟ وهو ما قدمناه عن الحافظ ابن حجر أن يكون الخبر مناقضًا لصريح العقل".
ووجه سقوطه أن كلام الحافظ مُنْصَبٌّ على الحديث الصحيح الإسناد إذا افترض مخالفته لصريح العقل كما سبق بيانه، وحديثنا هذا ليس كذلك، بل هو ضعيف، فالحكم بطلانه أسهل من الحكم ببطلان الصحيح الإسناد بلا شك، وليس شرطًا أن يكون مناقضًا لصريح العقل، بل يكفي فيه أن يكون مخالفًا السنة الصحيحة مثلًا كما أفاده كلام ابن كثير السابق.
بدعة السبحة ومخالفتها للسنة كنت برهنت في "المقال" الذي رد عليه الشيخ أن السبحة بدعة، وأن التسبيح بها مخالف لهديه ﷺ في التسبيح بالأنامل؛ وجعلت هذين الأمرين من القرائن الدالة على بطلان الحديث ووضعه، ولكن الشيخ لم يرضه ذلك.
أما القرينة الأولى فردها بمغالطة مكشوفة وهي قوله (ص ١٠):
"فليت شعري أي عقل يحيل إحالة مقطوعة بها وجود السبحة في عهد الرسول ﷺ.
ووجه المغالطة أنني لم أدَّع استحالة وجود السبحة في ذلك العهد المبارك -عقلًا-، لأن ذلك ليس من "ما لا يتصور في العقل وجوده" قطعا، وليست السبحة من المسائل النظرية التي يحكم العقل بإمكانها أو استحالتها، وإنما هي من المسائل المتعلقة بالتاريخ وجودًا وعدمًا، وإذا كان من المقرر عند العلماء أن السبحة لم تكن في عهده ﷺ وإنما حدثت في القرن الثاني، فيصح حينئذ استنكار هذا الحديث باعتبار أنه يحض الصحابة على أمر لا يعرفونه، وهذا -أعني الحض- غير معقول صدوره منه ﷺ مع عدم وجود السبحة فدل ذلك على وضع الحديث وعلى جهل واضعه بتاريخ السبحة.
1 / 7
فهذا هو وجه حكمنا على الحديث بالبطلان، لا ما صوره الشيخ من الإحالة العقلية! وكأن حضرة الشيخ تنبه لهذا الوجه الصحيح ولذلك حاول الإجابة عنه بقوله (ص ١٠): "ولو فرضنا عدم وجودها في ذلك العصر فلا استحالة عقلًا في أن يحض النبي ﷺ أصحابه على شيء ليس بمعروف لهم ليعمل به إذا وجد ... ".
ثم أني على ذلك بمثالين:
الأول: حديث نبيط الأشجعي مرفوعًا: (إن أشد أمتي حبًا لي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني، يعملون بما في الورق المعلق) رواه ابن عساكر. وذكر الشيخ له في التعليق شاهدًا من حديث عمر برواية الحاكم.
الثاني: "حديث أبي داود عن النواس بن سمعان: "ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق".
ضعف الحديث الأول وقصور الشيخ في تخريج الثاني! وبيان عدم دلالتها على غرضه! والجواب على المثال الأول من وجهين:
الأول: عدم التسليم بصحته، فإن في حديث ابن عساكر رجلًا كذابًا، وآخر ضعيفًا، وفي إسناد الحاكم راو ضعيف جدًا قال فيه البخاري: "منكر الحديث" (١) وقال النسائي: "ليس بثقة"، ولذلك رد الذهبي على الحاكم تصحيحه إياه، وللحديث طريق ثالث هو خير من الأولين وهو ضعيف أيضًا، وتفصيل الكلام عليها سيأتي إن شاء الله في مقالات "الأحاديث الضعيفة" التي تبين ضعف كثير من الأحاديث التي يظن صحتها بعض الخاصة فضلا عن العامة!
الوجه الثاني: أن الحديث لو صح فهو صريح في أن "الورق المعلق" -وهو كناية عن المصاحف والكتب- لم تكن في عهده ﷺ فهو ﵊ يمدح الذين ليسوا
_________
(١) يعني أنه لا تحل الرواية عنه كما ذكره السيوطي في "التدريب" (ص ١٢٧) منبهًا على أن هذا هو مراد البخاري بهذه الجملة، وسلم بصحة ذلك عن البخاري، وأما حضرة الشيخ فقد أشار إلى عدم صحة ذلك عنده بقوله (ص ٨): "إن صح" ولازمه أنه لم يثق بتقل السيوطي فما السبب في ذلك مع أنه لم يتفرد بنقله بل سبقه إليه الذهبي في "الميزان" (١/ ٥) نقلا عن ابن القطان، واعتمده الذهبي في رسالته "الموقظة"! ! .
1 / 8
بأصحابه على عملهم بشيء حدث من بعده ﷺ يؤمنون به غيبًا بسبب هذه المصاحف التي يقرؤونها ويعرفون صدقه ﷺ بها فليس في الحديث -لو صح- أي حض الصحابة على العمل بما لا يعرفونه، كيف وهم مؤمنون به حافظون لكتابه عالمون بسيرته؟ ! وهذا بخلاف حديث: (نعم المذكر السبحة) فليس فيه أدنى إشارة إلى أنه ﷺ يحض أصحابه على شيء سيحدث، بل لا يتبادر منه إلا أنه يحضهم عليها وهي معروفة لديهم، فظهر الفرق بينه وبين حديث (الورق المعلق) (١) وسقطت بذلك محاولة الشيخ لإبطال حكمنا على الحديث بالبطلان.
إبطال قول الشيخ: "إن الصحابة كانوا لا يعرفون (المئذنة) "!
وأما المثال الثاني وهو حديث المنارة، فالجواب:
إن استدلال المؤلف به على حض الصحابة على العمل بما لا يعرفونه في الحال من أعجب الأمور في زعمي! وذلك لوجوه:
الأول: أن الحديث غاية ما فيه الإخبار عن نزول عيسى ﵇ عند المنارة، فليس فيه أي حض عليها.
الثاني: من أين للمصنف أن المراد بـ "المنارة" في الحديث: المئذنة التي يؤذن عليها، وليس في الحديث ما يشير إلى ذلك أدنى إشارة، و"المنارة" في اللغة لها معاني أخري: نفي "القاموس": "والمنارة موضع النور كالمنار، والمسرجة، والمئذنة" وفي "لسان العرب": "والمنار جمع منارة وهي العلامة التي تجعل بين الحدين".
فما دام أن لـ "المنارة" معاني عديدة فلا يجوز أن نعين معنى واحدًا منها إلا بدليل وهو مفقود ههنا، ولعل الشيخ يظن أن هذه المنارة هي التي في شرقي مسجد بني أمية ويسميها العامة منارة عيسى ﵇! فقيد الشيخ الحديث بمفهومهم! وهو مردود عليه، سميا وقد قال النووي في "شرح مسلم": "وهذه المنارة وجودة اليوم شرقي دمشق".
_________
(١) ويوضح هذا الفرق أن كل من يقرأ أو يسمع حديث (نعم المذكر السبحة) لا يدور في خَلَده إلا أنه ﷺ يريد سبحة معروفة في عهده لا سبحة ستحدث من بعده، بخلاف حديث (الورق للعلق)، ولما كان من الثابت أنها لم تكن في عهده ﷺ دل ذلك على بطلان الحديث وهذا أمر واضح والحمد لله على توفيقه.
1 / 9
فهو يقول: "شرقي دمشق" لو كان يفهم الحديث كما تفهمه العامة لقال: "شرقي المسجد الأموي".
الثالث: هب أن الحديث أراد "المئذنة" فمن أين للمؤلف أن الصحابة لم يكونوا يعرفون المئذنة؟ ! مع أنها كلمة عربية لها معنى مفهوم عندهم؟ !
قال في "القاموس": "والمئذنة موضع الأذان، أو المنارة والصومعة".
فهذا النص من هذا الإمام في تفسير (المئذنة) يفيد أن لها عدة معان أيضًا لا معني واحدًا فيرِدُ على المؤلف ما أوردناه عليه في "المنارة"، وإذا اختير في تفسير "المئذنة" المعنى الأول وهو موضع الأذان، فهذا شيء معروف لديهم فلا يجوز أن يقالُ لا يعرفونه، وإذا كان قد دخل على المئذنة تطور من حيث البناء فهذا لا يخرجها عن اسمها الذي كان الصحابة يعرفونه طبعًا، وبما أن الحديث يخبر عن أمر غيبي فلا يجوز لنا أن نقيد المئذنة بصفات من عندنا بدون حجة ولا برهان ثم نسب إلى الصحابة عدم معرفتهم بالمئذنة! وخلاصة القول يا حضرة الشيخ أن الصحابة يعرفون المئذنة جيدًا ولكنهم لا يعرفون طبعًا المئذنة التي قامت صورتها لديك، هذه الصورة التي لا تستطيع أبدًا أن تقول أن الرسول ﷺ أرادها في الحديث، وبناء عليه يبطل قولك (ص ١٢): "إن الصحابة كانوا لا يعرفون المئذنة".
وإذا ثبت ما أوردنا من هذه الأمور يتبين للقارئ الكريم سقوط استدلال المؤلف بالحديث على أنه ﷺ حض الصحابة على العمل بما لا يعرفونه! ويظل قولنا إنه "لا يعقل أن يحض الرسول ﵊ أصحابه على أمر لا يعرفونه" سالمًا من المعارضة، وبالتالي تبقى القرينة الأولى على بطلان حديث السبحة قائمة صحيحة (١).
رد قول الشيخ أن لا مخالفة للسنة في التسبح بالسبحة! وتفصيل القول فيما بعد مخالفة وما لا بعد: وأما القرينة الثانية وهي كون التسبيح بالسبحة معارض لهديه ﷺ في التسيح بالأنامل فقد أجاب فضيلة الشيخ عنها بقوله (ص ١٤ - ١٥):
_________
(١) هذا ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أنبه على خطيئة وقع الشيخ فيها وهي أنه عزي حديث المنارة المتقدم لأبي داود فقط مع أنه في صحيح مسلم (ج ٨/ ١٩٧ - ١٩٨)!
1 / 10
"يقال لك: لا يلزم من التسبيح بالسبح بدل التسبيح بالأنامل أن يكون فاعله مخالفًا لهدي النبي ﷺ، وإنما غاية ما فيه أنه ترك الأفضل الذي هو العقد باليمين لكونه الوارد من فعله ﷺ: وقوله".
ثم أطال فضيلته في ذكر نظائر لهذه المسألة، ولو أنا أردنا أن نتعقبه في كل مثال أورده لطال بنا المقال جدًا، ولأثقلنا على المجلة وعلى القراء معًا ولكن "ما لا يدرك كله لا يترك قله" ولذلك فإني سأقول في تلك الأمثلة كلمة جامعة:
إن الأمثلة المشار إليها تنقسم إلى قسمين:
الأولى: ما دل النص على جواز الأمرين وفضلها، وأن أحدهما أفضل من الآخر، هم مثل ما أورده الشيخ من صلاة النوافل في المساجد والبيوت، والنص هو قوله ﷺ: . (أفضل صلاة المرأ في بيته إلا المكتوبة) رواه البخاري ومسلم. وقد يقوم مقامه نص هو من فعله ﷺ لا يظهر للفقيه أنه أفضل من فعله الآخر.
والقسم الآخر: ما جاء النص العملي عنه ﷺ محددًا لشيء من العبادات أو مقيدًا له بصفة؛ ثم لم يأت ما يفيد أن خلافه مشروع وأن له فضلًا دون الذي شرعه ﷺ بفعله، مثل الوضوء بالمد والاغتسال به مع الصاع، فإنه ليس في الشرع ما يدل على مشروعية الزيادة عليه.
فالذي نراه وندين الله به: أن ما كان من القسم الأول فنحن نفضل ما فضله ﷺ ونجيز الأمر الآخر، لأن النبي ﷺ أجازه وجعل له فضيلة دون فضيلة الأمر الأول، مثل صلاة النوافل في المساجد لا لأننا "نرى الناس يصلون الرواتب كلها في المسجد"!
وأما ما كان من النوع الثاني فنحن نجيب الشيخ بصراحة "نعم نحن ننكر عليه إنكارنا للسبحة نظرًا لكونه ترك ما هو الوارد عنه ﷺ"، وقد قال الإمام البخاري في كتاب "الوضوء من صحيحه (١/ ١٨٨ يشرح فتح الباري):
"وكره أهل العلم الإسراف فيه، وأن يجاوزوا فعل النبي ﷺ".
ولا يخفي أنه لا فرق بين أن يزيد على عدد الثلاث أو على كمية الماء إذ كله تجاوز لفعل النبي ﷺ. ومما يؤيد هذا قوله ﷺ:
1 / 11
(إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطُّهور والدعاء) (١).
والاعتداء لا يجوز شرعًا فثبت أنه لا يجوز الزيادة في الماء وضوءًا وغُسلًا على ما حدده الرسول ﷺ، وبهذا يسقط من عين الاعتبار تساؤل الشيخ المستنكر في قوله:
"وأغلب الناس اليوم يأخذون لوضوئهم أكثر من هذا القدر بكثير، فهل نجعل كل من لا يقتصر في وضوئه على المد وفي غسله على الصاع مخالفًا لهديه ﷺ؟ ! "!
وكيف لا يكون من زاد على هديه ﷺ مخالفًا وليس وراء هديه ﵊ إلا الضلال، ولهذا ذهب الشافعية وغيرهم إلى ذم الإسراف في الماء في الوضوء والغسل، وسبق ما نقله البخاري عن أهل العلم في كراهة ذلك، بل ذهب بعض الشافعية مثل البغوي وغيره إلى أنه حرام (٢). وهذا أقرب إلى ظاهر حديث الاعتداء في الطهور المتقدم آنفًا.
وإذا تبين للقراء الكرام هذان القسمان من عبادته ﵊ فقد آن أن نتساءل هل التسبيح بالأنامل بدخل في القسم الأول أم الثاني؟
أما نحن فلا شك أنه من القسم الثاني ولكونه الوارد من فعله ﷺ وقوله" كما قال فضيلة الشيخ نفسه! ولم يأت عنه ﷺ ما يدل على مشروعية خلافه وفضيلته حق بكون العمل به سائغًا مع ترك الأفضل، وعبارة الشيخ التي نحن في صدد الرد عليها صريحة في أن التسبيح بالسبحة له فضيلة ولكن التسبيح بالأنامل أفضل، ولذلك فنحن نطالبه الدليل الشرعي على هذه الفضيلة، وليس لديه إلا هذا الحديث (نعم المذكر السبحة) وهو عندي موضوع، وعند الشيخ ضعيف، فلا يجوز الاستدلال به على كل حال، وأما قياس السبحة على التسبيح بالحصى فقياس مع الفارق، لأن المفاسد التي تنشأ عادة من استعمال السبحة كالرياء والاشتغال بها عن رد السلام كما كنا أشرنا إليه في "المقال" لا تحصل في التسبيح بالحصي، فاختلف المقيس والمقيس عليه، هذا لو صح النسبيح بالحصى عنه ﷺ، وليس بصحيح كما كنا بيناه في "المقال" المشار إليه وسنزيده بيانًا ههنا إن شاء الله.
ومن عجيب أمر الشيخ أنه يصرح (ص ١٥) أن العقد باليمين هو "الوارد من فعله ﷺ وقوله" ويشير بـ "وقوله" إلى حديث يُسَيْرة مرفوعًا:
_________
(١) وهو حديث صحيح كما قال الحاكم والنووي وابن حجر.
(٢) ذكره النووي في "المجموع شرح المهذب" (٢/ ١٩٠).
1 / 12
(عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، ولا تغفُلّنَ فنُنْسَيّن التوحيد - (وفي رواية: الرحمة) -، واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات ومستنطقات) (١).
فهذا أمر بالعقد بالأنامل، معلل بأنهن (مسؤولات ومستنطقات) فكيف يجيز الشيخ لنفسه، وللناس مخالفة هذا الأمر الصريح المعلل بهذه العلة التي تقضي بأنه لا يقوم مقام العقد شيء كالتسبيح بالسبحة أو الحصى لانتفاء العلة منها! !
ومما سبق يتبين للبصير أن الشيخ لم يستطع أن يوهن من شأن القرينتين السابقتين اللتين جعلتهما من الأدلة على بطلان حديث "السبحة" وعلى ذلك فهما سالمتان من النقد قائمتان بدلالتها أتم القيام.
قرينة ثالثة على بطلان حديث السبحة: هذا، وإني لأعتقد أن فيما مضى كفاية في إقناع الشيخ ببطلان هذا الحديث من حيث معناه، ومع ذلك فإني أضيف إلى ما تقدم قرينة أخرى على البطلان فأقول:
جاء في "لسان العرب" ما نصه: "و(السبحة) الخرزات التي يعد المسبح بها تسبيحه، وهي كلمة مولدة".
وفي شرح القاموس للزَّبيدي: "هي كلمة مُوَلَّدة، قال الأزهري، وقال شيخنا: إنها ليست من اللغة في شيء، ولا تعرفها العرب، وإنما حدثت في الصدر الأول إعانة على الذكر وتذكيرًا وتنشيطًا".
ومن المقرر في علوم اللغة وآدابها أن "المولَّد"، ما أحدثه المولدون الذين لا يحتج بألفاظهم، وأنهم الذين وجدوا بعد الصدر الأول (٢).
فهذا يدل دلالة ظاهرة على أن هذا الحديث (نعم المذكر السبحة) مختلق من بعد العصر الأول لأن لفظة "السبحة" ليست من لغته ﷺ ولا من لغة أصحابه بشهادة أهل
_________
(١) وهو حديث صحيح عند الشيخ كما يدل عليه احتجاجه به لاسيما وقد صححه الحاكم والذهبي وحسنه النووي والعسقلاني، وهو لا يستطيع أن يخالفهم كما يدل عليه صنيعه في هذه الرسالة.
(٢) انظر "المزهر في علوم اللغة وأنواعها" للسيوطي (١/ ٣٠٤) و"خزانة الأدب" (١/ ٤).
1 / 13
المعرفة باللغة، فهذا من القرائن التي أشار إليها الحافظ بقوله: "ومن القرائن التي يدرك بها الموضوع ما يؤخذ من حال المروي".
فتبين أن "السبحة" مخترعة ذاتًا واسمًا، وذلك يدل على وضع هذا الحديث قطعًا، والله الموفق.
تعيين واضع الحديث: فإن قيل: فمن هو واضع هذا الحديث؟ فأقول:
كنت ذكرت في "المقال" الذي حققت فيه القول في وضع هذا الحديث احتمال أن يكون آفته، عبد الصمد بن موسي الهاشمي الضعيف، ثم تبين لي الآن أن المتهم به هو "محمد بن هارون بن عيسى بن المنصور الهاشمي" فإنه كان يضع الحديث كما سيأتي، ولكني كنت ذكرت هناك أنه "محمد بن هارون بن العباس بن أبي جعفر المنصور" وأنه من أهل الستر والفضل اعتمادًا مني على ورود نسبه هكذا في ترجمة الخطيب إياه، وذهلت عن الترجمة التي بعدها الموافقة لنسب المترجم. كما ورد في سند الحديث فقال الخطيب:
"محمد بن هارون بن عيسي بن إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور يكنى أبا اسحاق ويعرف بابن بُرَيْنه ... وفي حديثه مناكير كثيرة، وقال الدارقطني: لا شيء".
فأنت ترى أن جد محمد بن هارون راوي هذا الحديث اسمه "عيسي" وكذا هو في هذه الترجمة فهو هو، وأما في الترجمة الأولى فاسم جده العباس وهو مخالف لاسمه في سند الحديث فليس به، وإنما هو هذا المطعون فيه وقد اتهمه ابن عساكر فقال كما ... في "اللسان":
"يضع الحديث" ثم ساق له حديثًا ثم قال!
"هذا من موضوعاته" (١)
وكذلك اتهمه الخطيب فقال عقب الحديث المشار إليه (٧/ ٤٠٣):
_________
(١) لكن الحافظ نازع ابن عساكر في أن يكون الحديث المشار إليه من موضوعات الهاشمي هذا، لأنه قد توبع عليه، ثم اتهم الحافظ به غيره، لكن الشاهد من كلام ابن عساكر قائم على كل حال لتصريحه بأنه "يضع الحديث" وأن له موضوعات غير هذا.
1 / 14
"والهاشمي يعرف بابن بُرَيّه ذاهب الحديث يتهم بالوضع".
فانحصرت شبهة وضع الحديث فيه، وبرئت ذمة عبد الصمد بن موسي منه على ضعفه وروايته المناكير. والفضول في تنبهي لهذه الحقيقة يعود إلى مقال لي قديم في الكلام على هذا الحديث. فالحمد لله على توفيقه.
الأصول التي بني الشيخ عليها صحة حديثي الحصى
بعد أن فرغنا من تقرير الأصول التي بنا عليها الشيخ حكمه على الحديث بالضعف، والإجابة عليها بما يعود عليه بالنقض، أعود فأذكر الأصول التي بنا عليه الشيخ تصحيحه للحديثين، ثم أكر عليه بالرد فأقول: ذكر الشيخ:
١ - "لا يلزم من ضعف إسنادٍ لمتنٍ ضعفهُ، لاحتمال أن يكون له إسناد آخر صحيح إلا إذا بحث حافظ فأداه بحثه إلى الحكم بأنه لا يوجد له سوى هذا الضعيف، فحينئذ يحكم بضعف الحديث لضعف إسناده" (ص ٢٠).
٢ - أن الراوي المجهول إن زكاه أحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحدٍ عنه قبله وإلا فلا (ص ٢٣) ولو كان هذا المزكي ابن حبان (ص ٢٦).
"الغرابة عند الترمذي تطلق على عدة معان قد تجامع الصحة كما بينها في خاتمة الجامع ص ٢٧.
الجواب عن هذه الأصول وجوابًا عن هذه الأصول الثلاثة أقول:
١ - هذه القاعدة مسلمة إن كان الشيخ لا يريد بها أكثر مما نقله عن النووي ص ٢١ وهو قوله:
"وإذا رأيت حديثًا بإسناد ضعيف فلك أن تقول ضعيف بهذا الإسناد، ولا تقل ضعيف لمتن مجرد ضعف ذاك الإسناد إلا أن يقول إمام إنه لم يرد من وجه صحيح، أو إنه ضعيف مفسرًا ضعفه".
وأوضح منه قول الحافظ العراقي في شرح ألفيته (١)
_________
(١) نقلة حضرة الشيخ في رسالته الخطية (ص ٣) وهي ملخصة من رسالته المطبوعة وفيها زيادات قليلة، وكنت وقفت عليها بعد أن طبع الشيخ أصلها ونشرها على الناس! ولهذا جعلت ردي عليها لأن الخطية جزء منها.
1 / 15
"إذا وجدت حديثًا بإسناد ضعيف فلك أن تقول: هذا ضعيف، وتعني بذلك الإسناد، وليس لك أن تعني بذلك ضعفه مطلقًا بناء على ضعف ذلك الطريق، ولعل له إسنادًا صحيحًا آخر يثبت بمثله الحديث، بل يقف جواز إطلاق ضعفه على حكم إمام من أئمة الحديث بأنه ليس له إسناد يثبت به، مع وصف ذلك الإمام لبيان وجه الضعف مفسرًا".
يضاف إلى ما سبق قول الحافظ ابن حجر الذي ساقه الشيخ عقب كلام النووي السابق:
"وكذلك إذا وجد كلام إمام من أئمة الحديث قد جزم بأن فلانًا تفرد به، وعرف المتأخر بأن فلانًا المذكور قد ضعف، فما المانع من الحكم بالضعف؟ ! ".
جواز تضعيف الحديث مقيدًا أو مطلقًا فقد استفدنا من هذه النصوص أمرين:
الأول: جواز تضعيف الحديث الذي سنده ضعيف، تضعيفًا مقيدًا بهذا السند لا مطلقًا للاحتمال المذكور في كلام العراقي.
الثاني: يجوز لأمثالنا من المتأخرين أن يضعف الحديث مطلقًا بناء على جزم إمام أنه تفرد به أحد الرواة وقد عرفنا نحن ضعفه.
فإذا تأمل القارئ الكريم في هذه الفوائد يتضح له وضوحًا جليًّا تحامل حضرة الشيخ عليّ إذ نسبني (ص ٢٠) إلى مخالفتي هذه القاعدة وإلى "التحكم النفساني"! مع أنني لم أخالف القاعدة مطلقًا في كل ما أكتبه من هذه "المقالات" بل تضعيفي للأحاديث دائر حولها. أما على الأمر الأول فظاهر، وعلى هذا جرى كل العلماء في تخريجهم للأحاديث فإنهم إذا وجدوا حديثًا بإسناد ضعيف. قالوا: "سنده ضعيف" أو "هذا حديث ضعيف" ويعنون بذلك ضعفه بخصوص هذا الإسناد، ولا يمنعهم من ذلك احتمال أن يكون له إسناد آخر، لأن هذا الاحتمال لا يكلف به الإنسان إلا من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية، فالحديث الضعيف سنده هو مثل الحديث الضعيف مطلقًا الذي صرح العلماء بضعفه وعدم وجود طريق آخر له.
1 / 16
ويوضح لك هذا أن حضرة الشيخ صرح -كما تقدم- أن حديث "نعم المذكر السبحة": "ضعيف بهذا السند" فنسأله: هل تعامل هذا الحديث معاملة الحديث الضعيف مطلقًا فلا تجيز الاحتجاج به والجزم بنسبته إلى النبي ﷺ أم لا؟ وغالب ظني أن جوابه سيكون إيجابيًّا، وأنه لا يعامله إلا معاملة الضعيف مطلقًا، وعلى هذا نسأله السؤال الثاني: هل يحتمل أن يكون له إسناد آخر أم لا؟ وغالب الظن أيضًا أن يكون الجواب إيجابيًّا، وحينئذ نقول: فكما لم يؤثر هذا الاحتمال في ضعف حديثك هذا، فكذلك لا يؤثر في ضعف الأحاديث التي أضعفها بسبب ضعف أسانيدها، وإنما يؤثر في ذلك أن تُظهر خطأي في تضعيفها أو ذهولي عن بعض طرقها الصحيحة، وأما بتطريق الاحتمال المذكور عليها فلا، لأنه لا يمكن أن تتصور حديثًا ضعف من قبل سنده، إلا وأمكن تطريق الاحتمال المذكور عليه، فإن قيل بالاعتداد به واعتباره مانعًا من تضعيف الحديث سقط الاعتماد والثقة بأقوال العلماء في تضعيف الأحاديث بل وفي تصحيحهم للأحاديث الصحيحة لأنه يحتمل كما قال -بعضهم- أن يكون بعض الرواة لها أخطأ أو تعمد الكذب ولم يظهر ذلك للمحدثين! ولا يخفى فساد هذا (القيل) على اللبيب البصير.
وأما على الأمر الثاني فانتفاء مخالفتي للقاعدة المذكورة أجلى وأظهر، لأن تضعيفنا في هذه الحالة قائم على أساس التفرد الذي جزم به بعض الأئمة، والحديثان اللذان نحن في صدد الكلام عليهما مما صرح به الترمذي بتفرد بعض الرواة بهما أما الحديث الأول وهو حديث سعد فقد قال فيه الترمذي (٤/ ٢٧٨ شرح التحفة):
"هذا حديث حسن غريب من حديث سعد".
ومعنى هذا أنه ليس له إسناد آخر عن سعد، فقد قال الحافظ ابن كثير في "اختصار علوم الحديث" في "معرفة الغريب" (ص ١٨٧):
"فالغريب ما تفرد به واحد وقد يكون ثقة، وقد يكون ضعيفًا، ولكل حكمه".
قلت: وهذا الحديث من قسم "الضعيف" لأن راويه (خزيمة) مجهول كما ذكرته هناك في "المقال" ويأتي له زيادة بيان ههنا.
وأما الحديث الثاني وهو حديث صفية فقال الترمذي أيضًا (٤/ ٢٧٤):
1 / 17
"لا نعرفه إلا من هذا الوجه ..... ".
فهذا أصرح في الدلالة على تفرد أحد رواته به من قوله المتقدم في الحديث الأول كما هو ظاهر.
وهو من قسم الضعيف أيضًا لتفرد هاشم بن سعيد الكوفي به وهو ضعيف كما ذكرته هناك أيضًا وقد ضعفه الترمذي أيضًا بقوله "غريب" وبقوله: "وليس إسناده بمعروف" فثبت من هذا أن تضعيفي للحديثين قائم على القاعدة الحديثية ليس خارجًا عنها فسقط بذلك ما دندن به حضرة الشيخ حولها!
منهجي في تضعيف الأحاديث: على أنني حين أضعف حديثًا ما فإنني لا أكتفي على تضعيفه بمجرد أنني رأيت له هذا الطريق الضعيف بل إنني أتبع في سبيل ذلك كل ما تطوله يدي من مطبوع أو مخطوط مستعينًا على ذلك بما قاله الأئمة الحفاظ، كل ذلك خشية أن يكون له طريق تقوم به الحجة، فأقع بعدم إطلاعي عليه في الخطأ، وأعتقد أن هذا المنهج قد لمسه حضرات القراء في مقالاتي "الأحاديث الضعيفة والموضوعة" فإنهم كثيرًا ما يرون في مقال واحد منها أحاديث متكررة في معنى واحد قد ذكر كل حديث منها مفصولًا عن الآخر برقم متسلسل، وما ذلك إلا لتطبيق هذا المنهج والكلام على إسناد كل واحد منها تضعيفًا وتجريحًا، بحيث يندر أن يستدرك عليّ أحد طريقًا لم أورده! ولا أعتقد أن الله تعالى يكلفنا بأكثر من هذا، والخطأ ما يسلم منه إنسان، وإنما عليه أن يفرغ جهده للوصول إلى الحق، فإن أصابه فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وصدق الله العظيم: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾.
توثيق ابن حبان للمجهول غير مقبول:
٢ - نقلنا في المقال السابق قاعدة الشيخ الثانية وهي قبول الراوي المجهول إن زكاه أحد من أئمة الجرح. فأقول: هذه القاعدة ليست على إطلاقها بل هي مفيدة عند المحققين من المحدثين بما إذا كان المزكي غير متساهل في التزكية، أمثال الإمام أحمد والبخاري وأبي حاتم وغيرهم، أما إذا كان معروفًا بالتساهل في ذلك بناء على قاعدة له في التزكية خالف فيها الأئمة، فإن تزكيته للمجهول غير مقبولة، ولا يخرج المجهول بها عن الجهالة! ومن هؤلاء المتساهلين ابن حبان البُستي صاحب "كتاب الثقات"
1 / 18