فيا أيها الغني صاحب الملايين والأملاك المترامية الأطراف ابن الضريح، نظفه من الأقذار ما شئت.
ويا أيها الناس ضمخوا فقيدكم بالعطر والطيب، وكفنوه بالحرير والديباج، واحفظوا جسده بين ألواح البلور، ولكن هيهات أن تحفظوه من الفساد، هيهات! فسيقبض عليه الفناء ويتلاشى ذلك الجسم الناعم، ويصبح مقبلا للدود والحشرات، ولا تبقى غير آثاره التي تستحق التخليد.
ثم حولت نظري إلى جانب ذلك الضريح فرأيت حفرة تبدو عليها المسكنة، تحرسها قطعة من خشب وقد كتب عليها: «هنا دفن فلان المسكين اللاجئ إلى هذا البلد.» فتأثرت وقلت: كيف يقولون: لاجئ وكلنا في هذه الدنيا لاجئون؟
فقير، نعم، وقد عرفته من ضريحه:
مساكين أهل «الفقر» حتى قبورهم
عليها تراب الذل دون الخلائق
أهكذا يعيش الفقير ذليل الجانب ويموت محتقرا مهانا؟
ثم أيها الفقير في رمسك فليس عليك بالمسكنة من عار، واعلم أن العظمة بالبساطة، وكلما ارتقى المرء، وازداد علما، واقترب من الروحيات؛ يعود إلى حضن الطبيعة منبع البساطة والسذاجة.
وهنا اشتد تأثري، فاغرورقت عيناي بالدموع. وحولت وجهي إلى ناحية أخرى من الجبانة، فشاهدت ضريح ولد صغير لم يبلغ الثالثة من سنيه. كان ترابه لا يزال رطبا، وكانت الأم منحنية عليه، وقد تصاعدت زفراتها، وامتد أنينها، فما رأتني حتى ظنتني شبحا طالما أرعب الناس في ظلام الليل فلم يأتوا المقابر خوفا منه. فهدأت روعها وقلت لها : لا تخافي، أنا إنسان لا خيال. جئت في هذه الساعة لأؤنس الأموات في وحشتها. أنت تبكين على ابنك وأنا أبكي على كل هؤلاء الراقدين، بل أبكي على جسدي الذي سيتفرق شمله، وتتبعثر أعضاؤه، ويصبح العقد المنظوم منثورا.
فضربت المرأة صدرها وقالت: ولدي، وا لوعتاه على ولدي، لم يعرف الخير من الشر. صغيري الملك الطاهر يموت، والعائثون في الأرض فسادا يعيشون؟ ابني يموت ولم يذق من حلاوة الدنيا، ويعيش أولئك الذين تمرغوا في حمأة الدنايا والرذائل؟ ابني يموت والسفاحون والجزارون يعيشون وينتعمون؟ أيعيش المرائي والنمام والكذاب والسفاك والسارق ويموت ولدي؟
Página desconocida