Al-Muwafi bi Ma'rifat al-Tasawwuf wa al-Sufi
الموفي بمعرفة التصوف والصوفي
Investigador
الدكتور محمد عيسى صالحية
Editorial
مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م
Ubicación del editor
الكويت
Géneros
كتاب نادر في نقد الصوفية
الموفى بمعرفة التصوف والصوفي
تأليف الإمام كمال الدين أبي الفضل جعفر بن ثعلب الأدفوي المصري
(٦٨٥ - ٧٤٨ هـ)
حققه وقدم له وعلق عليه الدكتور محمد عيسى صالحية
مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع
الكويت
1 / 1
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م
مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع
ص ب: ٢٦٢٢٣/ الصفاة
الرمز البريدي: ١٣١٢٣
الكويت
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تمهيد
شهد القرن الثاني الهجري ظهور الحركة الصوفية، حين بدأ إعراضُ النَّاس عن السبيل السويّ من مراقبةِ اللَّه وخشيته وذكره في السِّرّ والعلَن والزهد في الدُّنيا. فقد هالَ جماعةَ الصالحين تكالبُ النَّاس على الدُّنيا. واستباقهم للانهماكِ في الملذّاتِ والملاهي، فانتحوا جانبًا متجهين إلى الحقِّ سبحانَه، متبتِّلينَ، يتلُونَ كتاب اللَّه، ويقومونَ الليلَ تهجدًا وتهليلًا بالسرِّ والعلَن.
وأخذَ جماعةٌ من هؤلاءِ على أَنفسهم تبيين السلوك العملي للصوفيّة، فوصف المحاسبي في كتابه "الرعاية لحقوق اللَّه تعالى" سلوك الصوفية بأسلوب علمي.
وكانت مسالك الصوفية حتَّى القرن السادس الهجري بصورة عامةٌ قريبةٌ إلى الزهد، مع ما خَالَطَها في بعض الأحيان من ابتعادٍ عن جادة الصواب.
غير أن الأحداثَ الجسامَ التي تعاقبت على الدولة الإسلامية منذ أواخر القرن السادس الهجري وأوائل القرن السابع الهجري، أَوجدت ردة فعل معاكسة، فانصرف بعضهم عن الحياة وشؤونها ومالوا إلى التواكل، وغدا الزهد في أعرافهم نوعًا من اللامبالاة يصل لدرجة الخنوع.
1 / 5
لقد كانت البداية حين عقد الأيوبيون العزمَ على التصدّي لتيار الفكر الشيعي إثر انهيار الدولة الفاطمية؛ إذ أنشأ الأيوبيون العديد من المدارس ودور الحديث في مصر والشام واستدعي علماء وفقهاء السُّنَّة ليقوموا بدورهم في تلك المؤسسات، فأصبحت مدن إسلامية كثيرة مثل الإسكندرية، والقاهرة، وقوص، وأسيوط، والقدس، وحلب، ودمشق، وطرابلس، مراكزَ نابضة لعلوم السنَّة والفكر السنِّي.
ثم جاءت الهجمة الصليبية الشرسة لتُضيف أعباءً أُخرى، حيث ألقت بكاهلها على صلاح الدِّين، فعمل على تثبيت عروبية وإسلامية البلاد التي كانت مطمع الغزاة الجدد، فأقام الخوانق والرُّبط والزوايا والتكايا، إضافة إلى المساجد والمدارس ودور الحديث والبيمارستانات، وكان هدف صلاح الدِّين من وراء ذلك النهوض بالشعور الديني عند المسلمين، ورفع استعدادات الأمة الإسلامية لمقاومة الأخطار التي تتهددها.
واحتل جماعة من الناس تلك الأماكن، امتهنوا الذكر وقراءة القرآن. وسلكوا السبيل القويم، وكانوا نماذج خيرة للأتقياء والعبَّاد. ولكن تلك الأماكن ما لبثت أن أصبحت ملجأً وملاذًا لكل طالبة راحة، حيث يجد فيها ضالته من الطعام واللباس والشراب دون عناء يذكر، وتلا ذلك ازدياد أعداد المنتظمين في سلك الصوفية، لا سيما بعد تضخم عدد الخانقات والرُّبط والزوايا والتكايا، ومبالغة الناس في حبس الأوقاف عليها، وتباري السلاطين والأمراء والأغنياء في تقديم الأموال والهدايا لمرتاديها. فسهلت حياة المتصوفة ونعموا بعيشة مترفة باذخة، قادت إلى تفشي البدع فيما بعد.
وإزاء ذلك فقد كثر ادّعاء التصوف، بقصد التعيش، فأمّ العديدون الخانقات، ولبسوا الصوف، وحلقوا الرؤوس، ولكنهم لم يتخلقوا بأخلاق
1 / 6
الزهاد أو الصوفية، وغدا الصوفي على الأغلب، رجلًا أكولًا، كثير الفضول، يُضرب بتطفُّله المثل، فقالوا: "نعوذ باللَّه من النَّار، ومن الصوفي إذا عرف باب الدار". وفي وصفٍ آخر لحالهم بأنهم "أكلة، بطلة، سطلة، لا شغل لهم ولا مشغلة".
وعرَّف كثير من الفقهاء جماعة المتصوفة "بأنهم رجال يظهرون الإسلام، ويبطنون فاسد العقيدة، في أرجلهم جماجم وعذباتهم من قدام" (^١).
ومما زاد في تكالب جماعات من النَّاس على الانضواء في سلك الصوفية، وقوع الهجمة التترية المغولية المدمرة على العالم الإسلامي، وما أورثته في النفوس من شعور بالمرارة وخيبة الأمل، وما أتصف به ذلك العصر من شظف في العيش نتيجة القحط والجدب فاستدامت المجاعات، وانتشرت الأمراض السارية كالطاعون والجُدري وغير ذلك من الأمراض الفتاكة. ووجد هؤلاء في الخانقات بسطةً في العيش، وسَعة في الحال، بل وترفًا في المأكل والمشرب والملبس، ذلك أن العديد من المصالح والمنشآت، كالبساتين والدكاكين والحمامات والأسواق قد وقفت على الصوفية، فخانقاه سعيد السعداء بمصر التي أنشئت سنة ٥٦٩ هـ = ١١٧٣ م، أوقفت عليها جملة من المصالح لينفق من ريعها على فقراء الصوفية، من جملتها بستان الحبانية وقيسارية شراب، وكان يخصص لكل صوفي فيها ثلاثة أرغفة زنتها ثلث رطل في مرق، ويعمل لصوفيتها الحلو كل شهر، ويفرق عليهم الصابون (^٢). أما صوفية خانقاه ركن الدِّين بيبرس، فقد أُلحق بها مطبخ، يوزع منه على المجاورين اللَّحم والطعام وثلاثة أرغفة كل يوم إضافة إلى
_________
(^١) سلام: الأدب في العصر المملوكي، ١/ ٢٠٢، ووردت الأوصاف في الرسالة، ٧ أ.
(^٢) المقريزي: المواعظ، ٢/ ٤١٦.
1 / 7
الحلوى، ولصوفية خانقاه شيخو علاوة على ما ذكر، الزيت والصابون (^١).
أما صوفية خانقاه سرياقوس فلهم كل سنة ثمن كسوة وتوسعة في كل رمضان والعيدين والمواسم، فوق ما كان لهم من طعام شهي وخبز نقي إضافة إلى الحلوى وزيت الزيتون والصابون وثمن الفواكه، هذا عدا ما في الخانقاه من سكر وألوان من الشراب وأنواع الأدوية.
كما أُلحق بالخوانق الحمامات والمطابخ والمدافن، ومدت أرضيتها بالفرش وآلات النحاس والكتب والقناديل وغيرها من الأدوات النفيسة، التي لا يقتنيها إلا الملوك والأمراء.
إنَّ من يطلع على وقفيات الخوانق والزوايا والأربطة يدرك مدى العبء الاقتصادي الذي عاناه المجتمع بسبب ضيق القاعدة التي تستفيد من المصالح الاقتصادية المحبوسة على الصوفية دون غيرهم من شرائح المجتمع.
وكدليل على حياة البذخ والترف التي نعم بها الصوفيون، نقدّم أنموذجين السماعين عقدا في مصر والشام سنة ٦٥٩ هـ = ١٢٦١ م.
"قال المولي قطب الدِّين ﵀: حكى لي بعض الناصرية، قال: لما دخلنا الدِّيار المصرية، اتفق أن بعض أكابر الأمراء عمل سماعًا، وحضر بنفسه إلى الأمير جمال الدِّين ودعاه، فوعده بالمضي إليه والحضور عنده، فلما كان عشاء الآخرة، مضي ونحن معه -جماعة من مماليكه وخواصه- إلى دار ذلك الأمير، فلما دخل وجد جماعةً من الأمراء جلوسًا في إيوان الدار، وجماعةً من الفقراء في وسط الدار، فوقف، ولم يدخل، وقال لصاحب الدار: أخطأتم فيما فعلتم، كان ينبغي أن يقعد الفقراء فوق وأنتم
_________
(^١) المرجع السابق، ١/ ٢٨٣.
1 / 8
في أرض الدار، ولم يجلس حتى تحول الفقراء إلى مكان الأمراء، والأمراء إلى مكان الفقراء، وقعد هو ونحن بين الأمراء، فلما غنّى المغني، قام أحدهم والدف بيده يستعطي، وهذه كانت عادة المغاني في الدِّيار المصرية، فلما رآه الأمير جمال الدِّين انتهره، وقال: والك".
وتمضي الرواية في شرح حال الصوفية وهم يرقصون ويجمعون النقود من الذهب والفضة من الأمراء، ثم أكلهم ما لذ وطاب من المطعم والمشرب (^١). وإنصرافهم فرحين جذلين.
كما أورد قطب الدِّين اليونيني في "ذيله" على "مرآة الزمان" لسبط ابن الجوزي عرضًا دقيقًا، وصف فيه إحدى تلك الليالي الراقصة، جاءت في ترجمة لاجين بن عبد اللَّه الأمير حسام الدِّين الجوكنداري (ت ٦٦٢ هـ/ ٦٣ - ١٢٦٤ م).
حيث قال: ". . . وكان له في الفقر والصالحين عقيدة حسنة، ويكثر من الإحسان إليهم والبر بهم، وافتقادهم بالنفقة والكسوة وغير ذلك، وكان يعمل لهم السماعات، ويحضر فيها من المآكل والمشاريب والأرابيح الطيبة والشموع ما يبهر العقل ويتجاوز الحد، فكان يقدر ما يغرمه على السماع الواحد تقريبًا ثمانية آلاف درهم (^٢). . . إلخ.
ويمضي اليونيني في وصف ليلة سماع حضرها هو بنفسه في دارة لاجين الكائنة بالعُقَيبة بدمشق أواخر سنة ٦٥٩ هـ، ذلك أن الدار أضيئت
_________
(^١) حبيب الزيات: ليلة رقص وسماع أميرية للفقراء، مجلة المشرق العدد ٤٣ سنة ١٩٣٩ م، نقلًا عن الدر المنتخب في تكملة تاريخ حلب - مخطوط بالمكتبة الأحمدية بحلب المحفوظة الآن بمكتبة الأسد بدمشق رقم ١٢١٤، الأوراق من ٢٧٠ - ٢٧١ من الجزء الأول.
(^٢) اليونيني: "ذيل مرآة الزمان" خ أكسفورد POC.OR.١٣٢ الأوراق ١١٢ - ١١٣.
1 / 9
بالشموع الكافورية في أنوار (شمعدانات) الفضة، والمطعمة بصنوف الجواهر والأحجار الكريمة.
حتى إذا قضيت صلاة المغرب مدَّ للفقراء سماطًا اشتمل على قريب مئة زبدية عادلية، في كل زبدية خروف صحيح رضعي، وحوالي ثلاث مئة زبدية في كل واحدة ثلاثة طيور دجاج وغير ذلك من أنواع الطعام، وبعد العشاء وإتمام الصلاة شرع الحاضرون في الغناء والرقص، حتى إذا ما تعبوا مَدَّ سماطًا من الحلوى والقطائف الرطبة والمقلوة المصنوعة بالسكر المصري والفستق والمسك ثم رقصوا وغنوا جميعًا، ومن ثم مُد سماطًا عظيمًا من الفواكه النادرة في غير موسمها من سفرجل وتفاح وكمثرى ورمان وبطيخ، وبعدها عادوا إلى الرقص والغناء، ومن ثم مَدَّ سماطًا من المكسرات على أنواعها من قصب عراقي وفستق وبندق وزبيب، والكعك المحشو والخشكنان (أقراص من الدقيق والحلوى)، والبقسماط وغيرها، وكان شرابهم مصنوعًا بالثلج والسكر وعاء الخلافه (نوع من الصفصاف المصري المستقطر)، وماء الورد، إضافة إلى المباخر المعمرة بالند والعنبر والعود الهندي حتى إذا كان وقت السحر دخلوا حمامًا مجاورًا لدار لاجين، فاستحمّوا وأُلبسوا القمصان والثياب الجدد، وبعد الحمام عادوا إلى الدار فأُشربوا الأشربة التي تناسب الحمام، ومن ثم مد لهم سماطًا من الحلوى الساخنة، وبعدها ينصرفون.
والتقدير حالة الناس آنذاك، فقد علّق اليونيني على وقوع هذا السماع، بأنه أقيم، والناس في ضنك، فغرارة القمح بدمشقي ثمنها ثلاث مئة درهم، ورطل اللحم بالدمشقي ثمنه سبعة دراهم، والدجاجة ثمنها ثلاثة دراهم. وجميع الأشياء غالية جدًا.
فانظر أي ترف ورخاء، عاش فيه صوفية ذلك العصر؟
1 / 10
ولم يقتصر دور الصوفية على التخريب الاقتصادي، بل تعداه إلى التأثير في الأحداث السياسية والاجتماعية، وذلك من خلال تغلغل الحركة في أوساط العامة والخاصة، ومن ثم فإنَّ الدولة اعترفت بمؤسسات الصوفية وقربت مشايخ الصوفية، حتى إن السلاطين كانوا يفاخرون ببناء الأربطة والخوانق والزوايا لجماعة الصوفية، لاعتقادهم أن بإمكان الفقراء المتصوفة الإتيان بالخوارق، وكشف الضّرّ عن السلاطين، والادعاء بالمكاشفة ومشاهدة الحق (^١). ولذا فإن فقراء الصوفية كثيرًا ما دعوا ليرفعوا الضَّرر عن مصاب، أو ليدعوا بالعافية لمريض (^٢).
وقد بلغ من تأثير شيخ شيوخ خانقاه سعيد السعداء أن نجح في إبعاد ابن تيمية عن مصر إلى الشام سنة ٧٠٧ هـ = ١٣٠٧ م، حيث حُبس في الشام، بدعوى تكلمه على مشايخ الطريقة، وكان شيخ سعيد السعداء قد جمع فوق خمس مئة صوفي من صوفية الخانقاه وسار بهم في تظاهرة إلى القلعة، وكانت جماعات غفيرة من العامة قد انضمت إلى المظاهرة، وفي القلعة، شكوا للسلطان ابن تيمية، الذي أحالهم بدوره إلى القاضي الشافعي فدفعهم عنه إلى تقي الدِّين علي بن الزواوي المالكي، والذي أصدر بدوره الحكم الذي أشرنا إليه (^٣).
وفي دمشق أيضًا عُنِّف ابنُ رمضان الشاهد، لأنه تكلم في حق الفقراء (^٤). وضُرِب حتى طلبة التوبة والاستغفار.
بل إن الصوفية كثيرًا ما قاموا بإراقة الخمور والبوزة لأنها محرمة على
_________
(^١) الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، ١٦.
(^٢) الصقاعي: تالي وفيات الأعيان، ١٥١.
(^٣) ابن طولون: مفاكهة الخلان، ج ١ ص ٢١.
(^٤) المرجع السابق ج ١ ص ٩، ٧، حوادث سنة ٨٨٥ هـ.
1 / 11
غيرهم، وقد يخرجون إلى الشوارع لإطلاق سراح أحدهم من السجن، وأمورًا أخرى كثيرة.
وسدر الصوفية في مفاسدهم، حتى إن بعضهم أفتى بحرام الكسب إِلَّا عند الضرورة، لأن الكسب في عرفهم ينفي التوكل على اللَّه أو ينقص منه، وقد أمرهم اللَّه بالتوكل، ورزقهم في السماء وما يوعدون (^١).
ثم إن بعض الصوفية كانوا لا يقيمون الصلاة أبدًا، مدعين أنهم لا يقومون بأدائها إِلَّا في الأماكن المقدسة فقط (^٢).
لقد عمَّ الفساد حياة الصوفية في عادتهم وأخلاقهم ورسومهم وسننهم وملابسهم وأزيائهم ومشاربهم ومآكلهم، واشتهر المتفقرون من المتصوفة بالجشع في الأكل والشرب، والولع بالرقص والتهافت على السماع والغناء.
حتى قال فيهم الشاعر الطاهر: [الوافر]
أرى جيلَ التصوف شرَّ جيلِ ... فقل لهمُ وأَهونُ بالحلولِ
أَقالَ اللَّهُ حين عبدتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي (^٣)
وعليه فإن أبرز مظاهر الفساد في حياة المتصوفة علاوة على ما ذكر، يمكن إيجازها بما يلي:
_________
(^١) الشيباني: الكسب، ٣٧ العيني: عقد الجمان، ج ٣٣/ ٣٨ أ، الكلاباذي: التعرف، ١٠٢.
(^٢) الشعراني: اليواقيت والجواهر، ١/ ١٢٥.
(^٣) وردت الأبيات في النص المنشور من رسالة ابن القارع، علي منصور الحلبي، الذي كان معاصرًا لأبي العلاء المعري، والتي جاءت رسالة الغفران ردًا على رسالة ابن القارح لأبي العلاء، وقد جاء في الشطر الأول من البيت الثاني: أقال اللَّه حين عشقتموه ولعله الأصوبه، لأن الصوفية تعشق بينما العبادة لكل البشر، انظر: أبو العلاء المعري: رسالة الغفران، ومعها نص محقق من رسالة ابن القارح، تحقيق د. بنت الشاطئ، ط. السادسة، دار المعارف، ١٩٧٧ ص ٣٦ - ٣٧، بنت الشاطئ: جديد في رسالة الغفران، ط. بيروت ١٩٧٢، ص ٥١.
1 / 12
مظاهر الفساد في حياة المتصوفة
- السماع والرقص:
والسماع عند الصوفية، لياليَ تعقد، فيها ينشدون ويرقصون، وفي تعرفهم أن السماع يولد حالة في القلب تسمّى بالوجد، وهذا بدوره يحرك أعضاء البدن، فإن كانت الحركات غير موزونة كانت اضطرابات، وإن كانت موزونة فحينئذ تكون تصفيقًا ورقصًا (^١)، ويبدو أن نوعا من الهوى والغلبة قد سيطرا على الصوفي، فإن سمع غناء أو إيقاعا بقضيب، تواجد وصفق وربما مزَّق ثيابه ورماها (^٢).
وقد أنكر عليهم جماعة من العلماء مثل هذا السلوك الشائن، وصنفوا الكتب، ووضعوا القصائد في ذم سلوكهم، فالإمام موفق الدِّين، عبد اللَّه بن أحمد بن محمد بن قُدامة المقدسي وضع رسالة في ذم ما عليه مدَّعو التصوف من الغناء والرقص والتواجد وضرب الدُّف وسماع المزامير، ورفع الأصوات المنكرة بما يسمونه ذكرًا وتهليلًا، بدعوى أنها من أنواع القرب إلى اللَّه تعالى.
وهجاهم كثيرٌ من الشعراء مثل شدَّاد بن إبراهيم الملقب بالطاهر الجزري، والعميد أبو محمد، عبد اللَّه، أحمد بن إبراهيم الزواوي الكاتب، وظهير الدِّين قاضي السَّلاميَّة ت ٦١٠ هـ = ١٢١٣ م (^٣)، الذي هجا مكي شيخ زاوية الفقراء بالبوازيج، البليدة القريبة من السَّلَّامية، فقال: [المتقارب]
أَلا قُلْ لِمَكّي قَوْلَ النَّصُوحِ ... فَحقُّ النصيحة أن تُستَمَعْ
متى سمع النَّاسُ في دِينِهم ... بأَنَّ الغِنَا سُنّةٌ تُتَّبعْ؟
_________
(^١) الغزالي: إحياء علوم الدين، ٢/ ٢٣٦، ابن الجوزي: تلبيس إبليس ٢٦٧ (نقد مسلك الصوفية في الغناء والسماع، الهروردي: عوارف المعارف، باب ٢٤ "القول والسماع").
(^٢) ابن الجوزي: تلبيس إبليس، ٢٤٧، ٢٥٠، ٢٦٠.
(^٣) هو أبو إسحاق، إبراهيم بن نصر بن عسكر، انظر ابن خلكان: وفيات الأعيان ٧/ ٣٧ - ٣٨.
1 / 13
وَأَنْ يَأْكُلَ المَرْءُ أَكلَ البَعِيْرِ ... وَيَرْقُصَ في الجَمْع حتَّى يَقَعْ
وَلَوْ كَانَ طاوي الحَشَا جائعًا ... لما دار من طَرَبٍ واسْتَمعْ
وقالوا سَكِرْنا بحبِّ الإِلهِ ... وَمَا أسْكَرَ القَوْمَ إِلا القِصَعْ
كذاك الحميرُ إذَا أخصْبتْ ... يُنَقّزها ريُّها وَالشَبَعْ
- مصاحبة المرد والأحداث:
استحل بعض الصوفية كل المحرمات والكبائر، وتظاهروا بالفسق والفجور والمخازي، فليلة الماشوش تتم علانية عند متصوفة شيراز (^١). وقد روى خبرها التنوخي في مشوار المحاضرة (^٢)، ذلك أن ابن خفيف البغدادي، شيخ متصوفة شيراز، وقد مات رجل صوفي من أصحابه، وخلف زوجة صوفية، فاجتمع النساء الصوفيات يعزينها، حتَّى إذا انتهت مراسيم الدفن، وصل ابن خفيف الدار وأخذ يعزي المرأة بكلام من كلام الصوفية إلى أن قال: أعزبت.
قال لها: هاهنا غير (^٣).
فقالت: لا غير (^٤).
فقال: فما معنى التزام النفوس آفات الهموم وتعذيبها بعذاب الغموم؟ ولأي معنى تترك الامتزاج (^٥) لتلتقي الأنوار (^٦) وتصفو الأرواح وتقع
_________
(^١) انظر الزيات (حبيب): كتابة الديارات في الجزء الأول من مسالك الأبصار لابن فضل اللَّه العمري، مجلة المشرق ٤٢: ١٩٤٨، ٢٩٧.
(^٢) التنوخي: نشوار المحاضرة، مجلة المجمع العربي بدمشق، العدد ١٧ ص ٢٦١ - ٢٦٢.
(^٣) أي هل يوجد هنا غير موافق في المذهب.
(^٤) أي ليس من يخالف.
(^٥) كناية عن الوطء.
(^٦) أي النور الإلهي.
1 / 14
الاختلافات وتنزل البركات. فقالت النساء: إذا شئت.
فاختلط جماعة الرجال بجماعة النساء طول ليلتهم، فلما كان سحرًا خرجوا، ويبدو أن ذلك الحادث قد وقع في اليوم الأول من الصوم، أو الأحد الأول من الصوم حسب رواية الشابشتي في الديارات (^١)، وأصبح ذلك اليوم احتفالًا لهم يختلط فيه الرجال بالنساء.
وقد أشار ابن الجوزي إلى أن صوفية عصره قد سدُّوا على أنفسهم باب النظر إلى النساء الأجانب، لبعدهم عن مصاحبتهن وامتناعهم عن مخالطتهن، واشتغلوا بالتعبد عن النكاح. واتفقت لهم صحبة الأحداث على وجه الإرادة وقصد الزهادة (^٢).
ويقرر ابن الجوزي بأن آفة الصوفية في عصره في صحبة الأحداث ومعاشرة الأضداد (^٣)، ولم يقف البلاء عند هذا الحد، بل تعداه لإِضفاء مشروعية ذلك للمتصوفة، فقد صنف أبو الفضل، محمد بن طاهر، المعروف بابن القيسراني الشيباني ت ٥٠٧ هـ = ١١١٣ م رسالة في إباحة السماع والنظر إلى المرد (^٤). واشتهر من المتصوفة بالتهتك والاستباحة خضر الكردي شيخ الملك الظاهر بيبرس، والشيخ أبي الحسن الحريري، وسليمان بن المولّه المجذوبه.
وكان علي الحريري أكثرَ المتصوفة تهتكًا في معاشرة الأحداث "فكان
_________
(^١) وردت عند الحديث عن دير الخوات ص ٩٣، وانظر ابن فضل اللَّه العمري: مسالك الأبصار، ١/ ٢٨٠ - ٢٨٢ (تحقيق أحمد زكي باشا).
(^٢) ابن الجوزي: تلبيس إبليس، ٢٦٥.
(^٣) المرجع السابق، ٢٧٦.
(^٤) الشعراني: الطبقات الكبرى، ٢/ ١٢٩.
1 / 15
من وقع نظره عليه من الأحداث وأولاد الجند والأمراء وغيرهم يحسن ظنه فيه، ويميل إليه، ولا يعود ينتفع به أهله، بل يلازمه ويقيم عنده، اعتقادًا فيه وميلًا إليه" (^١).
ومع أن ظاهرة مصاحبة المُرد والأحداث والمخنثين كانت واضحة في العصور العباسية المتأخرة، فقد اشتدت في عصر المماليك، وذلك إثر قدوم طائفة من الأوبراتية التترية (^٢)، المشهورين بالجمال سنة ٦٩٥ هـ = ١٢٩٥ م، وانتشارهم في مصر والشام، ومن ثم دخولهم في خدمة الأمراء المماليك، وتنافس أمراء المماليك في اقتناء صبيانهم وبناتهم، ومن تبقى من هؤلاء الأويراتية بعد ذلك انخرط في الجيش، وتفرقوا في الممالك لتنتشر معهم المفاسد، ووجدته جماعات من الصوفية فيهم ضالتهم، فبالغوا في إضفاء مشروعية صوفية على فعلتهم النكراء، وقد أورد لنا الشعراني -أحد كبار متصوفة القرن العاشر الهجري- خبر الصالح محمد بن عراقي، الذي كان لا يمكِّن ابنه عليًا من الخروج إلى السوق، حين كان أمرد، إلّا أن يُبَرقَع خوفًا عليه من السوء والفتنة (^٣).
ولم يقف الأمر على المرد والأحداث بل تعداه إلى سواه من البهائم والحيوانات، فقد كان الشيخ الصوفي علي وحيش (ت ٩١٧ هـ/ ١٥١١ م) كثير الاعتداء على البهائم والأتن (^٤).
لقد كان هذا الضرب من التصوف استهزاءً بالأديان، وبعدًا عن جادة الزهد والعبادة، وتهتكًا، حتَّى استحق صوفية القرون التالية للقرن السادس
_________
(^١) الدلجي: الفلاكة، ٧٢، ابن الفوطي: الحوادث الجامعة، ٣٢٥.
(^٢) قبائل مغولية سكنت الجزء الأعلى من خط نهر Venessei بأواسط آسيا.
(^٣) الشعراني: لواقح الأنوار، ٢/ ٢٥٧، زكي مبارك: التصوف، ١/ ٢٥٧.
(^٤) الشعراني: الطبقات الكبرى، ٢/ ١٢٩ - ١٣٠.
1 / 16
هجري، لقبَ "الفقراء المخربين"، لأنهم يناقضون السنن والعادات ويخرجون عن الآداب والشرائع (^١).
- تعاطي الحشيش:
دأب عدد من الصوفية على تعاطي الحشيشة، بدعوى أنها تذهب الهموم الكثيفة عن قلوبهم، وتجلو بفعلها أفكارهم الشريفة.
وليس بين أيدينا نص موثوق حول كيفية دخولها إلى العالم الإسلامي، فقد تعددت الروايات حولها، فبعض الروايات تنسبها إلى الهندي بيرزطن الذي حملها معه من الهند إلى فارس في القرن الأول الهجري، ومن ثم انتقلت بواسطة جماعة القلندرية الذين كانوا ينتظمون في سلك الصوفية، وقد حلقوا الرؤوس والحواجب والشوارب (^٢).
ورواية أخرى تنسب كشفها إلى الشيخ حيدر ت ٦١٨ هـ = ١٢٢١ م، والذي جعلها وقفًا على رفاقه من متصوفة خراسان، وأوصى أن يزرعوها على قبره بعد وفاته، ومن ثم انتقلت إلى بغداد فالشام ومصر، ومن الجدير بالذكر أن جماعة الحيدرية قدموا إلى دمشق بعد سنة ٦٥٥ هـ = ١٢٥٧ م، وعلى رؤوسهم طراطير، ولحاهم مقصوصة، وشواربهم بغير قص، وبنوا لهم زاوية خارج دمشق، ومنها وصلوا إلى مصر (^٣).
وقد تغنّى شعراء الصوفية بمحاسن الحشيشة، وأطلقوا عليها عدة أسماء مثل حشيشة الفقراء، ومدامة حيدر، والقلندرية.
وكان شاعرهم محمد بن علي بن الأعمى، أكثر الشعراء لهجًا بمزايا الحشيشة، فقال: [الطويل].
_________
(^١) الزيات: الفقراء المخربون، مجلة المشرق، مجلد ٤٣ سنة ١٩٤٩، ٥١١ - ٥١٥.
(^٢) ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات، ٢/ ١١٢.
(^٣) المقريزي: السلوك، ج ١ ق ١ ص ٤٠٧.
1 / 17
دع الخمر واشرب من مدامة حيدر ... معنبرة خضراء مثل الزبرجد
يعاطيكَها ظبي من الترك أغيد ... يميسُ على غصنٍ من البانِ أملدِ
فتحسبها في كفِّه إذ يديرها ... كرقم عذار فوق خدِّ مورَّد
يرنحها أَدنى نَسيم تنسَّمت ... فتهفو إلى بردِ النَّسيم المرود
وتشدو على أغصانها الوُرقُ في الضحى ... فيطربها سجع الحمامِ المغرّدِ
هي البِكْرُ لَمْ تُنْكَح بماءِ سحابةٍ ... ولا عُصرتْ يومًا برجلٍ ولا يدِ
ولا عبثَ القسيس يومًا بكَأْسها ... ولا قرَّبوا مِنْ دنّها كلَّ مقعدِ
ولَا نصَّ في تحريمها عندَ مالكٍ ... ولا [هي] عند الشافعيّ وأحمدِ
ولا أثبت النُّعمانُ تنجيسَ عينهِا ... فخُذْها بحدّ المشرفي المهنَّدِ
وكف أكف الهمّ بالكيفِ واسترحْ ... ولا تطرحن يومَ السرورِ إلى غدِ (^١)
لقد أدخل الصوفية الحشيشة إلى العالم الإسلامي منذ القرن السادس الهجري، ولا زالت أمتنا تعاني من آثار هذا المرض الاجتماعي حتَّى اليوم.
- الإدعاء بالإتيان بالخوارق والكرامات:
عمَّ بين الصوفية اعتقاد بأن الإنسان إذا ارتاض وجاهد في العبادة، فإنه قد يلتحق بالملائكة الكرام حتّى يطير في الهواء ويمشي على الماء، فبالرياضية حسب اعتقادهم، ينسلخ الصوفي بالكليَّة عن الحظوظ البشرية، وهذا الاعتقاد في أساسه، اعتقاد البراهمة (^٢)، ولكنه شاع عند الصوفية، وكانوا يحرصون على نشر الأخبار التي تروي طيران أحدهم في الهواء، فالشيخ أبو يوسف، صفي الدِّين، الحسين بن جمال الدِّين الأنصاري الخزرجي "ارتفع بجلسته إلى العلو قدر قامتين، ودار وسع المجلس الذي كان الصوفية فيه، ثم نزل إلى موضعه! ! " (^٣).
_________
(^١) المقريزي: الخطط، ٣/ ٤٠.
(^٢) الغزي: لطف السمر، ١/ ٣٦٣.
(^٣) صفي الدين الخزرجي: سير الأولياء، ٣٠، تحقيق مأمون محمود ياسين وعفت وصال، ط. بيروت.
1 / 18
وقد أنكر ابن تيميَّة على صوفية الأحمدية ما يفعلونه من دخولهم في النيران المشتعلة، وأكلهم الحيَّات، ولبسهم الأطواق الحديد في أعناقهم، وتقلدهم بالسلاسل على مناكبهم، وعمل الأساور الحديد في أيديهم (^١) وغيرها من الخوارق.
لقد حفلت القرون من السابع الهجري إلى العاشر الهجري بأخبار كرامات وخوارق هؤلاء الصوفية حتّى غدت أمرًا مصدوقًا، يتعرض من كذَّبه إلى التعزير والإيذاء، وانسحبت آثار ذلك على العصور التالية، وخاصة في العهد العثماني، حين أصبحت الطرق الصوفية واسعة الانتشار، كثيرة الأتباع.
كانت الصوفية في ذلك العصر شرًّا أصاب المجتمع، وإفسادًا للقيم والآداب، وتخريبًا للشرائع والسنن، وقد عبر كلُّ من فتح الدِّين ابن سيد الناس، وصلاح الدِّين الصفدي عن حال الصوفية بعبارات مقنعة، تعكس واقع حال المتصوفة، فالشيخ فتح الدِّين محمد بن محمد بن سيد الناس، يقول فيهم: [الخفيف]
ما شروط الصوفي في عصرنا اليو ... م سوى ستة بغير زيادة
وهي. . . (^٢) العلوق والسكر والسطْ ... ـلة والرقص والغنا والقياده
وإذا ما هذى وأبدي اتّحادًا ... وحلولًا من جهله وأعاده
وأتى المنكراتِ عقلًا وشرعًا ... فهو شيخُ الشُّيوخ ذو السِّجَّادَة (^٣)
كما وصف الصفدي هيئة أحد رجال الصوفية، فقال:
"شيخ مسن فقير، حرفوش، مكشوف الرأس، منفوش الشعر، عليه
_________
(^١) المقريزي: السلوك، ج ٢ ق ١ ص ١٦.
(^٢) كلمة فاحشة بذيئة.
(^٣) المقريزي: الخطط، ٢/ ٤٢٤، ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات ٣/ ٢٨٧.
1 / 19
دلق رقيق، بالي الخلقة رقيق، قد تمكن منه الوسخ ونبت فيه ورسخ، قد جمعه من عدة رقاع، له مدفأة يستدفئ بنارها" (^١).
تحليل مادة الرسالة التي ننشرها:
ناقشت الرسالة، مسألة اقتصادية مهمة، وهي، هل يصح الوقف والوصية للصوفية أم لا؟ ذلك أن عددًا كبيرًا من مصالح البلدان، كالدكاكين والحمامات والأسواق والبساتين والقرى الفلاحية والطواحين والمعاصر وغيرها، كانت توقف على صوفية خانقاه أو يوصي بإنفاق ريعها على جماعة صوفية معينة، وبالتالي فإنه لا يستفيد من هذه المصالح إلا حفنةٌ من المجتمع حظيتْ بخيراتهِ وهباتِهِ، بل وأثرت في مجرى الأحداث السياسية والاجتماعية في الأمة، فغدت هي المتنفذة المقربة من أُولي الأمر، بل إن أُولي الأمر أنفسَهم باتوا يخشونهم، فتزلفوا لهم بالمبالغة في إكرامهم وإغداق الأموال عليهم.
لقد شكل هؤلاء الصوفية عبئًا ثقيلًا على اقتصاد المجتمع، وأُرْهِقَ الأهالي والفلاحون بتوفير احتياجاتهم طمعًا في إرضائهم ونيل دعواتهم، وانعكست الأهداف وغرق الصوفية في المفاسد والإِفساد، وسيروا الحياة الاجتماعية وفق ما يرغبون، وطغي هيلمانهم، واستفحل تأثيرهيم، فقام جماعة من العلماء، وأخذوا على عاتقهم تنبيه المجتمع لحالة التردي التي وصلت إليها حركة الصوفية، وذلك من خلال إيقاظ الأحاسيس بأصول الصوفية الحقة، فأعاد هذا النفر من العلماء، البحث في التصوف، وحقيقة الصوفي من حيث المبادئ والأهداف، والقصد من ذلك إثارة المسألة عند الناس، ليقارنوا بين حال الصوفية في عصرهم، وما يجب أن يكونوا عليه.
وكان مؤلف رسالتنا جعفر بن ثعلب الأدفوي أحد هؤلاء العلماء الذين
_________
(^١) سلام: الأدب في العصر المملوكي، ج ١ ص ٢٠٣.
1 / 20
صنفوا في باب الصوفية، وعقد أبوابًا في رسالتنا للبحث في مبادئ الصوفية حيث اتكأ على "الرسالة القشيرية" واقتبس منها عشرة آراء لكبار فقهاء الصوفية عرضها بشكل ميسر بسيط.
وحول حقيقة الصوفي والكلام فيه، فقد تناول مؤلفنا، النسبة إلى التصوف، وبيان من تصدق عليه النسبة، وقرَّر بأن البدع واختلاف الفرق الإسلامية بعد سنة ٢٠٠ هـ، هي التي أخرجت التصوف عن أُصوله ومعناه (^١).
وحتَّى ينجح في إقناع قارئ الرسالة أو مسامعها، فقد استشهد بأكثر من عشرين رأيًا لفقهاء من الصوفية من أهل الطريق وأصحاب العلم والتحقيق (^٢)، وملخص ما انتهى إليه، أن الصوفي في العرف العام، هو من اتصف بالصفات المحمودة في الشرع، وتخلق بالأخلاق الممدوحة، وإن بَعُد فيها الطبع، معرض عن الدُّنيا، مقبلٌ على الآخرة، سالك الطريق التي هي أولى بالمرء".
وأما في العرف الخاص، فإن الصوفي من يلبس لبسة مخصوصة من دلق (^٣) أو فرجيه (^٤)، وله عمامة، يرخي منها عذبة قصيرة من قدامه، ويحضر
_________
(^١) انظر الرسالة، ٤ ب.
(^٢) الرسالة، ٦ أ.
(^٣) الدلق: نوع من اللباس يجعل تحت العباءة الفوقانية، وقد يكون كالمعطف واسعًا بدون فتحة، سوى فتحة الكتفين، ويُحاك من حرير الطرح الأزرق اللون أو من الصوف الأسود، انظر، محمد عيسى صالحية: من وثائق الحرم القدسي الشريف، ص ٢٧، دوزي: معجم، ١٨٣، ماير: الملابس المملوكية، ٩٠.
(^٤) فرجية: ثوب فضفاض، له كمان واسعان، يتجاوزان قليلًا أطراف الأصابع، وقد يكون لها ذيل يرخى من فوق الرأس. انظر دوزي: معجم الملابس، ١٦٧ (النص المترجم المنشور في مجلة اللسان العربي م ١٠ ج ٣).
1 / 21
في الخانقاه بعد العصر ليحضر القراءة والذكر، وغير متعاط للحرف الدنيئة كالحياكة أو الحجامة أو القمامة، وغير موصوف بالثروة.
وكأن الأُدفوي أراد القول، إن شروط الانتظام في سلك الصوفية في عصره هي:
- التزيّي بأزياء معينة.
- مداومة الحضور إلى الخانقاه بعد العصر للقراءة والذكر.
- عدم تعاطي الحرفة الدنيئة كالحياكة والحجامة والقمامة.
- غير معروفة بالثراء.
وما عداها من الزهد والعبادة والبعد عن زخرف الدُّنيا فغدت شيئًا مهملًا.
لقد مهَّد الأدفوي بالبابين السابقين ليصل إلى الباب الثالث، وهو "من يستحق الوقف والوصية من الصوفية"، وهذا الباب هو جوهر الرسالة، والمقصد الأساسي لتصنيفها، ويدخل هذا الباب في نظريات الإلزام والالتزام من فقه القانون المدني. في حيثيات "العُرف".
والمادة القانونية التي يطرحها هي، أن العرف محكّم وفاصل في النزاع إذا كان منضبطًا، ولا خلاف عليه في بلد معين، فإذا اضطرب العرف في ذلك البلد، وجب البيان حينئذٍ، أي أن الحكم يربط بالأسباب.
فالوقف لا يصح على الصوفية، لعدم ضبط معنى الصوفية ووقوفه عند حدٍ. وقد أفاض مؤلف الرسالة في الاستشهاد بما في المذاهب الأربعة جواز الوقف من عدمه، فالشافعية لا تجيزه، وكذا بعض علماء الحنفية، وأما
1 / 22