Al-Madākhil ilā Āthār Shaykh al-Islām Ibn Taymiyyah
المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية
Editorial
دار عطاءات العلم (الرياض)
Número de edición
الرابعة
Año de publicación
١٤٤٠ هـ - ٢٠١٩ م (الأولى لدار ابن حزم)
Ubicación del editor
دار ابن حزم (بيروت)
Géneros
آثَارُ شَيْخِ الإِسْلامِ ابْنِ تَيميَّةَ وَمَا لَحِقَهَا مِن أَعْمَال (١)
الَمَدَاخِلُ إلَى آثَارُ شَيْخِ الإِسْلامِ ابْنِ تَيميَّةَ وَمَا لَحِقَهَا مِن أَعْمَال
تَأْلِيف: بَكْر بن عَبْدِ الله أبو زَيْد (رَئيس المَجْمَع)
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فيسر مجمع الفقه الإسلامي بجدة المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي أن تكون طباعة هذه الأعلاق النفيسة من آثار هذا الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في سلسلة مطبوعاته؛ لأن ما فيها من العلم والتحقيق يلتقي مع أهداف المجمع الذي أسس من أجلها، ويبدي الشكر خالصًا لسعادة الشيخ سليمان بن عبد العزيز الراجحي على مبادرته الثمينة في الموافقة على تمويل هذا المشروع -أجزل الله له الأجر والثواب-.
أمين المجمع - رئيس المجمع
1 / 3
- أ -
مقدمة الطبعة الثانية لمشروع آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذه الطبعة الثانية للمشروع المبارك "آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال ١ - ٨" نخرجها بعد مضيّ بضع سنوات على صدور طبعته الأولى، وقد لقي المشروع - بفضل الله تعالى - قبولًا واسعًا وثناءً حميدًا، ونَفِدَت نسخُه في نحو شهر واحد، واشتد الطلب عليه جدًّا، لكن تأنينا في طباعته أَمَلًا في المزيد من التصحيح والتنقيح، وقد حصل ولله الحمد والمنة.
فمما أُضيف إلى "المداخل": (المدخل الثالث: أمثلة من أقواله السائرة)، وبعض الإضافات اليسيرة، وصححنا جملة من الأخطاء المطبعية ونحوها.
أما بقية الكُتب فقد صُحِّحت وروجعت كما هو مشروح في مقدماتها، والحمد لله رب العالمين.
بكر بن عبد الله أبو زيد
١٦/ ٤/ ١٤٢٧ هـ
1 / 4
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى صحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بَعْدُ: فأقول أَنا الفقيرُ إِلى عفو الله/ بكر بن عبد الله أَبو زيد آل غيهب القضاعي، ستر الله عيوبه، وغفر له ذنوبه: لقد بعثني باعث الوفاء لدين الله نشرًا له وذبًّا عنه، على وَصْلِ جهود المصلحين في نشرِ الآثارِ الغَرَّاء لمن أُلقِيَتْ إِليه مقاليد العُلوم الإسلامية والآلية شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وكَفَى باسمه غُنية عن الإشادة بذكره -سَقى الله عَهْدَه- وذلك في إِنشاء هذا المشروع العلمي المبارك: "آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال" أَعظم مُجدِّد للملة الحنيفية بعد القرون المفضلة الزكية، التي تنتهي على رأس المائة الثالثة للهجرة النبوية؛ إِذْ كان سيفًا ماضيًا، وشهابًا ثاقبًا على كل ما يُخالف دين الله وشريعته، فخضد شوكة الوثنية بعد استشرائها، واكتسح الأهواء المضلة كَفِرَقِ سُبَّاب الصحابة بعد انتشارها، ومضى إلى الملل الكفرية كالنصرانية فَدَكَّ عُروشها، وَهَدَمَ بمِعْوَلِ تَبَخُّرِهِ شُبَه المبتدعة وأزالها، وقارع متعصبة المقلدة وإلى الدَليل رَدَّها، وبعد دعوة الأمة إِلى التخلِّي عن هذه العِمايات والتحذير منها، أَخذَ يُشَيِّدُ فيها صَرْح التحفي بأحكام الملة الإسلامية ونشر لوائها.
1 / 5
وإلى ما ذُكِر أَشار تلميذه الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "النونية" فقال في وصف شيخه:
وله المقامات الشهيرة في الورى ... قد قامها لله غير جبان
نصر الإله ودينَه وكتابَه ... ورسولَه بالسيف والبرهان
أَبدى فضائحهم وبيَّن جهلَهم ... وأَرى تناقضهم بكل زمان
وأَصارهم والله تحت نوال أَهـ ... ـل الحق بعد ملابس التيجان
وأَصارهم تحت الحضيض وطالما ... كانوا هم الأعلام للبلدان
ومن العجائب أَنه بسلاحهم ... أَرداهمُ تحت الحضيض الدانِ
كانت نواصينا بأيَديهم فَمَا ... مِنَّا لهم إِلا أَسير عانِ
فغدت نواصيهم بأَيدينا فلا ... يلقوننا إِلا بحبل أَمان
ولهذا حُكي عن أبي عبد الله محمد بن قوَّام كما في: "الذيل لابن رجب: ٢/ ٣٩٣" مقولته: "ما أسْلَمت معارفُنا إلا على يد ابن تيمية" انتهى. وهذه تصلح سلفًا لما شاع في عصرنا من قولهم: "أسلمة العلوم".
وهذا يذكِّرنا بالمقام المحمود لأبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود ﵁ في حق أخيه في الصحبة والإسلام معاذ بن جبل ﵁ إذ كان في مجلس عُطِّر بذكر معاذ، فقال ابن مسعود: "إنّ معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفًا" فقال بعضهم الآية: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ﴾ فقال: "إنّ الأمة: معلم الخير، والقانت: المطيع، وإن معاذًا كان كذلك "كما في "السير: ١/ ٤٥١" للذهبي.
1 / 6
ورحم الله الأستاذ محمد كُرْد علي المتوفى سنة ١٣٧٢ إِذْ قال في ترجمته من: "كنوز الأجداد. ص/ ٣٥٠":
"لو عمَّت دعوة ابن تيمية - ولدعوته ما يماثلها في المذاهب الإسلامية ولكنها عنده كانت حارة وعند غيره فاترة- لَسَلِمَ هذا الدِّين من تخريف المخرِّفين على الدهر، وَلَمَا سمعنا أحدًا في الديار الإسلامية يدعو لغير الله، ولا ضريحًا تُشدُّ إليه الرِّحال بما يخالف الشرع، ولا يُعتقد بالكرامات على ما ينكره دين، أتى للتوحيد لا للشرك، ولسلامة العقول لا للخبال والخيال.
كان ابن تيمية في النصف الثاني من عمره سراجًا وهَّاجًا، أطفأ بعلمه وعمله شهرة أرباب المظاهر من القضاة والعلماء، وكان الصَّدْر المُقَدَّم كُلَّما دخل في موضوع ديني أو سياسي ... " انتهى.
إذًا فكيف يطيب لأهل العلم أَن لا يصلوا جهود المصلحين في نشر آثار هذا الإمام وإِخراجها بيانًا للناس، وقد فعلوا، ولا أَعلم عالمًا في الإِسلام حظي بترجمته، ونشر آثاره، ودراسة اختياراته العلمية مثل ما حظي به هذا الإمام. وما هذا المشروع إِلا لبنة في تشييد هذا الصرح الكبير.
ولئن كان لكل كتاب أو مشروع علمي مدخل، فإن هذا العمل له مداخل رأيت أن أُصدِّره بها:
1 / 7
المدخل الأول موضوع هذا المشروع
يشمل موضوع هذا المشروع: آثار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- من كتبه ورسائله وفتاويه، وما لحقها من أَعمال من المختصرات والاختيارات ونحوها، وسيرته العطرة.
وينحصر هذا الموضوع في أَربعة أَقسام:
القسم الأول: طَبعْ ما لم يسبق طبعه:
من نِعَمِ الله علينا وعلى الناس أَجمعين، انتشار فهارس مكتبات العالم حتى جمع منها عدد كبير في نحو مائة وأَربعين مجلدًا، ثم سهولة الاتصالات لاسيما عبر الشبكات وتبادل المعلومات ومراكز البحث والدراسات، فمن خِلالها وغيرها من الوسائل كسهولة السفر من بلد إِلى آخر، ظهر من آثار الأسلاف ما تقر به عيون أَهل العلم وتبتهج به نفوسهم.
وكان منها أَن تم الوقوف في مطاوي الفهارس ومراسلة الخازنين على خبر كثير من كتب ورسائل وفتاوى هذا الإِمام وما لحقها من أَعمال مما لم يُنشر من قبل.
ومن آثار ذلك اشتغال عدد من الباحثين والمحققين بها.
فهذا هو القسم الأُم من هذا المشروع، وهو الجوهرة المفقودة
1 / 9
والدرة المنشودة من هذا العِقد الثمين.
القسم الثاني: تحقيق بعض ما سبق طبعه:
منذ مائة وخمسين عامًا تقريبًا بدأت طباعة آثار شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- من أُمَّهات كُتبه، ومجاميع رسائله وفتاويه، فانتشرت بين المسلمين، وتنافس الناس في طبعها ونشرها، وكان منها مَا قُرِّرَ درسه في المساجد وفي دور العلم ويتدارسه الناس في المجالس حتى إِن بعض رسائله لا تُحصى طبعاتها؛ لأن آثاره من الخير المبذول للمسلمين، مثل: "العقيدة الواسطية" وما لحقها في عصرنا من الشروح والتعليقات.
لكن منها ما طبع وفيه أغاليط طباعية غير قليلة، ومنها ما طُبع على نسخة ناقصة ومنها ما طبع على الراقمة في رسائل جامعية على نسخة فريدة ناقصة، مثل: "نقض التأسيس" وقد تم الوقوف على نسخة مكملة لما فيها من نقص -بحمد الله تعالى- وهكذا.
القسم الثالث: ما لحقها من أعمال:
اشتغل أَهل العلم قديمًا وحديثًا بآثار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- بمؤلفات مفردة على الوجوه الآتية:
١ - الاختصار والانتقاء والتهذيب، كما لتلميذه ابن عبد الهادي، وتلميذه الذهبي، وغيرهما مثل: البعلي، والسيوطي، وغيرهما، ومنها ما لم يُعرف اسم مختصِره كما في مختصر الرد على الإخنائي. وقد ذكر ابن قاسم -رحمه الله تعالى- في مقدمة "مجموع
1 / 10
الفتاوى": أنه فتش عن مختصراتها وأدخل بعضها في مجموعه.
٢ - اختياراته -رحمه الله تعالى-: أفردها بالتأليف: تلميذه ابن عبد الهادي، والبرهان ابن القيم، وابن اللحام البعلي، وذكر جملة منها في ترجمته: تلميذه ابن عبد الهادي في: "العقود الدرية"، وابن رجب في: "الذيل"، والعليمي في: "المنهج الأحمد" وابن العماد في: "شذرات الذهب" والنواب صديق في: "التاج المكلل". وللشيخ سليمان بن سحمان نظم لبعضها من أول الطهارة إلى باب الصداق، وله نظم آخر لتسع عشرة مسألة انفرد بها شيخ الإسلام كما في: "ملتقى الأنهار من منتقى الأشعار" لابنه الشيخ صالح -رحمهما الله تعالى-.
وقال تلميذه الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في: "تاريخه: ١٤/ ٦٩": "وله اختيارات كثيرة مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف" انتهى.
٣ - الشرح والتعليق: منها: "العَلَم الهَيِّب شرح الكلم الطيب" للبدر العيني، و"اللآلئ البهية شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية" لأحمد بن عبد الله المرداوي، وذَكَر أن هذه اللامية منسوبة لابن تيمية، وهي في ستة عشر بيتًا؟ و"الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية" لابن سعدي. وشروح متعددة في عصرنا لكتابه: "العقيدة الواسطية" وغيرها.
وإنما غابت أنظار العلماء عن الشرح لكتبه؛ لأنها ليست مؤلفة
1 / 11
على المتون كطريقة الماتنين من أَهل العلم؛ ولهذا لما كان كتابه: "الكلم الطيب" كالمتن تناوله العيني بالشرح، ولما كانت: "الواسطية" كذلك تناولها المعاصرون لنا بالشرح.
٤ - الجمع الموضوعي: مثل جمع تلميذه ابن عبد الهادي للأحاديث الضعيفة التي في: "منهاج السنة"، وجمع محمد بن قاسم لمناقب أبي بكر وعمر ﵄ كذلك، وجَمَع آخرون تفسيره من كتبه المطبوعة.
٥ - دراسة اجتهاداته في الفقه وغيره، وهذه سمة بارزة في كتابات المعاصرين.
القسم الرابع: سيرته المباركة:
إن سيرة هذا الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- تستفاد من خمسة مصادر هي:
المصدر الأَول: كتب التراجم والسير العامة، وقد كفانا كتاب: "الجامع" من هذا المشروع المبارك، وقد حوى خمسًا وسبعين ترجمة من كتب التراجم العامة مخطوطها ومطبوعها.
المصدر الثاني: الكتب المفردة في ترجمته، وهي خمسة عشر كتابًا حتى نهاية عام ١٣٠٠، كما في مقدمة "الجامع". وكما كانت ترجمته لتلميذه ابن عبد الهادي في كتابه: "مختصر طبقات علماء الحديث" هي أَوْفى التراجم، فإِن كتابه المفرد: "العقود الدرية ... " ترجع إليه الكتب المفردة الأخرى، وأَرى إعادة تحقيق وطبع: "العقود الدرية ... " ويضم إِليه ما زاد عليه من كتب التراجم
1 / 12
المفردة المذكورة تحشية في محلها المناسب من هذا الكتاب، حتى يغني عنها، وهو في دور الأعداد من المشتغلين بهذا المشروع.
المصدر الثالث: التقاط ترجمته الذاتية من خلال مؤلفاته، وقد انتدب لهذا العمل بعض أفاضل طلبة العلم، وهو في دور الترتيب بعد الاستقراء والجمع.
المصدر الرابع: تتبع ترجمته من كتب تلاميذه أَمثال ابن القيم، وابن عبد الهادي، وابن مفلح، والصفدي، وابن الوردي، وغيرهم.
المصدر الخامس: تتبع ترجمته من خلال تراجم أَنصاره وخصومه من تاريخ ولادته سنة ٦٦١ إِلى تاريخ وفاته سنة ٧٢٨؛ بل إلى نهاية القرن الثامن.
وهذان المصدران -الرابع والخامس- بحاجة إلى من ينشط لاستخراجهما.
وبعد تكامل هذه المصادر الخمسة، سوف يُصاغ من مجموعها -بمشيئة الله تعالى- سيرة واحدة موثقة متسلسلة المعلومات، مستوعبة لجميع ما في هذه المصادر باسم: "السيرة الجامعة لشيخ الإِسلام ابن تيمية" -رحمه الله تعالى- وما ذلك على الله بعزيز.
* * *
1 / 13
المدخل الثاني عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-
هو شيخ الإسلام، الإمام الحجة، المجدد للمحجة، وارث علم النبوة، الناصر للسنة، القامع للبدعة، المجتهد المطلق، الشهير بشيخ الإِسلام، وبابن تيمية، وبهما، وبإِمام الدنيا في زمانه، أَحد أذكياء العالم وأَفراده في الحفظ والعلم والعمل، المُحَلَّى قبل بلوغه الثلاثين من عمره بما يبلغ الصفحات بجميل الأوصاف في علمه وعمله واجتهاده، وتجديده وجهاده، وإِيمانه وصبره، وتألهه، وزهده، وورعه، وشجاعته، وكرمه، وأَمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وتعظيمه لحرمات الله، الملقب بتقي الدِّين، والمكنى بأبي العباس، أحمد ابن الشيخ الإمام المفتي شهاب الدِّين أَبي المحاسن عبد الحليم، ابن الشيخ الإمام شيخ الإِسلام مجد الدين أَبي البركات عبد السلام ابن أَبي محمد عبد الله بن أَبي القاسم الخضر بن محمد بن تيمية بن الخضر بن علي بن عبد الله، النُّمَيْري نسبًا، الحَرَّاني مولدًا، ثم الدمشقي منشأ ومدفنًا، الحنبلي مذهبًا، ثم المجتهد آخرًا، المشتهر بابن تيمية المجدد. المولود في يوم الاثنين ١٠ ربيع الأول ٦٦١، المتوفى في ليلة الاثنين ٢٠ ذي القعدة ٧٢٨، عن سبعة وستين عامًا وثمانية أَشهر وعشرة أَيام -رحمة الله تعالى عليه-.
وقد ترجمه كثيرون تبعًا وإفرادًا، ومن النظر فيها تتبيّن الأُمور الآتية:
1 / 15
الأمر الأول: الوقوف على المعلومات الجامدة، التي تُساق لأي مُتَرْجَم، وإِن تفاوت المترجِمون فيها، كُلٌ حسب ما وهبه الله له. ومما يحسن ذكره هنا:
١ - أن سياق نسبه ثمانية آباء هي من سياق تلميذه ابن عبد الهادي دون غيره.
٢ - نسبته النميري من إفادات تلميذ تلامذته ابن ناصر الدِّين (٨٤٢)، وتابعه عليها العدوي في: "الزيارات"، بل هذه النسبة منصوص عليها في بعض رسائل الشيخ المخطوطة على طرر النسخ وقد ذكر الشيخ ابن قاسم في مقدمة "النقض" رسالتين رآهما في الظاهرية كذلك ص ٣٥ حاشية ١، وهي نسبة إلى بني نمير، وهم بطن من عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن العدنانية، وذكر القلقشندي في "نهاية الأرب. ص/ ٤٣٣" نقلًا عن ابن خلدون: أن منازل بني نمير في الجزيرة الفراتية والشام، فشيخ الإسلام إذًا عربي صريح نسبًا ولسانًا.
٣ - و"تيمية" لقب لجده محمد، وهو الخامس من آبائه، وفي تعليلها قولان مشهوران، وكان -رحمه الله تعالى- يستفتح بعض رسائله بقوله: "من أحمد بن تيمية"، ويذيل بعضها بقوله: "كتبه ابن تيمية" واشتهر بها دون أَهل بيته، وفي الشعر قول العباس بن الأحنف:
كنت مثل الكتاب أخفاه طي ... فاستدلوا عليه بالعنوان
٤ - و"الحراني" نسبة إلى بلدة مشهورة في الجزيرة بين الشام
1 / 16
والعراق، ليست هي التي بقرب دمشق ولا التي في تركيا، ولا التي بقرب حلب.
٥ - ونَعْتُهُ -رحمه الله تعالى-: كان أبيض البشرة، أسود الرأس واللحية قليل شيب اللحية، شعر رأسه إلى شحمة أُذنيه، رَبْعَة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، أبيض العينين، جَهْوَرِيَّ الصوت، فصيحًا، سريع القراءة، تعتريه حدة ثم يقهرها بحلم وصفح، كأَنّ عينيه لسانان ناطقان، إِذا أَخذ يتكلم ازدحمت العبارة في فمه.
٦ - لم يرِث العلم عن كَلَالَةٍ، وإِنّما نشأَ في بيت برز أهله في حلائب العلم، منهم أَبوه الشهاب وجده المجد.
ويكفي في وصف جَدِّه قول ابن مالك النحوي صاحب الألفية -رحمه الله تعالى-: "أُلِيْنَ للمجد الفقه كما أُلين لداود الحديد". وأما أبوه الشهاب فهو شيخ حران وحاكمها وخطيبها ومفتيها الفارق بين الفرق فيها.
٧ - والدته: الشيخة الصالحة ست النِّعم بنت عبد الرحمن بن علي ابن عبدوس الحرّانية المتوفاة بدمشق سنة ٧١٦. وقد ولد لها تسعة ذكور، ولم تُرزق بنتًا قطّ، منهم ثلاثة أَشقّاء شيخ الإسلام وهو أَكبرهم، وزين الدِّين عبد الرحمن، وشرف الدِّين عبد الله، ومن إخوته لأُمِّه بدر الدِّين قاسم بن محمد بن خالد المتوفى بدمشق سنة ٧١٧.
٨ - تفرع آل تيمية إلى دوحتين: آل عبد الله، وآل محمد، وشيخ الإسلام من آل عبد الله، وقد أحصيت مُشَجَّرَهم في: "المدخل
1 / 17
المفصّل ١/ ٥٣٢ - ٥٣٦" وبينت وجود آل تيمية إِلى أَواخر القرن الثالث عشر الهجري.
٩ - تُجْمِع التراجم على أَن الشيخ هاجر مع والده وأَهل بيته من حران إِلى دمشق أَثناء سنة ٦٦٧ والشيخ في السابعة من عمره، وذلك بسبب جور التتار.
١٠ - نشأ -رحمه الله تعالى- في تصوُّن تام وعفاف وتألُّه واقتصاد في المأكل والملبس، بَرًّا بوالديه تقيًّا ورعًا عابدًا ناسكًا صَوَّامًا قَوَّامًا.
١١ - أَخذ عن أَكثر من مائتي شيخ، كلهم دماشقة، وجُلُّهم حنابلة، وكان أَول سماعه من ابن عبد الدايم بدمشق، وهو في السابعة من عمره، ومجموع من سُمي منهم ستة وثلاثون شيخًا -فيما وقع لي-.
١٢ - أَوائل في حياته تدل على النبوغ المبكر:
* حفظ القرآن وهو في الصِّغر، في سِنِّ تعلم الخط والحساب وهو في الكتاب.
* أَتقن العلوم من التفسير والحديث والفقه والأُصول والعربية والتاريخ والجبر والمقابلة والمنطق والهيئة وعلم أَهل الكتابين، والملل الأُخرى، وعلم أَهل البدع، وغيرها في سِنٍّ مُبَكِّر، حتى أَنّه حذق العربية في أَيام، وفهم كتاب سيبويه في أَيام، وفي الحديث سَمِع "المسند" مرات وما ضُبطت عليه لحنة متفق عليها، وكان إِقباله على التفسير إِقبالًا كليًّا منقطع النظير.
1 / 18
وحقًّا إن التسلح بالعلم هو كما قال الباجي -رحمه الله تعالى- في وصيته لولديه: "والعلم ولاية لا يُعزل صاحبها، ولا يَعرى من جمالها لابسها".
* نَاظَرَ واستدل وهو دون البلوغ.
* أَفتى في سن السابعة عشرة من عمره أَي سنة ٦٧٧.
* دَرَّس في الحادية والعشرين من عمره أَي سنة ٦٨١ بعد موت أَبيه في المدرسة السكرية، وتولى مشيختها يوم الاثنين ٢/ محرم/ ٦٨٣.
* بدأ درس التفسير بالجامع الأموي في ١٠/ صفر/ ٦٩١ أَي وهو ابن ثلاثين سنة، واستمر سنين طويلة.
* حَجَّ مرة واحدة سنة ٦٩٢ أَي وعمره ٣١ سنة، وبعد عودته من الحجِّ آلت إِليه الإمامة في العلم والدِّين.
* نشر العلم في: دمشق، ومصر: في القاهرة، والإِسكندرية، وفي سجونها، وفي طريقه إلى مصر مَرَّ بغَزَّة، وعقد في جامعها مجلسًا علميًّا عظيمًا، فكان يومًا مشهَودًا.
* درس بالمدرسة الحنبلية في يوم الأربعاء ١٧/ شعبان/ ٦٩٥.
* أول رحلاته إلى مصر في القاهرة والإسكندرية مرتان سنة ٧٠٠، ثم عاد إلى دمشق، ثم رجع إلى مصر سنة ٧٠٥، وكانت إقامته بها نحو سبع سنين وسبع جمع، أي إلى سنة ٧١٢ متنقلًا في جلها بين سجون القاهرة والإسكندرية.
1 / 19
* بدأ في التأليف وهو ابن سبع عشرة سنة.
وهكذا من البدايات المبكرة، الدالة على نبوغه وتأهُّله للاجتهاد والتجديد والإمامة في العلم والدين.
الأمر الثاني: الوقوف على مواطن القوة في ترجمته:
في كتاب القدر من "صحيح مسلم" أن النبي ﷺ قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن".
ومن نظر في ترجمة شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وجد أن الله -سبحانه- قد منحه أسباب القوة التي تُبْنَى عليها قُبَّةُ النصر وهي:
- الثبات، واللهج بذكر الله -تعالى-، وطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ والاتفاق مع أنصار الإسلام والسنة، والصبر، وقد قال الله - تعالى-: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)﴾ [الأنفال: ٤٥ - ٤٦].
ومن مظاهر القوة في شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-:
- ما رزقه الله من قوة البدن واعتداله، وقوة الأداء في صوته، فقد كان جَهْوريًّا، يستولي على قلوب سامعيه، وكان الناس يتعجبون من تأثير تكبيره في الصلاة على سامعيه كما ذكره تلميذه البزار في: "الأعلام العلية"، وكان يؤم الناس لصلاة التراويح فَيَعْلُوه عند القراءة خشوع ورِقَّة حاشية تأخذ بمجامع القلوب كما قاله تلميذه ابن الوردي في: "تتمة المختصر" وقال تلميذه الذهبي: "ويصلي
1 / 20
بالناس صلاة لا يكون أطول من ركوعها وسجودها" انتهى من: "الذيل" لابن رجب.
- قوة الحفظ فقد بَهَرَ الفضلاء بذلك، وقَلَّما حفظ شيئًا فنسيه، وقد كان يحفظ "المحلى" لابن حزم ويستظهره، وكان أول محفوظاته في الحديث: "الجمع بين الصحيحين" للحميدي، وقَلَّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث معزوًّا، مع شدة استحضاره له وقت الحاجة إلى الدليل. قال جمال الدين السُّرمري في "أماليه": "ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل زماننا: أن ابن تيمية كان يمرُّ بالكتاب مطالعةً مرةً فينتقش في ذهنه وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه" كما في "الدرر الكامنة" لابن حجر.
- قوته في فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وسرعة إِدراكه؛ ولهذا قيل عنه: "كأن عَيْنيه لسانان ناطقان".
- تواريخ لها مدلولاتها على قوته ونبوغه المبكر.
* ناظر وهو دون البلوغ، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيتكلم ويناظر ويُفْحِم الكبار ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا انقطع معه.
* أفتى في سن السابعة عشرة من عمره، أي سنة ٦٧٧، وكان الشرف أحمد بن نعمة المقدسي الحنبلي المتوفى سنة ٦٩٤ هو الذي أذن له بالفتيا وكان يفتخر بذلك.
* بدأ التأليف وهو في سن السابعة عشرة من عمره أي سنة ٦٧٧.
1 / 21
* دَرَّس وهو في الحادية والعشرين من عمره، أي سنة ٦٨١. وكان أول دروسه بعد وفاة أبيه في مدرسة الحديث السكرية، وتولى مشيختها في يوم الاثنين ٢/ محرم/ ٦٨٣.
* بدأ درس التفسير في ١٠/ صفر/ ٦٩١ أي وعمره ثلاثون سنة، واستمر مدة سنين متطاولة وقد انعقدت له الإمامة في التفسير وعلوم القرآن الكريم، وقد أَقبل عليه إِقبالًا كليًّا حتى حاز فيه قصب السبق، ويقال: إنه وضع تفسيرًا مطولًا أتى فيه بالغريب العجيب.
- قوته في الطلب والتلقي والأخذ عن الشيوخ، حتى دار في دمشق على أكثر من مائتي شيخ.
- قوته في البحث والقراءة والمطالعة، فلا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث.
- قوته في ضبط النفس والسيطرة عليها من ملاذ الدنيا، فلا لذة له أكبر من نشر العلم وتدوينه والعمل به، والدعوة إلى إقامة دين الله والوقوف أمام المفسدين في الأرض على اختلاف انحرافاتهم وفسقهم وفجورهم.
ولهذه القوة العلمية والعملية عند شيخ الإسلام مظاهر:
* رفضه للأُعطيات.
* قناعته بما له من المعلوم الذي يسدُّ حاجته على يد أخيه الشرف، وهو القائم بشؤونه ومصالحه.
1 / 22
ما تزوج ولا تسرَّى قط لا رغبة عن هذه السنة، ولكنه مثقل الظهر بهموم العلم والدعوة والجهاد.
- قوته في مواقفه الجهادية، والمغازي الإسلامية، وكسر شوكة الملاحدة والباطنية، كما في وقعة شقحب- قرية قبلة دمشق ٣٧ كيلًا، والكسروان، وموقفه مع "قازان"، حتى وصفت شجاعته بأنّها "خالدية".
- قوته في حياته الجادة التي لا تعرف الهزل، فضلًا عن سافل الأخلاق من الغيبة والنميمة، فقد كان -رحمه الله تعالى- في غاية التنزه عنها، وما عرفت له عشرة في شيء من ذلك، وكانت مجالسه عامرة بالخير لا يجرؤ المغتابون على غشيانها.
- قوته في مواقفه مع الولاة، في النصح والأمر والنهي.
- قوته في تعبده، وتألهه، ومداومة الذكر، والأوراد، لا يشغله عن هذا شاغل ولا يصرفه صارف.
فأين من يظهر القوة في الحق وإذا حضرت العبادات تثاقلت أعضاؤه، وأصيب بالخمول، على حد ما ذكره الإِمام الشافعي ﵀ تعالي- من العجائب التي شهدها وَعَدَّ منها: أنه رأى مغنيًا بالمدينة يُعَلِّم الجواري الغناء وعمره "٩٠" عامًا وهو قائم فإذا حضر وقت الصلاة، صلى وهو جالس -نعوذ بالله من الحرمان-.
- قوته في تفجير دلالات النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها، وهذه وحدها تعطي طالب العلم دفعة إِلى إدامة النظر في كتبه وقراءتها مرة بعد أخرى.
1 / 23