54

El Fin del Mundo

آخر الدنيا

Géneros

وكأن كلماته تحفل بالسحر؛ فقد وجدت الضغط يخف، ووجدتني أهدأ وأعود أنظر أمامي.

وطلع القمر ومضى نوره الأول الذي يشبه نور الشروق، وبدأت شعاعاته تبيض، وقرصه الناقص يصعد قدما في السماء حتى كاد يتوسطها، وكأنه «كلوب» علق من سقف الدنيا، وكأنه شمس الليل أشرقت، فقد وجدنا ليل الليل يغيب ونهار الليل يحل، والظلمة الكاملة تستحيل إلى نور غير كامل، والطريق الزراعي المؤدي إلى الكوبري، والطريق الممتد منه والزرع القريب والأشجار البعيدة ... وجدتها كلها تظهر نصف ظهور، وتتضح نصف اتضاح.

وطال تأملنا لكل ما حولنا ولكل ما حل بالكون من تغيير، وكذلك طال ترقبنا لنلمح وسط هذا السكون الشامل حركة ... مجرد حركة.

وأول ما حدث أن دق قلبي دفعة دقات متتابعة سريعة، أعقبها خفوت وصمت وكأن لم يعد يصدر عنه صوت، وأعقب هذا مباشرة صوت بعيد ساحق في بعده. ولكنه كان يغني.

وعاد قلبي يطلق دقاته من جديد.

وخيل إلي أني انتظرت عاما كاملا، حتى ظهر في أفق النهار القمري صاحب الصوت. بدا أول الأمر كنقطة بيضاء ساكنة، ثم بياض متحرك، ثم كائن نصفه الأعلى أبيض، والأسفل أسود، ثم ظهر أنه رجل يمتطي دابة ويغني.

انتظرت أن يتكلم الغريب، ولكن لم يصدر عنه شيء، حتى خلت أنه ما رأى أو سمع.

وأيضا ما تكلم الغريب أو نطق ... عيناه وكأنهما ضمتا إلى الرجل المتحرك بخيط، ويده لا تزال مستميتة على البلطة. ولا ينطق حتى حين التفت إليه طالبا النجدة ... طالبا كلمة.

وعدت أنظر إلى الرجل من خلال العرق المملح الذي يسيل من جبهتي إلى عيني ويلسعها. ومسحت العرق، وسددت فوهة المدفع ليصبح الرجل، و«ذبابة» الفوهة، وشق جهاز التنشين على خط مستقيم واحد، وفي نيتي ألا أبدأ في إحكام التنشين والتسديد على منتصف الصدر تماما؛ إلا حين يصير الرجل القادم بحذاء الشجرة.

ومن أجل هذا، مضيت أتابع حركة الدابة بحركة يسيرة من الفوهة ... ورغما عني رحت أتابع الموال الذي يغنيه الرجل ... لم يكن صوته جميلا أو يصلح للغناء ... ولكنه كان عاليا وقويا، وكان يقول «يا ليل»، وكأنما يستحلف الليل ويرجوه أن يمنع عنه شروره. ويا «عين» فأتصور أنه يبكي ويرثي نفسه، وكأن مسعاه لدى الليل فشل. وكان الموال يتحدث عن بستان حبيبه، وما فيه من مشمش ورمان ونرجس، وكيف أنه سيدخله ويقطف من كل أثماره ... وبدأت أرى أن بينه وبين الدابة شيئا ... كان «زكيبة» لا بد أنها ملأى بالطحين، ولا بد أنه تأخر في «المكنة»، وكان الغريب لا يزال صامتا صمتا لم أر مثله، ولا يمكن أن يستطيعه بشر، صمتا بلغ من عمقه وصدقه أنه جعلني أحس وكأنه غير موجود معي بالمرة، وكأنني أواجه الموقف وحدي. الرجل المجهول أمامي، والمدفع في يدي، ولا شيء سوى الليل معنا. ورغما عني أحسست وكأن شيئا ثقيلا قد انزاح عن صدري. فقد أحسست أن باستطاعتي أن أتصرف بمطلق إرادتي وأني حر، لا يحد من حريتي وجود الغريب أو بلطته. لأول مرة بدأت أشعر أني غير خائف أو مرغم ... وكلما اختلست النظر إلى الغريب، ووجدته ساكنا سكون الموتى أزداد إيمانا بأني لا شريك لي فيما أفعله، وأني سيد الموقف والمدفع معي، والمفاجأة معي، والليل هو الآخر معي ... لأول مرة أنفض عن نفسي رداء التلمذة وعقليتها، وأحس أني ابن ليل حقيقي وأني قادر.

Página desconocida