البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج
البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج
Editorial
دار ابن الجوزي
Número de edición
الأولى
Año de publicación
(١٤٢٦ - ١٤٣٦ هـ)
Ubicación del editor
الرياض
Géneros
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ [آل عمران: ١٠٢]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ [النساء: ١]، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
[أما بعد]: فهذا شرح "صحيح الامام مسلم بن الحجاج" رحمه الله تعالى، أبدأ فيه، فأقول:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده، ولم يجعل له عِوجًا، وأسند بيانه إليه ﷺ، ورفع عنّا بذلك حَرَجًا، فقال ﷾ في محكم تنزيله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]، فكانت سنَّته بيانًا أبلجا (^١)، فأعظم بذلك تشريعًا أنهجا، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي جعل للمتقين مخلصًا ومخرجًا، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وواضعًا عنهم كلّ إصر كان أثقل ظهر الأولين
_________
(^١) "أبلج، وكذا أنهج، وأبهج" بَعْدَهُ كلها أفعال ماضية، وليست من أفعل التفضيل، حتى يقال: يلزم منع صرفها، فـ "أبلج" رباعيًّا كبلج ثلاثيًّا بمعنى أضاء، وأشرق، و"أنهج" رباعيًّا بمعنى وضح، وأوضح، كنهج من باب منع ثلاثيًّا، وأبهج بمعنى أفرح وسرَّ، كبَهَج، من باب منع ثلاثيًّا، راجع "القاموس المحيط" في باب الجيم.
1 / 5
مُحْرِجا، صلّى الله عليه وعلى آله، وصحبه، وسلّم تسليمًا أبْهَجَا.
[أما بعد]: فلمّا يسّر الله تعالى لي بفضله شرح مقدّمة صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى، شرحًا مطوّلًا مستوعبًا لمقاصدها، ومحتويًا على فوائدها، ويسّر الله تعالى طبعه، ونشره بين أهل العلم، أحببتُ أن أتطفّل بإلحاق ذلك بشرح "صحيحه" كاملًا، شرحًا يستوفي مقاصده، ويحوي فوائده، ويستوعب مباحثه، ويزيل ملتبساته، ويفتح مقفلاته، ويبيّن ما تضمّنه من أنواع العلوم، وأسرار الفهوم، ويوضّح ما وقع فيه من المشكلات الإسناديّة، أو المتنيّة، وغير ذلك من المطالب التي هي من أهمّ المهمّات لطلّاب العلم، ولا سيّما طلّاب الحديث، مستمدًّا ذلك من فيض فضل الملك الوهّاب، ومقتبسًا من كلام أولي الألباب، من جهابذة أهل الحديث، ممن أسهموا في خدمة هذا الفنّ في القديم والحديث، وأخصّ منهم شُرّاحه الحفّاظ الأئمة الأخيار: القاضي عياضًا، وابن الصلاح، والقرطبي، والنوويّ. وحَذَام (^١) المحدثين في المتأخرين، أحمد بن محمد بن عليّ المعروف بابن حجر العسقلاني، في كتابه العديم النظير في بابه "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، فقد قلت فيه: لولا فتح الباري، ثم "فتح الباري" (^٢) ما قضيت أوطاري.
وكذا كتب الأئمة الحفّاظ: ابن المنذر، والبيهقيّ، والبغويّ، والخطابئ، والمنذريّ، والذهبيّ، وابن حزم، وابن دقيق العيد، وابن المُلَقّن، وابن تيميّة، وابن القيّم، والعينيّ، وابن قُدامة، والصنعانيّ، والشوكانيّ، وابن الأثير، والفيّوميّ، وابن منظور، والمجد الفيروزآباديّ، وغيرهم ممن يمرّ عليك حين أعزو الكلام إليه، رحمهم الله تعالى أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، وأدخلنا مدخلهم الكريم آمين.
فسيكون الشرح - إن شاء الله تعالى - بحوله وقوته قرّة أعين محبي السّنَّة، يزيل عنهم كلّ غبَش وسِنَة.
_________
(^١) هذا إشارة إلى البيت المشهور الجاري مجرى المثل [من الوافر]:
إذا قَالَتْ حَذَامِ فَصَدّقُوهَا … فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَامِ
(^٢) فتح الباري الأول معناه: فتح الله تعالى عليّ بارئ الخلق، ومعنى "فتح الباري" الثاني كتاب الحافظ ابن حجر شرح البخاري.
1 / 6
فيا طلّاب علم الحديث أهلًا بكم في رِحَاب كتاب نفيس، رائق الحديث لكل جليس، ولكل من استوحش ببعده عن فنّ الحديث أنيس (^١).
ولا أريد أن أُطيل بوصفه البيان، بل أكتفي بِلَمْحَةِ البنان، فإن الذَّكِيَّ يَفْهَمُ بأدنى إشارة، ما لا يَفهَمه الغبيّ بألف عبارة، والبليدُ لا يفيده التطويل، ولو تُلِيَت عليه التوراة والإنجيل، والمشاهدة أعلى من الشهادة، وأقوى الوسائل في الإفادة.
يَا ابْنَ الْكِرَامِ أَلَا تَدْنُو فَتُبْصِرَ مَا … قَدْ حَدَّثُوكَ فَمَا رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَا
(وسمَّيتُهُ: "البحرَ المحيط الثَّجَّاج في شرح صحيح الامام مسلم بن الحجاج"، رحمه الله تعالى).
واللهَ تعالى الكريمَ أسألُ القَبولَ، والإخلاصَ، وأن ينفعني به، وكلَّ مَن تلقّاه بقلب سليم يومَ وقوعِ القصاص، إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ الدعوات، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾ [الشورى: ٢٥].
﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: ٨٨].
وقبلَ أن أَشْرَعَ في المقصود - بعون الملك المعبود - ينبغي أن اقدّم تنبيهين مهمّين:
[التنبيه الأول]: في بيان منهجي في شرح هذا الكتاب:
(اعلم): أن منهجي الذي سلكته في هذا الشرح كما يلي:
(١) - ترقيم أبواب الكتاب، وأحاديثه، وقد جعلت له رقمين:
الأول: رقمي الذي اتخذته رقمًا مفصّلًا لأحاديث الكتاب كلها، وصورته هكذا [١].
والثاني: رقم محمد فؤاد عبد الباقي ﵀، وجعلته بعد رقمي، وصورته هكذا (١)، وإذا لم يرقم له؛ لكونه يراه مكرّرًا، فأكتب له هكذا (…) إشارةً إلى أنه اعتبره مكرّرًا.
(واعلم): أن ترقيم محمد فؤاد، وإن كان غير معتبر في الحقيقة، كما
_________
(^١) عطف على "نفيس"، ويتعلق به قوله: "لكل من" الخ.
1 / 7
أسلفته في شرح المقدّمة، لكن اعتمد عليه الناس؛ لاعتماد أصحاب المعاجم والمفهرسات، والبرامج الحديثة عليه، وشهرته بينهم، وقد كنت قديمًا أعرضت عنه، وزهدت فيه؛ لعدم كونه ترقيمًا صحيحًا؛ إذ ترك ترقيم المكرّرات، ويجعل أحيانًا رقمين فأكثر لحديث واحد، وربّما يعكس، لكنّي اضطررت أخيرًا أن أُدخله؛ لما ذكرتُ من اعتماد الناس عليه، وجعلت الإحالات التي في التخريج مبنيّة عليه، فإذا أحلت حديثًا يأتي، أو مضى بالرقم، فالمراد به رقمه، لا رقمي الذي التزمته لجميع أحاديث الكتاب، وهذا من باب التيسير على الناس؛ لئلا يدخل التشويش عليهم لو غيّرت الأرقام المألوفة لهم، فليُتفطَّن لذلك، فإنه مهمّ جدًّا.
(٢) - كتابة نصّ العنوان: الكتاب، أو الباب، وقد سبق أن تراجم الأبواب ليست من وضع المصنف رحمه الله تعالى، وإنما هي من وضع الشرّاح، وأنا أتوخى أليق الترجمة بالحديث، فأضعه، هذا بالنسبة للأبواب، وأما أسماء الكتب، كـ"كتاب الإيمان"، و"كتاب الطهارة"، ونحو ذلك، فإنها من وضعه، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في مقدّمة شرح المقدّمة، ثم أشرح ما وضعه المصنّف من أسماء الكُتُب، على ما يليق بها، وأما أسماء الأبواب فلا أتعرّض لها؛ لعدم كونها من وضع المصنف، فتنبّه.
(٣) - كتابة نصّ الحديث سندًا ومتنًا.
(٤) - ذكر تراجم رجال السند، مسلسلًا بالأرقام، وأذكر له عنوانًا بقولي: "رجال هذا الإسناد: خمسة"، أو ستة، أو نحو ذلك.
(٥) - إن كان المترجم لم يَسْبِقْ له ذكرٌ، توسّعت في ترجمته بذكر ما قاله علماء الجرح والتعديل، حتى يُعْرَف حقَّ المعرفة بما له وما عليه، وإن تقدّمت ترجمته ذكرتُ ما يُعْرَف به من نسبه، وطبقته، ومرتبته في العدالة، والضعف، ووفاته، ومن أخرج له مع المصنّف من أصحاب الأصول، ثم أُحيله على المحلّ الذي سبقت ترجمته المطوّلة فيه برقم الباب والحديث.
(٦) - أعتمد في الترجمة أوّلًا على عبارة "تقريب التهذيب" حتى تكون كالْفَذْلَكَة لما يأتي، ثم أذكر بعدها ما يكون كالتفصيل لها من الكتب الأخرى، وغالبًا أنقله من "تهذيب التهذيب"، وإذا كان صحابيًّا فمن "الإصابة في تمييز الصحابة"، وقليلًا من "لسان الميزان"، و"تعجيل المنفعة"، و"هدي الساري
1 / 8
مقدّمة فتح الباري"، وكلها للحافظ أبي الفضل ابن حجر المتوفّى سنة (٨٥٢ هـ) رحمه الله تعالى، ومن "تهذيب الكمال" للحافظ أبي الحجّاج المزّيّ المتوفّى سنة (٧٤٢ هـ) رحمه الله تعالى، و"الخلاصة" للحافظ الخزرجيّ المتوفّى سنة (٩٢٣ هـ) رحمه الله تعالى، و"سير أعلام النبلاء"، و"تذكر الحفّاظ"، و"ميزان الاعتدال"، وكلها للحافظ الذهبيّ المتوفّى سنة (٧٤٨ هـ) رحمه الله تعالى، و"التاريخ الكبير" للإمام البخاريّ المتوفّى سنة (٢٥٦ هـ) رحمه الله تعالى، و"الجرح والتعديل" للإمام ابن أبي حاتم المتوفّى سنة (٣٢٧ هـ) رحمه الله تعالى، و"الثقات" للإمام ابن حبّان البستيّ المتوفّى سنة (٣٥٤ هـ) رحمه الله تعالى، وغيرها مما كتبه المحقّقون الأعلام رحمهم الله تعالى.
(٧) - ذكر لطائف الإسناد.
(٨) - أكتب الطبقات بين القوسين هكذا [١]، ورقم الباب والحديث هكذا ١/ ١، فالرقم الذي قبل الخطّ المائل للباب، والذي بعده للحديث.
فأقول مثلًا: زُهير بن حرب - شيخ المصنّف في أول "كتاب الإيمان" - النسائيّ، نزيل بغداد، ثقة ثبت [١٠] ١/ ٤ فرقم العشرة للطبقة، ورقم الواحد الذي قبل الخط المائل للباب، ورقم الأربعة الذي بعده للحديث، فمعناه أن زهيرًا من الطبقة العاشرة، وقد تقدّمت ترجمته كاملةً في الحديث الرابع، من الباب الأول، وهكذا.
(٩) - ثم أَدْخُلُ في شرح الحديث مبتدءً بذكر الصحابيّ، أو مَن دونه حسب ارتباط الكلام، وأكتب له عنوانًا بلفظ: "شرحُ الحديث"، ثم أقول: "عن أبي هريرة ﵁ … "، فأذكر ما يتطلّبه ذلك الحديث من شرح غريبه، وبيان صرفه، وإعرابه، وإيضاح ما يُستشكل من جُمَله، وذلك ببيان أقوال اللغويين، والنحويين، والبيانيين، والفقهاء المعتبرين، وغير ذلك.
(١٠) - ثم أذكر المسائل التي تتعلّق بذلك الحديث، فأكتب عنوانًا: "مسائل تتعلّق بهذا الحديث"، فأقول مثلًا:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة ﵁ هذا متّفقٌ عليه، وإن كان مما انفرد به المصنّف أقول: انفرد به المصنّف، وأريد به انفراده عن البخاريّ، لا عن بقية أصحاب الأصول، فليُتنبّه لهذا.
1 / 9
و(المسألة الثانية) في تخريجه، ويشمل ذلك بيان مواضع ذكر المصنّف له، وتخريجه من الكتب الستّة، و"مسند أحمد"، و"مسند عبد بن حُميد"، و"مسند الحميديّ"، و"مسند البزّار"، و"مسند أبي يعلى"، و"مسند أبي عوانة"، وهو مستخرج على هذا الكتاب، و"مستخرج أبي نعيم" على هذا الكتاب أيضًا، و"معاجم الطبرانيّ الثلاثة"، و"الإيمان" لابن منده، و"صحيح ابن خزيمة"، و"صحيح ابن حبّان"، و"مستدرك الحاكم"، وكتب الطحاويّ، والبيهقيّ، والبغويّ، وغيرها من المصنّفات الحديثيّة حسبما تيسّر.
و(المسألة الثالثة) في فوائده، وأُشير في الفائدة الأولى إلى وجه المطابقة لذكر الحديث في ذلك الباب.
و(المسألة الرابعة) في اختلاف أهل العلم في حكم كذا، إذا كان هناك اختلاف بينهم في مسألةٍ ما من الحديث، وهلُمّ جرًّا بحسب كثرة متعلّقات الحديث وقلّتها، وهكذا كلّ حديث إلى أن ينتهي الباب، أو الكتاب.
(١١) - العناية بإتمام إحالات المصنّف بقوله: "مثل حديث فلان"، أو "مثله"، أو "نحوه"، أو غير ذلك، فأذكره من الكتب التي أخرجته، بسنده ومتنه، كالكتب التي تقدّم ذكرها آنفًا، وغيرها من الكتب التي تعتني بإخراج الحديث بإسناده.
وهذا البحث مهمّ جدًّا، فإن إحالات المصنّف ﵀ في هذا الكتاب كثيرة، ولم يَقُم أحد من الشرّاح فيما وصل إليّ بهذا المهمّ، مع شدّة الحاجة إليه، فأنا - إن شاء الله تعالى - سأبذل جهدي في إتمام ذلك، كسائر الأمور التي ذكرتها، أسأل الله تعالى العظيم رب العرش العظيم أن يوفّقني لذلك.
اللهمّ لا سهل إلا ما جعلته سهلًا، سهّل لي بمنّك وكرمك إتمام هذا الشرح على الوجه المطلوب، إنك جواد كريم، رؤوف رحيم، آمين آمين آمين.
* * *
[التنبيه الثاني]: في ذكر أسانيدي إلى الإمام مسلم ﵀ في هذا الكتاب:
(اعلم): أنه قد سبق أن ذكرت الإسناد إلى الإمام مسلم ﵀ في شرح المقدِّمة، لكنّي أحببت إعادته هنا في أول هذا الشرح ليسهل لمن أراده؛ إذ
1 / 10
ربّما يَشُقّ على بعض الناس مراجعة شرح المقدّمة، ولا سيّما مع اختلاف اسم الكتابين، فأقول:
(أما بعد): فإنّي أروي صحيح الإمام الحافظ الحجة الناقد البصير أبي الحسين مسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيريّ النيسابوريّ (٢٠٤ - ٢٦١ هـ) رحمه الله تعالى قراءةً لبعضه، وسماعًا لبعضه، وإجازةً لكلّه عن مشايخ كثيرين:
(١) - فمنهم: والدي العلّامة الجليل، والدرّاكة النبيل الشيخ علي بن آدم بن موسى المتوفّى يوم الخميس (١٢/ ٩/ ١٤١٢ هـ) وله نَيفٌ وثمانون سنة رحمه الله تعالى، والشيخ عبد الباسط بن محمد بن حسن النحويّ البورنيّ المناسيّ، والشيخ المقرئ المحدّث حياة بن علي، والشيخ محمد زين بن محمد ياسين الداني قراءة عليه لمعظمه، وإجازةً عن الباقين رحمهم الله تعالى أربعتهم عن العلّامة المقرئ المحدث الشيخ كبير أحمد بن عبد الرحمن الْعدّيّ، الحسنيّ أبًا، العَقِيليّ أُمًّا، الدوّويّ بلدًا، المتوفّى سنة (١٣٩٠ هـ) عن العلّامة عبد الجليل بن يحيى الدُّلّتّيّ، عن والده يحيى بن بشير الدُّلّتّيّ، عن والده بشير الدّلّتّيّ، عن المفتي داود بن أبي بكر الدّوّويّ، عن السيد سليمان بن يحيى مقبول الأهدل، عن صفيّ الدين أحمد بن محمد مقبول الأهدل، عن أحمد بن محمد النخليّ المكيّ، عن محمد بن علاء الدين البابليّ، عن أبي النجا سالم بن محمد السنهوريّ، عن نجم الدين محمد بن محمد بن أحمد الغيطيّ، عن القاضي زكريا بن محمد الأنصاريّ، عن أبي نعيم رضوان بن محمد العقبيّ، عن أبي الطاهر محمد بن محمد بن عبد اللطيف بن أحمد القاهريّ، سماعًا لجميعه بقراءة الحافظ أحمد بن عليّ الشهير بابن حجر العسقلانيّ في أربعة مجالس، سوى مجلس الختم، عن أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد بن عبد الهادي الحنبليّ المقدسيّ، سماعًا لجميعه عليه، عن أبي العباس أحمد بن عبد الدائم النابلسيّ، سماعًا لجميعه عن محمد بن عليّ بن محمد بن حسن بن صدقة الحرّانيّ، عن فقيه الحرم أبي عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الْفُرَاويّ، عن أبي الحسن عبد الغافر بن محمد الفارسيّ النيسابوريّ، عن أبي أحمد محمد بن عيسى بن محمد الْجُلُوديّ النيسابوري، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه
1 / 11
الزاهد النيسابوريّ، قال: أخبرنا به سوى ثلاثة أفوات معلومة، فبالإجازة، أو الوجادة مؤلّفه الحافظ الحجة أبو الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى.
(٢) - (ح) وأرويه أيضًا عن شيخي العلّامة محمد زين ابن الشيخ محمد ياسين الدانيّ المتوفّى سنة (١٣٩٥ هـ) المتقدّم ذكره قراءة له مع شرح الإمام النوويّ إلى "كتاب الحدود"، وإجازة لباقيه، عن شيخه المحدث الكبير الشيخ محمد سراج بن محمد سعيد الأنّي، وهو يروي النصف الأول منه سماعًا عن العلّامة محمد السَّمَلّوطيّ، عن الشيخ محمد عليش، عن العلّامة الأمير الصغير، عن والده العلّامة الأمير الكبير، عن الشهابين الملّويّ، والجوهريّ … ويروي النصف الثاني منه مع بعض الأفوات، فبالإجازة، عن الشيخ محمد الحلبي الشافعيّ، عن برهان الدين إبراهيم السقّا الأزهريّ، عن وليّ الله ثُعَيلب، عن الشهابين المذكورين، كلاهما عن علّامة الحجاز عبد الله بن سالم البصريّ، عن العلّامة شمس الدين محمد بن علاء الدين البابليّ، عن أبي النجا سالم بن محمد السنهوريّ، عن الحافظ نجم الدين الغيطيّ، عن القاضي زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي العسقلانيّ، عن الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقيّ، عن أبي الحسن بن علي الخبّاز، والحافظ علاء الدين ابن العطار، عن شارحه الإمام محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النوويّ، عن أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن مضر الواسطيّ، عن الإمام ذي الْكُنى: أبي بكر، وأبي القاسم، وأبي الفتح منصور بن عبد المنعم بن عبد الله الْفُرَاويّ، عن جدّه فقيه الحرم أبي عبد الله محمد بن الفضل الْفُرَاويّ بالسند المتقدّم.
(٣) - (ح) وأرويه أيضًا عن شيخي العلامة محمد زين الدانيّ عن شيخه محمد سراج الأنيّ، عن يوسف بن إسماعيل البيروتيّ، عن شيخه محمود حمزة أفندي، عن شيخه سعيد الحلبيّ، عن الشيخ شاكر العقاديّ، عبد الرحمن بن محمد بن زين العابدين الكزبري الدمشقي الشامي، عن الشيخ المسند أبي المواهب محمد الحنبليّ، عن والده المحدث عبد الباقي البعليّ، عن المسند الشهاب أحمد المقريّ، عن القاضي أحمد عن عبد العزيز بن فَهْد المكيّ، عن الشيخ تقي الدين الهاشميّ، عن المعمر أبي إسحاق إبراهيم بن صديق
1 / 12
الحريري، عن يونس بن إبراهيم الدبوسيّ، عن علي بن الحسين بن الْمُقَيَّر، عن الحافظ أبي الفضل محمد بن ناصر الفارسي السلاقي، عن الحافظ أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد الأصبهانيّ، عن الحافظ أبي بكر محمد النيسابوريّ عن الإمام مكي بن عَبدان التميميّ، عن الإمام مسلم رحمه الله تعالى.
قال الشيخ عبد الباقي الحنبلي في ثبته: وهذا السند من العوالي؛ لأنه ليس بيننا وبين مسلم إلا أحد عشر شيخًا، انتهى.
(٤) - (ح) وأرويه أيضًا عن شيضي محمد زين بسنده المذكور إلى الشيخ عبد الرحمن بن زين العابدين الكزبريّ، عن ابن عقيلة، عن الحسن العجيميّ، عن أبي الوفاء العجليّ، عن الإمام يحيى بن مكرم الطبريّ، عن جده محب الدين محمد الطبريّ، قال: أخبرنا الشيخ زين الدين، أبو بكر بن الحسين المراغي المدنيّ، عن أحمد بن أبي طالب الحجار، عن الأنجب بن أبي السعادات الحمامي، قال: أخبرنا أبو الفرج مسعود بن الحسين الثقفيّ، عن الحافظ أبي القاسم عبد الرحمن بن منده، عن الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الله الجوزقيّ، عن مكيّ بن عبدان التميمي، عن مؤلفه مسلم بن الحجاج.
(٥) - (ح) وأرويه أيضًا عن شيخي محمد زين بسنده السابق إلى الشيخ عبد الرحمن بن سليمان الأهدل، عن الشيخ المعمر، محمد بن سنة، عن الشريف محمد أبي عبد الله الواولتي، عن الشيخ أحمد بن محمد العجلي، عن يحيى بن مكرم الطبري، بالسند المتقدم.
(٦) - (ح) وأرويه عن شيخي محمد زين بسنده المذكور آنفًا إلى الشريف أبي عبد الله محمد الواولتي، عن الشيخ محمد بن خليل بن أركماش الحنفي، عن الحافظ ابن حجر العسقلانيّ، قال: أخبرنا بجميع "صحيح مسلم" إجازةً الشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن محمد النيسابوريّ، مشافهة بالمسجد الحرام، عن أبي الفضل، سليمان بن حمزة المقدسيّ، عن أبي الحسن علي بن الحسين بن علي بن المقير، عن الحافظ أبي الفضل محمد بن ناصر السلاميّ، عن الحافظ أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده، عن الحافظ أبي بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا بن الحسن الجوزقيّ، عن أبي الحسن مكي بن عبدان النيسابوريّ، عن الإمام مسلم.
1 / 13
قال الحافظ ابن حجر: هذا السند في غاية العلو، وهو جميعه بالإجازات انتهى.
(٧) - (ح) وأرويه أيضًا عن الشيخ المحدث المتقن محمد بن عبد الله الصوماليّ رحمه الله تعالى إجازة عن الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحمدان المدرس بالحرم المكيّ، عن أبي عبد الله محمد بن يوسف السورتيّ، عن محمد بن الطيب المكيّ، عن الشيخ حسين بن محسن الأنصاريّ اليمنيّ، عن الشيخ ناصر الحازميّ، عن العلّامة محمد بن عليّ الشوكانيّ، عن عبد القادر الكوكبانيّ، عن محمد حياة السنديّ، عن سالم بن عبد الله البصريّ، عن أبيه الشيخ عبد الله بن سالم البصريّ بالسند المتقدّم في سندي مشايخي الأربعة.
(٨) - (ح) وأرويه أيضًا عن الشيخ محمد بن عبد الله الصومالي، عن شيخه عبد الحقّ بن عبد الواحد عن أبي سعيد حسين بن عبد الرحيم، وغيره، عن السيد نذير حسين، عن عبد الرحمن بن سليمان الأهدل، عن محمد بن محمد بن سنة المغربيّ، عن محمد بن عبد الله الوولاتي، عن البدر القرافي، عن الحافظ السيوطيّ، عن العلم البلقينيّ، عن والده السراج البلقيني، عن الحافظ أبي الحجاج المزيّ، عن الإمام النوويّ بسنده المتقدّم.
(٩) - (ح) وأرويه أيضًا عن شيخي العلّامة المحدث الشهير محمد بن رافع بن بصيري إجازة، عن شيخه محمد بن محمد أمين خير الباكستاني ثم المكي، عن محمد يحيى الكاندهلوي، عن الشيخ رشيد أحمد الجنجوهي، عن عبد الغني المجدديّ، عن محمد إسحاق، عن جده عبد العزيز، عن أبيه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، عن أبي طاهر محمد بن إبراهيم الكوراني المدنيّ، عن والده البرهان إبراهيم بن حسن الكردي المدني، عن الشيخ سلطان بن أحمد المزاحي، عن شهاب الدين أحمد بن خليل السبكي، عن النجم الغيطيّ، عن زين الدين زكريا الأنصاريّ، عن الحافظ ابن حجر العسقلانيّ، عن الصلاح ابن أبي عمر المقدسيّ، عن فخر الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي المعروف بابن البخاريّ، عن أبي الحسن المؤيد بن محمد الطوسيّ، عن فقيه الحرم أبي عبد الله محمد بن الفضل الفراوي بسنده المتقدّم.
1 / 14
(١٠) - (ح) وأرويه أيضًا قراءة لأول حديث منه، وإجازة لباقيه عن المسند الكبير الشيخ محمد ياسين بن محمد عيسى رحمه الله تعالى، عن الشيخ علي بن عبد الله البنجري، عن زين الدين بن بدوي الصومباري، عن المعمر الكياهي نووي بن عمر البنتنيّ، عن محمد بن كنان الفلمباني، عن عبد الصمد بن عبد الرحمن الفلمباني، عن الشيخ عاقب بن حسن الدين، عن أبيه حسن الدين بن جعفر الفلمباني، عن الإمام عيد بن عليّ النمرسيّ المصري، ثم المكيّ، عن الحافظ المحقق عبد الله بن سالم البصري المكيّ بالسند المذكور آنفًا.
(١١) - (ح) وأرويه أيضًا عن الشيخ إسماعيل عثمان زين اليمنيّ، عن شيخه محمد بن يحيى دوم الأهدل، عن محمد بن عبد الرحمن الأهدل، عن محمد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل، عن عمه شرف الإسلام الحسن بن عبد الباري الأهدل، عن عبد الرحمن بن سليمان الأهدل، عن سليمان بن يحيى مقبول الأهدل، عن أحمد بن محمد شريف مقبول الأهدل، عن عماد الدين السيد يحيى بن عمر مقبول الأهدل، عن أبي بكر بن علي البطاح الأهدل، عن يوسف بن محمد البطاح، عن الطاهر بن حسين الأهدل، عن وجيه الدين عبد الرحمن بن علي الديبع الشيباني، عن زين الدين أحمد بن عبد اللطيف الشرجي، عن سليمان بن إبراهيم العلويّ، عن برهان الدين إبراهيم بن عمر العلويّ، عن محدث الشام أبي الحجاج يوسف بن الزكيّ عبد الرحمن الشهير بالحافظ المزيّ، عن شارحه الإمام النوويّ بسنده المذكور.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ولي أسانيد متعدّدة إلى الإمام مسلم رحمه الله تعالى غير هذه، ويكفي هنا ما ذكرته اختصارًا.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى بعد أن ساق إسناده الماضي ما نصّه: "وهذا الإسناد الذي حصل لنا، ولأهل زماننا ممن يشاركنا فيه، في نهاية العلوّ - بحمد الله تعالى - فبيننا وبين مسلم ستة، وفي روايتنا لطيفة، وهي: أن إسناده مسلسل بالنيسابوريين وبالمعمرين، انتهى.
(وبهذا السند الذي ذكرناه) إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى قال في أول كتابه:
1 / 15
(قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيّ ﵀ بِعَوْنِ اللهِ نَبْتَدِئُ وَإِيَّاهُ نَسْتَكْفِي، وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلا بِاللهِ ﷻ.
(قَالَ) الظاهر أنه من كلام المصنّف ﵀ نفسِه، ويحتمل أن يكون ملحقًا من كلام بعض الرواة عنه (أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْقُشَيْرِيُّ) نسبة إلى بني قشير ﵀ جملة دعائية معترضة بين القول ومقوله، وهو قوله: (بِعَوْنِ اللهِ) بفتح، فسكون اسم من استعانه، وبه، ومثله الْمَعَانة - بفتح الميم -، والْمَعْوَنة - بفتح الميم، - وسكون العين، وفتح الواو -، والْمَعُونة - بفتح الميم، وضم العين -، والْمَعُون - بفتح، فضم - قاله في "القاموس".
وذكر أبو حيّان في "شرح التسهيل" أن "العون" مصدر، وصوّبه عبد الحكيم في "حواشي المطوّل"، قاله في "التاج"، والجارّ والمجرور متعلّق بـ (نَبْتَدِي) قُدّم عليه لإفادة الحصر والاختصاص، و"نبتدي" مهموز، خُفّف بقلب همزته ياءً، وقدّم المفعول في قوله: (وَإِيَّاهُ نَسْتَكْفِي) للحصر أيضًا، يقال: استكفيته الشيءَ، فكفانيه، أي طلبت منه الكفاية (وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلَّا بالله، ﷻ.
1 / 16
(١) (كِتَاب الإِيمَان)
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: (اعلم): أنه جرى للمصنفين في ابتداء مصنّفاتهم به اختيارات، ولكلٍّ وِجهة هو مولّيها، وأنسب ما يُوَجّهُ به بداية الإمام مسلم ﵀ بـ"كتاب الإيمان" أن يقال: رأى الإيمانَ شرطًا في الأعمال؛ لأنها بدونه هَبَاءً مَنْثُورًا كما قال ﷿: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)﴾ [الفرقان: ٢٣]، فرأى تقديمه أحقّ من غيره.
[فإن قلت]: كيف يصدق أنه ابتدأ بـ "كتاب الإيمان"، وقد كتب مقدمَةً ضمّنها مسائل عديدةً، من مباحث علم الجرح والتعديل، وغير ذلك من العرائس النفاس؟
[أجيب]: بأن المعتبر في البداية إنما هو المقصود بالوضع أولًا لذات، والمقصود بالذات إنما هو "كتاب الإيمان" فما بعده، وأما ما قدّمه من المسائل، فإنها مقصودة بالعرض؛ لأنها من الوسائل إلى المقصود. والله تعالى أعلم.
وقال الأبيّ رحمه الله تعالى: الفصل بين أنواع المسائل بالترجمة بالكتاب الغرضُ منه التسهيل على الناظر، وتنشيط الطالب، أما التسهيل فلأن من أراد مسألةً قصدها في كتابها، وأما التنشيط فلأن المتعلّم إذا ختم كتابًا ربّما اعتقد أنه كافٍ في ذلك النوع، فينشط إلى قراءة غيره، بخلاف ما لو كان التصنيف كلّه جملة واحدةً، وقد فصلوا بها بين مسائل النوع الواحد، وهو أيضًا للتنشيط، قال: ثُمَّ لتعرف أن الأَوْلى بالقارئ أن يُصرّح بقراءة الترجمة، فيقول: "كتاب كذا"، أما أوّلًا فلأنها جزء من التصنيف الذي أخذ في قراءته، ويتأكّد ذلك في مُريد الرواية، وأما ثانيًا فلأنها تفتقر إلى البيان، كغيرها من مسائل ذلك التصنيف. على أني لم أر من تعرَّض لبيان كلّ الترجمة، وإنما نجدهم
1 / 17
يتكلّمون على الجزء الثاني فقط، فيقولون في "كتاب الطهارة" مثلًا: الطهارة لغةً كذا، واشتقاقها من كذا، وهي في العرف كذا، وقد رأيت أن أتكلّم على كلّها تكميلًا للفائدة، فتكلّم بما سيأتي قريبًا (^١).
قال الجامع: قوله: "ثم لتعرف أن الأولى بالقارئ أن يصرّح بقراءة الترجمة .. " إلخ، ثم علّله بقوله: "فلأنها جزء من التصنيف .. " إلخ، فيه أن هذا إنما يتأتّى في مثل "صحيح البخاريّ"، وليس في "صحيح مسلم" إلا في أسماء الكتب، كـ"كتاب الإيمان"، و"كتاب الصلاة"، و"كتاب الزكاة"، ونحو ذلك؛ لأنها التي من وضع المصنّف ﵀، وأما بقيّة الأبواب فإنها من وضع من بعده من الشرّاح وغيرهم، كما سبق بيان ذلك وتحقيقه في شرح المقدّمة، فليست تلك الأبواب جزءًا من تصنيف مسلم ﵀، فليُتنبه لذلك، والله تعالى أعلم.
ثم الكلام على هذه الترجمة يأتي في مسائل:
(المسألة الأولى): في قوله: "كتابُ"
وفيه بحثان:
(البحث الأول): في تصريفه، ومعناه لغةً واصطلاحًا.
فأما لغة: فهو مصدرٌ، قال الفيّوميّ ﵀: كَتَبَ كَتْبًا من باب قتل، وكِتْبَةً بالكسر، وكِتَابًا والاسم الكِتَابَةُ؛ لأنها صِنَاعةٌ كالنِّجارة، والْعِطَارَة، وكَتَبْتُ السِّقَاءَ كَتْبًا: خَرَزتُهُ، وكَتَبْتُ البغلةَ كَتْبًا: خَرَزتُ حَيَاهَا بِحَلْقَةِ حديد، أو صفر؛ ليمتنع الوُثُوبُ عليها، وتُطْلَقُ الْكِتْبَةُ، والكِتَابُ على المكتوب، ويُطلق الكتاب على الْمُنَزَّل، وعلى ما يكتبه الشخص ويُرسله، قال أبو عَمْرو: سمعتُ أعرابيًّا يمانيًّا يقول فلان لَغُوبٌ جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت: أتقول: جاءته كتابي، فقال: أليس بصحيفة، قلتُ: ما اللَّغُوبُ؟ قال الأحمق، وكَتَبَ: حَكَمَ، وقَضَى، وأوجب، ومنه كتب الله الصيامَ: أي أوجبه، وكتب القاضي بالنفقةِ: قَضى انتهى (^٢).
وقال بعضهم: واعلم أن الكتاب لغةً معناه الضمّ والجمع، يقال: كتبتُ
_________
(^١) "شرح الأبيّ" ١/ ٤٨.
(^٢) "المصباح المنير" ٢/ ٥٢٤.
1 / 18
كَتْبًا وكِتَابةً وكِتَابًا، ومنه قولهم: تكَتّبت بنو فلان: إذا اجتمعوا، وكتب: إذا خطّ بالقلم؛ لما فيه من اجتماع الكلمات والحروف.
قال أبو حيّان: ولا يصحّ أن يكون مشتقًّا من الْكَتْبِ؛ لأن المصدر لا يُشتقّ من المصدر. وأجيب بأن المزيد يُشتقّ من المجرّد.
وأما اصطلاحًا: فهو اسم لجملة مختصّة من العلم، ويُعبّر عنها بالباب،
وبالفصل أيضًا، فإن جُمِع بين الثلاثة قيل: الكتاب اسم لجملة مختصّة من العلم مشتملة على أبواب وفصول ومسائل غالبًا (^١)، والباب اسم لجملة مختصّة من الكتاب مشتملة على فصول ومسائل غالبًا، والفصل اسم لجملة مختصة من الباب مشتملة على مسائل غالبًا.
والباب لغةً: ما يُتوصّل منه إلى غيره، والفصل لغة: الحاجز بين الشيئين.
(البحث الثاني): في إعرابه.
_________
(^١) ذكر بعضهم أن التراجم خمسة: الكتاب، والباب، والفصل، والفرع، والمسألة، وكلّ له معنى لغوي، ومعنى اصطلاحيّ، فالباب فرجة يُتوصّل بها من داخل إلى خارج، وبالعكس، والفصل الحاجز بين الشيئين، والفرع ما بُني على غيره، والأصل عكسه، والمسألة لغة: السؤال، وعرفًا: مطلوب خبريّ يُبرهن عليه في العلم، أي يقام عليه البرهان، أي الدليل، أي شأنها ذلك، وهي تُطلق على مجموع الموضوع والمحمول والحكم، وعلى الحكم فقط، من حيث إنه يُسأل عنه، أما من حيث إنه يُطلب بالدليل فمطلب، ومن حيث إنه يُبحث عنه فمبحثٌ، ومن حيث إنه يُدّعَى فَمُدَّعًى، ومن حيث إنه يُستخرج بالحجة فنتيجة.
وقال في "شرح التنقيح": الباب اصطلاحًا اسم لجملة مختصّة من العلم، وقد يُعبّر عنها بالكتاب والفصل، فإن جَمَعْتَ الثلاثةَ قلتَ: الكتاب اسم لجملة مختصّة من العلم مشتملة على أبواب وفصول، والباب اسم لجملة مختصة من العلم مشتملة على فصول، والفصل اسم لجملة مختصّة من أبواب العلم مشتملة على مسائل، فالكتاب كالجنس الجامع لأبواب جامعة لفصول جامعة لمسائل، فالأبواب أنواعه، والفصول أصنافه، والمسائل أشخاصه، انتهى. فالثلاثة كالفقير والمسكين إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت. ذكره في "تحفة الحبيب على شرح الخطيب" على مقدمة أبي شجاع في الفقه الشافعيّ ١/ ٦٥.
1 / 19
يحتمل أن يكون "كتاب" خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: "هذا كتاب الإيمان"، أو مبتدأً خبره محذوف، أي "كتاب الإيمان هذا محلّ بحثه"، أو فاعلًا لفعل مقدّر، أي ثبتَ كتابُ، أو نائبَ فاعل لفعل محذوف، أي يُذكر كتاب، أو منصوبًا بفعل مقدّر، أي اقرأ كتابَ، أو مجرورًا بحرف جرّ محذوف - مع بقاء عمله على قلّة، على حدّ قول الشاعر [من الطويل]:
إِذَا قِيلَ أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ … أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصابِعُ
أي إلى كليب، والتقدير هنا انظر في كتاب الإيمان. والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: الإضافة في "كتاب الإيمان" يحتمل أن تكون بمعنى اللام، أي كتاب موضوع لشرح الإيمان، واللام للاختصاص، أي مختصّ بالإيمان من بقيّة أنواع علوم الحديث، وأن تكون بمعنى "من"، أي كتاب من الإيمان، كقولهم: خاتم فضّة، أي من فضّة، أو بمعنى "في"، أي كتاب موضوع في شرح الإيمان (^١).
وقال الأبيّ ﵀: كتاب الإيمان مركّبٌ إضافيّ، والمركب الإضافيّ قيل: إن حدّه لقبًا متوقّف على معرفة جزأيه؛ لأن العِلْمَ بالمركَّب بعد العلم بجزأيه، وقيل: لا يتوقّف؛ لأن التسمية به سَلَبت كلًّا من جزأيه عن معناه الإفراديّ، وصَيَّرت الجميع اسمًا لشيء آخر، ورُجّح الأول بأنه أتمّ فائدةً، وعليه اختُلف، فقيل: الأولى البداءة ببيان المضاف؛ لأنه الأسبق في الذكر، وقيل: بالمضاف إليه؛ لأنه أسبق في المعنى؛ إذ لا يُعلم المضاف من حيث هو مضاف حتى يُعلم ما أُضيف إليه، وهو أحسن؛ لأن المعاني أقدم من الألفاظ، وعليه فـ "الإيمان" لغة التصديق بأيّ شيء كان، وهو في الشرع التصديق بشيء خاصّ على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى -.
و"كتاب" مصدر في الأصل، جُعل اسمًا لكل مكتوب، كالرهن اسمٌ لكلّ مرهون، ثم يتخضص بالإضافة، فيقال: "كتاب الإيمان"، "كتاب الصلاة"، فالإضافة فيه للبيان، مثلها في "خاتم حديد"، ثم إذا خُصّص بإضافته إلى
_________
(^١) راجع: "حاشية تحفة الحبيب على شرح الخطيب" في الفقه الشافعي، فقد ذكر نحو هذا البحث عند قوله: "كتاب الطهارة".
1 / 20
حقيقة، فالأصل أن لا تختلط بمسائل تلك الحقيقة مسائل غيرها، كمسائل الإيمان لا يُذكر فيها مسائل الصلاة مثلًا، وإلا لم تكن للإضافة فائدة.
وأما حدّه لقبًا فـ "كتاب الإيمان" ترجمة جُعلت اسمًا لجملة الأحاديث المتضمّنة أحكام المضاف إليه منها. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثانية): في تعريف الإيمان لغة، وشرعًا.
قال في "الفتح" ١/ ٦٧ - ٦٨: الإيمان لغة التصديق (^١)، وشرعًا تصديق الرسول ﷺ فيما جاء به عن ربّه ﷿، وهذا القدر متّفق عليه، ثم وقع الاختلاف، هل يُشترط مع ذلك مزيد أمر من جهة إبداء هذا التصديق باللسان المعبِّرِ عما في القلب، إذ التصديق من أفعال القلوب؟ أو من جهة العمل بما صدّق به من ذلك، كفعل المأمورات، وترك المنهيّات، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. والإيمان - فيما قيل - مشتقّ من الأمن، وفيه نظرٌ؛ لتباين مدلولي الأمن والتصديق، إلا إن لوحظ فيه معنى مجازيّ، فيقال: أمنه: إذا صدّقه: أي أمنه التكذيب. انتهى.
وقال في "القاموس": وآمن به إيمانًا: صدّقه، والإيمان: الثقة، وإظهار الخضوع، وقبول الشريعة. انتهى. وقال المرتضى في "شرحه": والإيمان: التصديق، وهو الذي جزم به الزمخشريّ في "الأساس"، واتّفق عليه أهل العلم من اللغويين، وغيرهم. وقال السعد: إنه حقيقة، وظاهر كلامه في "الكشاف" أن حقيقة آمن به آمنه التكذيب؛ لأن أمن ثلاثيًّا متعدّ لواحد بنفسه، فإذا نُقل لباب الإفعال تعدّى لاثنين، فالتصديق عليه معنى مجازيّ للإيمان، وهو خلاف كلامه في "الأساس"، ثم إن آمن يتعدّى لواحد بنفسه، وبالحرف، ولاثنين بالهمزة، على ما في "الكشّاف"، و"المصباح"، وغيرهما، وقيل: إنه بالهمزة يتعدّى لواحد، كما نقله عبد الحكيم في "حاشية القاضي"، وقال في "حاشية
_________
(^١) الصواب في تفسير الإيمان لغةً ما سيأتي عن "القاموس" من أنه الثقة، وإظهار الخضوع، وقبول الشريعة، وأما تفسيره بالتصديق المجرّد، فإنه مذهب المبتدعة، فتنبه.
1 / 21
المطوّل": "أمِنَ" يتعدّى، ولا يتعدّى. وقال بعض المحقّقين: الإيمان يتعدّى بنفسه، كصَدّق، وباللام باعتبار معنى الإذعان، وبالباء باعتبار معنى الاعتراف، إشارةً إلى أن التصديق لا يُعتبر بدون اعتراف. وقد يكون الإيمان بمعنى الثقة، يتعدّى بالباء، بلا تضمين. قاله البيضاويّ. انتهى "تاج العروس" ٩/ ١٢٥.
وقال الراغب الأصفهانيّ رحمه الله تعالى: آمن إنما يقال على وجهين:
[أحدهما]: متعدٍّ بنفسه، يقال: آمنته: أي جعلت له الأمن، ومنه قيل لله: مؤمن.
[والثاني]: غير متعدّ، ومعناه صار ذا أمن.
والإيمان يُستعمل تارةً اسمًا للشريعة التي جاء بها محمد ﷺ، وعلى ذلك: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ …﴾ الآية [المائدة: ٦٩]، ويوصف به كلّ من دخل في شريعته، مُقرًّا بالله، وبنبوّته، قيل: وعلى هذا قوله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)﴾ [يوسف: ١٠٦].
وتارة يُستعمل على سبيل المدح، ويراد به إذعان النفس للحقّ على سبيل التصديق، وذلك باجتماع ثلاثة أشياء: تحقيق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بحسب ذلك بالجوارح، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ الآية [الحديد: ١٩]. ويقال لكلّ واحد من الاعتقاد، والقول الصدق، والعلم الصالح: إيمان، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣] أي صلاتكم، وجُعل الحياء، وإماطة الأذى من الإيمان. قال تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف: ١٧] قيل: معناه: بمصدّق لنا، إلا أن الإيمان هو التصديق الذي معه أمن، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ [النساء: ٥١]، فذلك مذكور على سبيل الذمّ لهم، وأنه قد حصل لهم الأمن بما لا يقع به الأمن، إذ ليس من شأن القلب - ما لم يكن مطبوعًا عليه - أن يطمئنّ إلى الباطل، وإنما ذلك كقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ١٠٦]، وهذا كما يقال: إيمانه الكفر، وتحيّته الضرب، ونحو ذلك. وجعل النبيّ ﷺ أصل الإيمان ستة أشياء في خبر جبريل، حيث سأله، فقال: ما الإيمان؟ والخبر معروف. انتهى "مفردات ألفاظ القرآن" ص ٩١ - ٩٢.
1 / 22
وقال ابن منظور رحمه الله تعالى: وحَدّ الزَّجّاج الإيمانَ، فقال: الإيمان: إظهار الخضوع، والقبول للشريعة، ولما أتى به النبيّ ﷺ (^١)، واعتقاده، وتصديقه بالقلب (^٢)، فمن كان على هذه الصفة، فهو مؤمنٌ مسلمٌ، غير مُرتاب، ولا شاكّ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه، لا يدخله في ذلك ريبٌ، وفي التنزيل العزيز: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ [يوسف: ١٧]: أي بمصدّق، فالإيمان: التصديق. وقال في "التهذيب": وأما الإيمان، فهو مصدر آمن يؤمن إيمانًا، فهو مؤمنٌ، واتّفق أهل العلم من اللغويين، وغيرهم أن الإيمان: معناه التصديق، قال الله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ الآية [الحجرات: ١٤]، قال: وهذا موضع يحتاج إلى تفهيمه، وأين ينفصل المؤمن من المسلم، وأين يستويان، والإسلام: إظهار الخضوع، والقبول لما أتى به النبيّ ﷺ، وبه يُحْقَن الدم، فمان كان مع ذلك الإظهارِ اعتقادٌ، وتصديقٌ بالقلب، فذلك الإيمانُ الذي يقال للموصوف به هو مؤمنٌ مسلمٌ، وهو المؤمن بالله تعالى، ورسوله ﷺ، غير مرتاب، ولا شاكّ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجبٌ عليه، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب عليه، لا يدخله في ذلك ريبٌ، فهو المؤمن، وهو المسلم حقًّا، كما قال الله ﷿: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)﴾ [الحجرات: ١٥]، أي: أولئك الذين قالوا إنا مؤمنون، فهم الصادقون، فأما من أظهر قبول الشريعة، واستسلم لدفع المكروه، فهو في الظاهر مسلم، وباطنه غير مصدّق، فذلك الذي يقول: أسلمت؛ لأن الإيمان لا بدّ من أن يكون صاحبه صِدِّيقًا؛ لأن قولك: آمنت بالله، أو قال قائل: آمنت بكذا وكذا، فمعناه: صدّقت، فأخرج الله هؤلاء من الإيمان، فقال: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤]، أي: لم تُصدّقوا، إنما أسلمتم تعوّذًا من القتل، فالمؤمن مُبْطِنٌ من التصديق مثل ما يُظهر، والمسلم التامّ الإسلام،
_________
(^١) هذا هو الحق في تفسير الإيمان لغةً، وأما تفسيره بالتصديق فقط فإنه مذهب المبتدعة، فتنبه.
(^٢) أي مع العمل، فتنبه.
1 / 23
مظهر للطاعة، مؤمن بها، والمسلم الذي أظهر الإسلام تعوّذًا غير مؤمن في الحقيقة، إلا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين، وقال الله تعالى حكايةً عن قول إخوة يوسف ﵇ لأبيهم: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف: ١٧]: لم يختلف أهل التفسير أن معناه: ما أنت بمصدّق لنا، والأصل في الإيمان الدخول في صدق الأمانة التي ائتمنه الله عليها، فإذا اعتقد التصديق بقلبه، كما صدّق بلسانه، فقد أذى الأمانة، وهو مؤمنٌ، ومن لم يعتقد التصديق بقلبه، فهو غير مؤذ للأمانة التي ائتمنه الله عليها، وهو منافقٌ، ومن زعم أن الإيمان هو إظهار القول، دون التصديق بالقلب، فإنه لا يخلو من وجهين:
[أحدهما]: أن يكون منافقًا يَنضَح عن المنافقين، تأييدًا لهم، أو يكون جاهلًا، لا يعلم ما يقول، وما يُقال له، أخرجه الجهل، واللَّجَاج إلى عناد الحقّ، وترك قبول الصواب، أعاذنا الله من هذه الصفة، وجعلنا ممن علم، فاستعمل ما علم، أو جهل فتعلَّم ممن علم، وسلّمنا من آفات أهل الزيغ، والبدع بمنّه وكرمه.
وفي قوله ﷿: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)﴾ [الحجرات: ١٥] ما يُبيّن لك أن المؤمن هو المتضمّن لهذه الصفة، وأن من لم يتضمّن هذه الصفة، فليس بمؤمن؛ لأن "إنما" في كلام العرب تجيء لتثبيت شيء، ونفي ما خالفه، ولا قوّة إلا بالله. انتهى "لسان العرب" ١٣/ ٢٣ - ٢٤، وهو تحقيق نفيس، بيّن فيه حقيقة الإيمان عند المحققين من أهل اللغة وغيرهم، فلا تغتر بتفسير القاصرين له بأنه مجرد التصديق، فإنه خطر عظيم؛ لأنه يؤدي إلى مذهب المرجئة الضالة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في أن الإيمان قول، وعمل، ويزيد وينقص.
قال في "الفتح": والكلام هنا في مقامين:
[أحدهما]: كونه قولًا وعملًا.
[والثاني]: كونه يزيد وينقص، فأما القول: فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل: فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح؛ ليدخل الاعتقاد والعبادات، ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان، ومن نفاه، إنما هو
1 / 24