هكذا يقاس الخير والشر بمقياس العقل والشرع فيما يرى الغزالي. ولكن ما هو الشرع؟ وما هو العقل؟
إن الغزالي نفسه وضع في الأخلاق أحكاما لا نظنها تستند على عقل أو دين! ولنضرب مثلا بما وضعه لنظام الطعام. جاء في الميزان ص184 ما نصه: «وأما المطعم هو الأصل العظيم. إذ المعدة مفتاح الخيرات والشرور، ولهذا أيضا ثلاث مراتب: أدناها قدر الضرورة وهو ما يسد الرمق ويبقى معه البدن، وقوة العبادة وذلك يمكن تقليله بالعادة تارة بتقليل الطعام شيئا فشيئا حتى يتعود الصبر عنه عشرة أيام وعشرين. وقد انتهى الزهاد في القدر كل يوم إلى حمصة وبعضهم في الوقت إلى عشرين يوما وقيل أربعين. وهذه رتبة عظيمة يقل من يستقل بها.» وقد أطال القول في فضائل الجوع في الربع الثالث من الإحياء حتى قال: «روي أن عيسى عليه السلام مكث يناجي ربه ستين صباحا لم يأكل فخطر بباله الخبز فانقطع عن المناجاة، فإذا رغيف موضوع بين يديه فجلس يبكي على فقد المناجاة، وإذا شيخ قد أظله، فقال له عيسى: بارك الله فيك يا ولي الله، ادع الله تعالى لي، فإني كنت في حالة فخطر ببالي الخبز فانقطعت عني! فقال الشيخ: اللهم إن كنت تعلم أن الخبز خطر ببالي منذ عرفتك فلا تغفر لي! بل كان إذا خطر لي شيء أكلته من غير فكر ولا خاطر!».
وقال أيضا: «الفائدة السابعة من فوائد الجوع: تيسير المواظبة على العبادة، فإن الأكل يمنع كثرة العبادات لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل، وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام وطبخه، ثم يحتاج إلى غسل البدن والخلال، ثم يكثر ترداده إلى بيت الماء لكثرة شربه والأوقات المصروفة إلى هذا لو صرفها إلى الذكر والمناجاة وسائر العبادات لكثر ربحه».
ففي الكلمة الأولى نراه يدعو إلى تقليل كمية الطعام حتى تصل إلى حمصة، وتطويل المدة حتى تصل إلى عشرين يوما أو أربعين، ثم يعد هذه الرياضة رتبة عظيمة. فيا ليت شعري، أيرضى بذلك العقل، وهو لا يرضى بأقل من أن يكون المرء حيا، فيه فضائل الحياة من قوة ونشاط؟ أم يرضى بذلك الشرع، وهو لا يرضى بأقل من أن يكون الرجل جنديا يضرب في الأرض، ويحرس الثغور، ويرعب القوم الكافرين؟
وفي الكلمة الثانية يصف عيسى بما لا ينبغي أن يوصف به الأنبياء، وإلا فكيف ينبغي لنبي أن يناجي ربه ستين صباحا بلا طعام وهو مسؤول عن الدعوة إلى دينه، وقلما ينجح في الدعوة ضعيف؟ هذه جرأة في وصف الأنبياء والمرسلين، فما أحسبهم إلا رجالا أشداء تمت لهم صفات الفتوة والرجولة، أما هذه الرهبنة التي تصورها الغزالي فلا تنتج غير الضعف والخمول، وما كان الأنبياء كسالى ولا واهنين.
وفي الكلمة الثالثة يستكثر على المريد أن يضيع وقتا في شراء الطعام وطبخه، ثم غسل يده، وتخليل أسنانه، وما أدري كيف يسير الناس، إذا قاسوا الخير والشر بهذا المقياس!
الواقع أن الغزالي وضع مؤلفاته في الأخلاق مشربة بنزعة صوفية بل صرح بأن مدار أكثر كتابه الميزان على مذهب التصوف . والتصوف ليس مذهب الأحياء، ولكنه مذهب الأموات. وما ظنك بمذهب يجيز للغزالي أن يصور للنظر للمستقبل بهذه الصورة المنكرة حين يقول: «وأرفع الدرجات درجة من لا يلتفت إلى غده ويقصر همته على يومه ويومه على ساعته، وساعته على نفسه، وقدر نفسه كل لحظة مرتحلا من الدنيا أو مستعدا للارتحال».
وما أظن أمة تفهم الأخلاق هذا الفهم، ثم تقدر على الجلاد في عالم الأحياء. ولم يبعد من وصف الأخلاق في رأي الغزالي بأنها أخلاق العبيد!
الفصل الثاني
الإرادة
Página desconocida