Al-Madhhab al-Ḥanbalī: A Study in its History and Characteristics
المذهب الحنبلي دراسة في تاريخه وسماته
Editorial
مؤسسة الرسالة ناشرون
Número de edición
الأولى
Año de publicación
١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
Géneros
[موسوعة الفقه الحنبلي]
المذهب الحنبلي
«دراسة في تاريخه وسماته وأشهر أعلامه ومؤلفاته»
تأليف
الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي
لقد تفضل
صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود بتوزيع هذه الموسوعة على طلاب العلم على نفقته الخاصة
أجزل الله مثوبته
Página desconocida
مقدمة الموسوعة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد من الله على المؤمنين بإكمال الدين، وأتم به النعمة قال سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة/ ٣).
وكمال الدين أن يبلغ تمامه وغاية ما أريد به من إصلاح الناس، وتعبيدهم لربهم الحق، إن في الإعتقاديات وما بأركان الإيمان، أو قي العبادات وما يتصل بأركان الإسلام، أو في العادات وما يتصل بإصلاح الأبدان، أو في المعاملات وما يتممها من الأخلاق والآداب الشرعية، في مختلف مجريات الحياة وتقلبات الأحوال.
وقد أنزل الله تبارك اسمه كتابه العزيز، ليكون الأصل الأصيل والمشرع الرَّوِيّ السلسبيل، لكل حكم من أحكام الدين، فقال جل من قائل: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل/٨٩).
مقدمة / 1
وأوكل إلى نبيه ﷺ مهمة تبليغه، وبيان معانيه المجملة، فلا جرم كانت السنة النبوية من الكتاب العزيز، بمنزلة الشرح والتفصيل، مع ما اختصت به من إثبات أحكام مبتدأة ليست منصوصة في الكتاب.
ولما ثبت بما لا يحتمل الشك، من عموم الشرع للأزمنة والبقاع والأحوال إلى يوم الدين، وكانت تصرفات الناس أفرادًا وجموعًا، غير منحصرة لاختلافها وتجددها وتغيرها، جعل الله التشريع المنصوص في الكتاب والسنة، على وِزَانٍ يفي بحكم مستجدات الحياة، بحيث أجريت أحكامه مجرى التمثيل والتأصيل لما ليس بمنصوص، ليهتدي أولو العلم إلى حمل كل فرع على مثاله، ورده إلى أصله بضروب من العموم للمعاني، وهو ما اصطلح على تسميته بالقياس؛ بقسميه الخاص القائم على اعتبار علةٍ أو معهنى خاص ثبت في أصلٍ معينٍ، وطَرْدِ حكمه في فروعه؛ والقياس العامّ القائم على اعتبار معنى عام مقْصِدِي دلت عليه جملة من النصوص، واطردت فروع الشرع على رَعْيِه.
وهذه الصفة التي أسس عليها شرعنا الحنيف، صفة الشمول والإستيعاب لأفعال المكلفين واجتهادًا، أمكنت فقهاء الأمة من إيجاد فقه إسلامي شامل لمجريات الحياة وتقلبات أحوالها، وفق طرائق للبحث منضبطة، ومسالك للنظر والإستنباط مرسومة، تميز بين الرأي الشرعي الصادر عن فهم النصوص وإدراك لمعاني ما دلت عليه من الأحكام، وبين الرأي العادي المبني على مجرد التخمين، وهو الذي ورد عن السلف ذمُّ إعماله في الشرع.
مقدمة / 2
وكان من هؤلاء الفقهاء من زكى علمهم، وتوسع نظرهم في الفروع العملية، فرويت عنهم آلاف المسائل مما أفتوا فيه، وتوفر لهم من الأصحاب ما لم يتوفر لغيرهم، فاعتنوا بتلك المسائل، فحفظوها وجمعوها ودونوها، وقرأوها على الطلاب في المجالس.
ثم جاء بعدهم من رتبها وهذبها وحررها وبسطها، وخرج عليها فروعًا كثيرة، واحتج لها من دلائل الكتاب والسنة والإجماع، وفقه الصحابة والتابعين، ومن جهة القياس ومعقول الأصول المقررة.
وهكذا نشأت المذاهب الفقهية المشهورة المعروفة، فاشتغلت بها الأمة، وتفقهت عليها أجيالها وبثت مسائلها في الدروس والطروس، وجرت عليها الأقضية في الأمصار، والفتوى فيما يعوض للناس في شؤون عباداتهم ومعاملاتهم.
وقد استوعبت هذه المذاهب قي مجموعها، عامة فقه السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الذين لم يكتب لفقههم من الإشتهار والتدوين ما كتب لأصحاب هذه المذاهب، كالثوري والأوزاعي وأبي ثور وابن شبرمة والليث بن سعد؛ ﵏ جميعًا وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
وكان الإمام الرباني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، المروزي ثم البغدادي، ﵀ وأجزل مثوبته، أحدَ أئمة هذه المذاهب؛ برز فقهه في المسائل التي دونها عنه جماعة من أصحابه في بغداد، وجمعها وصنفها كتبًا وأبوابًا في ديوانه الجامع، أبو بكر أحمد بن هارون الخلال،
مقدمة / 3
ثم غلامُه أبو بكر عبد العزيز في كتابيه الشافي وزاد المسافر، ثم أبو عبد الله الحسن بن حامد في كتابه الجامع.
ثم انتشر هذا المذهب في العديد من الأمصار والأقطار الإسلامية، بعد القرن الخامس، لا سيما في بلاد الشام ومصر، ثم في نجد في أواسط القرن العاشر.
وبرز فيه أعلام طبقت شهرتهم الآفاق، وانتفع الناس بعلمهم على مسترسل الأزمان، كالقاضي أبي يعلى الفراء وأصحابه البغداديين، وأبي محمد عبد الله ابن قدامة المقدسي ثم الدمشقي الصالحي، صاحب المغني الكتاب العجاب الذي شرح فيه الخرقي، وشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، وتلميذه شمس الدين ابن قيم الجوزية، والحافظ ابن رجب الحنبلى البغدادي، وغيرهم كثير. فخدموا هذا المذهب خدمة جليلة في مختلف أدواره من النشأة إلى النمو إلى الإنتشار إلى الإستقرار، في مختلف الوجوه التي خُدم فيها الفقه الإسلامي عمومًا.
فمهدوا أصوله وحرروها غاية التحرير، وحققوا ما فيه من اختلاف الروايات والأقوال، وخرَّجوا كثيرًا من الفروع على نصوص إمامه أو أصوله، واحتجوا لكل مسألة من النصوص والقياس في المصنفات المذهبية والخلافية، وقعَّدوا قواعده وما يلحق بها من الأشباه والنظائر والفروق، وجردوا مفرداته التى انفرد فيها عن الذاهب الأخرى، وصنفوا في أحاديث الأحكام وفي مسائل الخلاف.
مقدمة / 4
فرحم الله سابقهم ولاحقهم، وأجزل لهم المثوبة بما خلفوا لن بعدهم من علم ينتفع به، وأي علم أنفع للناس من الفقه في الدين؟
ولما مَنَّ الله تعالى على المملكة العربية السعودية، بلم شعثها، وعصمة أمرها على إمام واحد، وراية واحدة راية الكتاب والسنة، ثاب الناس إلى الدين، وازدهرت العلوم الشرعية ونفقت سوقها، لإتصال القول بالعمل.
وكان علماؤها توارثوا هذا المذهب السني الجليل، منذ زمن بعيد، وأحبوه لحبهم إمامه الذي أجمع أهل السنة على إمامته، واستشرف السنة أو كاد، واعتمد في فقهه على فتاوى الصحابة، وقدم الأحاديث الضعيفة المنجبرة على القياس احتياطًا للنصوص، ومبالغة في التسليم للمنقول المأثور، واعتبر المصالح الثابتة قي الشرع، أصلًا تنتهي إليه الأحكام وتدور عليه، وأعمل سد الذرائع إلى المحرمات لِمَا دل الدليل القطعي على اعتبارها.
لأجل هذه الأسباب عني بالفقه الحنبلي في هذه البلاد المباركة، تعلمًا وتعليمًا، وإفتاء وقضاءً، وإخراجًا لكنوزه من دفائق التراث، وتيسيرها بين الناس من الطلاب والعلماء والباحثين، مصححة نصوصها على أصولها الخطية، مع ما يتممها من تفسير الغريب وتراجم الأعلام، وعزو الآيات والأحاديث والآثار، والإحالة على النقول، وصناعة الفهارس، وما سوى ذلك من الأعمال التي درج عليها الناس في تحقيق التراث.
مقدمة / 5
وكان من فضل الله علي أن ضربت بسهم في هذه المهمة الشريفة، وأمسكت بطرف من هذه الفضيلة المنيفة، بما يسر الله تعالى من تحقيقه من الكتب.
وكان هذا الإهتمام مني بمذهب الإمام أحمد ﵀، أمرًا اقتضاه الواقع الفقهي لمملكتنا الحبيبة؛ إذ هو المذهب السائد فيها، فى التعليم والإفتاء والقضاء. ولهذا السبب اخترت دراسة أصوله موضوعًا لرسالة الدكتوراه، وتبين لي بجلاء مكانته السامقة في عدة مجالات، وقد أوضحت ذلك بشيء من التفصيل في مقدمة "أصول مذهب الإمام أحمد" ومقدمة تحقيق "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد" لابن بدران، فاتجه العزم لخدمته وإخراج ما تيسر من كتبه. وكان تشجيع ولاة الأمر والأمراء في المملكة وبخاصة الملك فهد بن عبد العزيز ﵀ عونًا لي بعد الله ﷾، على نشرها وتوزيعها على طلاب العلم، احتذاء للسنة الحسنة التي سنها في ذلك، الإمام المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود طيب الله ثراه.
ولما نفد ما طبع من تلك الكتب، وظهرت شدة الحاجة إليها، بتكاثر طلب طلاب العلم لها، رأيت إسعافهم بطلباتهم، في إخراج جملة منها في مجموع واحد سميته" موسوعة الفقه الحنبلي" ورجوت أن أتبعها ببقيتها، إن فسح الله تعالى في العمر وهيأ الأسباب.
وقد عرضت ذلك على صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام، فاستبشر بذلك -كما هو دأبه أدام الله
مقدمة / 6
عليه سوابغ نعمه- ورحب أن يكون توزيعها على طلاب العلم، على نفقته الخاصة، حسبة لوجه الله وابتغاء لمرضاته، أجزل الله له المثوبة ومتعه بالصحة والعافية.
وكنت قد استدركت في بعض تلك الكتب، أشياء من التصويبات والإضافات، وبعضها أفاد بها بعض الإخوة، فسنح في الرغبة تلافيها ومراجعاتها في طبعة جديدة، غير أني وجدت أن ذلك يحتاج إلى وقت طويل، وحاجة الطلاب حاضوة ملحة، فرأيت أن أَرجئ النظر فيها إلى حينٍ، وعسى أن يجعله الله قريبًا.
والله ولي التوفيق.
الدكتور
عبد الله بن عبد المحسن التركي
مقدمة / 7
المذهب الحنبلي
«دراسة في تاريخه وسماته وأشهر أعلامه ومؤلفاته»
تأليف
الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي
[الجزء الأول]
Página desconocida
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
المذهب الحنبلي
«دراسة في تاريخه وسماته وأشهر أعلامه ومؤلفاته»
[١]
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
حقوق الطبع محفوظة © ٢٠٠٢ م. لا يُسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يُسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى
دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.
1 / 4
مُقَدِّمَة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد.
فقد أنزل الله سبحانه كتابه العزيز بالحق على خاتم النبيين، ليبلغه إلى خاتمة الأمم، وجعله بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة، فهو حجته على الناس جميعًا، مهما باعدت بينهم الأقطار والأمكنة، ومهما توزعتهم الأعصار ولأزمنة، ومهما زايلت بينهم الألوان والعادات والألسنة. وهو كلية الشريعة، وعمدة الملة الحنفية السمحة، وينبوع الحكمة البالغة، وآية الرسالة الخاتمة، ونور الأبصار والبصائر، فلا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة إِلا في التمسك يه واتباعه.
وجعل الله خاتم الرسل محمدًا ﵊ حجة؛ بما علمه وأدبه، وحباه به من العصمة عن مقارفة الذنوب وملابسة المعاصي، فكانت أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته تشريعًا للناس، وسنة للمسلمين، وييانًا لما أنزل إليهم من ربهم، كما قال ﷿: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤].
قال الشاطبي ﵀:
"تعريف القرأن بالأحكام الشرعية أكثره كليّ لا جزئي .. ويدل على هذا المعنى -بعد الإستقراء المعتبر- أنه محتاج إلى كثير من البيان، فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها، إنما هي ييان للكتاب .. وإذا كان كذلك، فالقرآن على اختصاره جامع، ولا يكون جامعًا إلا والمجموع فيه أمور كليات؛ لأن الشريعة تمت بتمام نزوله، لقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة:٣]. وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد، وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها قي القرآن، إِنما بينتها السنة، وكذلك العاديات من الأنكحة والعمود والقصاص والحدود وغيرها" (١).
فكان الهاديان: الكتاب العزيز والسنة المطهرة، حجة ومحجة، ونورًا مبينًا، وحبلًا متينًا، وصراطًا، من عمل بهما أجر، ومن تمسك بهما عصم، ومن دعا بهما وإليهما هدي إلى صراط مستقيم. يوشك أن يفوز بالبغية، ويظفر بالطَّلِبة، ويجد نفسه من
_________
(١) الموافقات ٤/ ٣٣٠، دار المعرفة بيروت، ١٩٩٦.
1 / 5
السابقين في الرعيل الأول. ومن تنكب عنهما كان من الضالين الزائغين، وياء يوم الفيامة بالخسران المبين.
ولم يزل الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن جاء بعدهم من أئمة الدين وفقهاء الإسلام، وهداة الأنام، ودعاة الخير من كل جيل، يبلغون هذا الدين الذي مما نزل به الكتاب وفصلته السنة، ويعلمون ما تَعلَّموا من علم جيلًا بعد جيل، حتى وصل إلينا سليمًا من التحريف، آمنًا من التغيير والتبديل، صافيًا من الأكدار، فلله الحمد والمنة وحده.
ولا يزال هذا الدين محفوظًا بحفظ الله له ما تعاقب الملوان، ذلك أن الله ﷿ قد استحفظ الأمم من قبلنا على دينه الذي شرع لهم، وكتبه التي أنزل على أنبيائهم ورسلهم، وأخذ على علمائهم من الأحبار والرهبان أن يبلغوه كما تبلغوه، وليبينُنَّه للناس ولا يكتمونه، ولا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا، فخلفت من بعدهم خلوف نبذت هذا الميثاق، وأعملت أيدي التحريف، وتصرفت بالتبديل والكتمان والدس والتزيف، حتى عادت معالم الدين مطموسة، وحقائق العقيدة والشريعة مدرسة، فاستحقوا بذلك عقاب الله وسخطه، وحلت بهم نقمته إلى يوم الدين.
أما أمة الإسلام، فقد كُفيت ذلك كله فضلًا من الله ونعمة، وعجل الله لها البشرى من أول يوم أنه حافظ لكتابه، قال ﷿: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]. فالقرآن الكريم محفوظ من التحريف والتغيير والتضييع، وإذا الكتاب حفظت السنة أيضًا بلا ريب، لأنها شرحه، وبيان وتفصيل لمجمله، وحلّ لمقفله، وتأويل لمشكله.
ثم إن الله ﷾ أظهر ذلك الحفظ في الأسباب التي جنَّدها -وإذا أراد الله شيئًا هيأ له أسبابه- وجعل تلك الأسباب المجنَّدة من جملة خصائص هذه الأمة الخاتمة، فمن ذلك: الإسناد والإجماع:
فالإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، وتميزت هذه الأمة بأنها أمة الإسناد، فلا يقول أحد قولًا في الدين إلاّ قُيض له من يقول له: من أين لك هذا؟.
كما أن إجماع علماء المسلمين في كل عصر من العصور حجة قاطعة، تلزم سائر المسلمين في العصور التي تلت وقت انعقاد الإجماع، فلا تتفق كلمتهم على ضلالة، ولا تجتمع آرهم على خلاف الحق، ولا تزال في المسلمين طائفة ظاهرةً على الحق لا يضرهم
1 / 6
من خالفهم من الطوائف، ولا يثني من عزيمتهم كثرة الأهواء وتشعب المِلل والنحَل والآراء، المتنكبة عن الصراط السوي والحبل القوي الذي هو كتاب الله وسنة رسوله.
ومن تلك الطائفه المنصورة، والجماعة المحبورة، حملة العلم المعتبرون ودعاته ورواته، فهم العدول من كل خَلَف، وهم القدوة الصالحة في كل جيل؛ يعلمون الناس دين نبيهم، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، سواء كانوا من زمره الفقهاء، أم من جمله المحدثين، أم من عداد المفسرين، أم من غيرهم، كعلماء اللغة والأصول والتاريخ والأنساب، وسائر فنون المعارف التي تخدم الشريعة.
ولما كان الفقه الإسلامى يستمد لُحمته وسداه من العلوم المشار إليها، فإنه ما من شك يمكن أن يُساورَ النفوس في أنه يحتل المرتبة العالية والدرجة السامية من حيث الأهمية والإعتبار، كمَا يُعد المشتغلون به آخذين بالحظ الأوفر من التركة النبوية، حائزين على القدح المعلّى من سهامها.
وتلك مكانة موموقة ودرجة سامقة شريفة، رامها كثير من الطلاب، وانبوى لها ثلة ممن أراد الله بهم خيرًا، وذلك مصداقًا لقول رسول الله ﷺ: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" (١).
فظهر الفقهاء فى هذه الأمة، في كل جيل من الأجيال منهم طائفة، وفى كل مصر من الأمصار منهم ثلة، حتى تكوَّن منهم في تاريخ الإسلام طبقات تعد بالألوف، من الصحابة، إلى التايعين، إلى الأئمة المجتهدين الذين عرفوا فيما بعد بمذاهب وطرائق في الإجتهاد والإستنباط، وانتسب إليهم من جاء بعدهم على توالي القرون، وفي مقدمتهم الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وكانت إلى جانبهم مذاهب أخرى تألقت وسادت فترة من الزمن، ئم انقرضت (٢) وبادت مع الأيام، كمذهب الثوري والأوزاعي وأبي ثور والليث بن سعد وابن جرير الطبري، وغيرهم.
_________
(١) أخرجه مالك في "الموطأ" ٢/ ٩٠٠، والبخاري (٧١)، في العلم، باب "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" ومسلم (١٠٣٧) (٩٨) في الزكاة، باب النهي عق المسألة. كلهم عن معاوية بن أبي سفيان ﵁.
(٢) الإنقراض لا يعني هنا البطلان والإنعدام، وإنما يعني تقلص عدد من يقلدهم في جميع اجتهادتهم إلى حد الندرة، ونحن في عصرنا بحاجة إلى جمع فقه كل إمام مجتهد من أولئك الأئمة الذين لم يكتب لمذاهبهم أن تدون، لمعرفة مواطن الإجماع والخلاف، وللإستفادة من تلك الأراء والمذاهب في قضايانا المعاصرة".
1 / 7
ولم يكن أحد من هؤلاء الأئمة يقلل من شأن غيره من نظرائه، ولا يعيب الاجتهاد على مخالفه، ولا يدعو الناس الى التزام مذهبه وما أداه إليه اجتهاده، بل حفظ عنهم أنهم كانوا ينصحون تلامذتهم باجتناب التقليد الأعمى، لأنهم غير معصومين من الخطأ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀:
"وهولاء الأئمة الأربعة ﵃ قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقودونه، وذلك هو الواجب عليهم؛ فقال أبو حنيفة: هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه، ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه: أبو يوسف بمالك، فسأله عن مسألة الصاع، وصدقهَ الخضراوات، ومسألة الأحباس، فأخبره مالك، يما تدل عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع إلى قولك كما رجعت.
ومالك كان يقول: إنما أنا بشر أصيب وأصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة، أو كلامًا هذا معناه.
والشافعي كان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عوض الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي. وفي "مختصر المزني" لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه، قال: مع إعلامه نَهْيَه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء.
والإمام أحمد كان يقول: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكًا ولا الشافعي ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا. وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال، وقال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا" (١).
وإذا كان الأئمة أصحاب المذاهب على هذه المبادئ يسيرون، فالتعصب لهم من غير دليل ارتماء في عماية، وانزلاق في غواية، كما أن المفاضلة بينهم، وإقامة سوق الترجيح بين هذا المذهب وذاك، كل ذلك يعد تفريقًا بين أبناء الأمة الواحدة، وإثارة لأسباب الفرقة والشجار والخصام، لأن التمذهب ليس دينًا متزلًا، ولا شرعًا مقدسًا، وإنما هو ضرورة لابدّ منها للعامة، ومن يتدرج في طلب العلم ممن لم يبلغوا درجة النظر في الأدلة، ولأن المذهب الواحد لا يمكن أن يكون ملزمًا لجميع الأمة حتى يتعين تقليده
_________
(١) مجموع الفتاوى ٢٠/ ٢١١ - ٢١٢.
1 / 8
والإلتزام به، فمن ذا الذي لم يعزب عنه شيء عن الأحاديث التي جمعها أئمة الحديث في دواوينهم التي بلغت عدة الأحاديث فيها الآلاف المؤلفة؟ ومن ذا الذي سلم من الخطأ فيما بناه عن الأحكام على القياس والتنظير والتمثيل؟
فالأئمة الفقهاء أصحاب فضل بما سبقوا إليه من رسم قواعد الإستنباط ومسالك الإجتهاد والنظر، وبما بذلوا من جهود في تخريج أحكام الفقه الإسلامي، وفي اختلافهم رحمة وسعة على الأمة، ومذاهبهم فىِ جملتها تتكامل ولا تتفاضل، وتتآزر ولا تتنافر، وللباحثين المجتهدين بعد ذلك أن ينظروا في أقوالهم في مسائل الخلاف مع ما نصبوا عليها من الأدلة، وما استندوا إليه من الحجج، على أنها ظنون راجحة لديهم، وقد تكون مرجوحة عند غيرهم، وهي دائمًا تخضع للدليل وتوزن بموازين الأصول، ويرجح لعنها بقواعد العلم لا بمنازع الهوى.
ولا يجادل أحد في أن سلف الأمة الصالح خير من، وهم مع ذلك فد وقع بينهم الخلاف في الرأي، وعلى الرغم من ذلك لم يكن داعيًا للتعصب، ولا مسببًا للفرقة، بل كان مجرد اختلاف رأي، واجتهادًا يرجو أحدهم به أجر الله، أخطأ أم أصاب، لقول رسول الله ﷺ له فيما رواه عمرو بن العاص: "إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (١)،
ولم يذم رسول الله ﷺ أحدًا عن الصحابة لخطإٍ وقع في اجتهاده، على كثرة ما وقع منهم.
وكذلك لم يكن أحد من أئمة الحق يتعمد مخالفة نص من نصوص الشريعة، وإذا وجد لأحد منهم ما يخالف نصًا صحيحًا، فلا بد له من عذر في تركه، إما لعدم اطلاعه عليه، أو لعدم اعتقاده أنه صادر عن رسول الله ﷺ، أو لعدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول، أو لمعارضة نصٍّ آخرَ له، أو غير ذلك من الأعذار. التي قد لا نطلع عليها. فلا يجوز للمسلمين أن يعدلوا عن قول ظهرت حجته بحديث لقول أي عالم، فتطرق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطوقه إلى الأدلة الشرعية، ومن خالفه من العلماء الذين لم يطلعوا عليه معذور، لا يلحقه عقاب ولا ذم، ولا يقال في حقه: إنه حلّل حرامًا، أو حكم بغير ما أنزل الله" (٢).
_________
(١) أخرجه البخاري (٧٣٥٢)، ومسلم (١٧١٦) وأبو داود (٣٥٧٤) وابن ماجه (٢٣١٤).
(٢) أسباب اختلاف الفقهاء، د. عبد الله التركي، ص ٢٩٨.
1 / 9
وإذا كان الخلاف في الآراء والإجتهادات ظاهرة طبعية، كاختلاف الأمزجة والأشكال والألوان في البشر، وكان العذر قائمًا مع الأجر في حق من أخطأ في اجتهاده من أئمة الدين، فيما ليس فيه نص قطعي ولا إجماع صريح ثابت، فإن النتيجة الحاصلة من الإجتهاد الواقع في المسائل الشرعية التي يسوغ فيها النظر، لابد أن تسفر عن صواب أو خطأ، والصواب دليل على توفيق الله، كلما أن الخطأ دليل على عدم العصمة في الفهم والإستنباط.
ثم إن كل إمام من أئمة المذاهب الفقهية المدونة المتبعة، بل والمنقرضة أيضًا، قد عرف بعدد من الأصحاب والتلاميذ الذين لزموا منهجه قي النظر، وأخذوا بأصوله في الإستنباط، وإن كان منهم من خالفه في بعض ما ذهب إليه لحجة رآها راجحة عنده. وهكذا أصبح المذهب الفقهي الواحد لا يمثله الإمام المنسوب إليه فحسب، بل تمثله تلك المجموعة المتألفة منه ومن أصحابه من تلامذته، وممن جاء بعدهم من أصحاب الوجوه والتخريج وغيره من طبقات المجتهدين فيه.
ولا تزال الحاجة إلى التعريف المتكامل بالمذاهب الفقهية؛ نشأة وتأسيسًا، ثم تكميلًا وتدوينًا، ثم تطورًا في الأعصار، وانتشارًا في الأمصار، والكشف عما لها من مزايا ومحاسن، وما خلفت من تراث ومأثر، والدراسة لخصائص كل واحد منها، ومؤلفاته وسائر مآثره بصفة عامة، لا تزال الحاجة إلى ذلك كله ماسة وملحة،
ومن هنا كان الهدف من هذا الكتاب هو تلبية هذه الحاجة بقدر الإمكان، والاستجاية لتلك الطلِبة المكنونة في نفوس الراغبين من الطلاب والدارسين، وذلك بالتطرق إلى إيراز ما يختص به المذهب الحنبلي من خصائص ومميزات، وما يمتاز به من مزايا وحسنات؛ وذلك من خلال المحاور التالية:
- تاريخ المذهب.
- سماته.
- أبرز أعلامه ومؤلفاتهم.
وتمثلت العناية في الجانب التاريخي بعقد دراسة عن الإمام أحمد؛ لبيان سيرته الذاتية والعلمية، ومنزلته بين أهل العلم، وتصانيفه من كتب ورسائل، والتي يمثل "المسند" حجر الزاوية فيها.
1 / 10
يلي ذلك تقسيم تاريخ المذهب الحنبلي إِلى ثلائة أدوار، تنتظم تطور المذهب في الزمان والمكان، والمواطن التي انتشر فيها منذ نشأته إلى يومنا هذا، وهذه الأدوار هي:
- دوو النشأة والتأسيس.
- دور النقل والنمو.
- دور الإنتشار.
وأما السمات التي اتسم بها، فتتمثل بتأثر عامة الحنابلة بسيرة الإمام أحمد في العلم والعمل، والإهتمام بالحديث الشريف وعلومه، والعناية بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والإلتزام بتطبيق هذه الفريضة التزامًا كاملًا، إلى غير ذلك.
والغاية المرجوة من وراء هذا وذاك هي لفت النظر إلى المآثر والمحاسن الطيبة التي غرسها الحنابلة في تاريخ الأمة الإسلامية، على أمل أن يقتدي الخلف بالسلف، ويهتدي اللاحق بعمل السابق، مستفيدًا من ذلك الرصيد المكنوز في تاريخنا المجيد.
وأما أبرز المؤلفات الففهية الحنبلية فهي جانب آخر من الجوانب التي توضح المنهج الحنبلي في التأليف والتصنيف والصناعة الفقهية، وتكشف عن مدى إسهام الحنابلة الكبير في إثراء مكتبة الفقه الإسلامي كثرة وتنويعًا.
1 / 11
تَمْهِيدْ
أولًا - كلمة "مذهب":
١ - المذهب لغة:
مذهب على وزن "مَفعل" صياغة للمصدر الميمي المشتق من المادة، كما أنها صياغة لإسم الظرف منها:
فأما المصدر الميمي، فإن مادة "ذ هـ ب" يمكنثا أن نصوغ منها ثلاثة مصادر:
- الذَّهاب، بالفتح والكسر، وهو مصدر سماعي مستعمل كثيرًا.
- الذُّهوب، كالركوب، وهو المصدر القياسي، وهو مستعمل أيضًا.
- المَذْهب، وهو المصدر الميمي للكلمة.
وأما اسم الظرف، فهو اسم لمكان الذهاب أو زمانه، فلنا أن تقول: ذهب القوم مذاهب شتى، على معنى تفرقوا قي طرائق مختلفة. وقد ورد في الحديث من هذا المعنى: "أن النبي ﷺ كان إذا أراد الغائط أبعد في المذْهب" (١). ولهذا يستعمل لفظ "المَذْهب" في معنى "المُتَوضَّأ" لأنه يذهب إليه.
ومعاني هذه المادة -أي: ذ هـ ب- تدور على أصلين، هما:
- الحُسن والنضارة، وهو معظم الباب، كما قال ابن فارس.
- السير والمرور والمضي، ويستعمل حقيقة ومجازًا، ومن مجازه تكون المعنى العرفي للكلمة، كما سنوضحه (٢).
٢ - المذهب عرفًا:
تكون المعنى العرفي لكلمة "مَذْهب" من مجاز المعنى الثاني، الذي استعمل فيه في لغة العرب -بمعنى السير والمرور والمُضي- فقد قال الزييدي: "المذهب: المعتقد الذي يذهب إليه، وذهب فلان لذهبه، أي: لمذهبه الذي يذهب فيه. والمذهب الطريقة، يقال: ذهب فلان مذهبًا حسنًا، أي: طريقة حسنة" (٣).
_________
(١) أخرجه أحمد (١٨١٧١)، وأصحاب السنن: أبو داود (١)، والترمذي (٢٠)، والنسائي ١/ ١٨، وابن ماجه (٣٣١) من حديث المغيرة بن شعبة.
(٢) ينظر: معجم مقاييس اللغة، لابن فارس مادة (ذ هـ ب) تحقيق عبد السلام هارون، نشر دار الفكر، وتاج العروس، للزبيدي، مادة "ذ هـ ب" ت. علي هلالي. مطبعة حكومة الكويت.
(٣) تاج العروس، الموضع السابق.
1 / 13