من الصعب علي جدا أن أحدد إن كنت لم أستشعر أبدا أني سألقاه، ولكنها لم تكن حاسة سادسة أو إشارة من المجهول ... كان شعورا عاما غمرني، وجعلني لا أعتقد أن هناك فارقا كبيرا بين أن ألقاه أو لا ألقاه.
كان علي لكي أصل إلى بيتنا أن أمشي على جسر الترعة مع بقية رفاقي ثم نفترق، حيث يستمرون هم في سيرهم إلى البلدة، وأنحرف أنا في طريق ضيق يدور حول طرف البلدة، وتحده المساكن من ناحية والأرض المزروعة من ناحية أخرى ... والعجيب أن الخوف انتابني فقط وأنا معهم ... أما حين أصبحت وحدي؛ فقد تلاشى الخوف فجأة، ومع هذا لم أعد إلى حالتي الأولى، اضطراب عظيم وجدته يعصف بي، وكان الخوف قد وصل إلى أن أصبح فوق متناول حواسي ووعيي، وانقلب إلى حذر عظيم واستعداد جنوني للدفاع عن النفس، وحساسية مطلقة لأخفت الأصوات، والتهاب الخيال إلى درجة يرى فيها أي بياض في الليل جلبابا، وأي سواد شبحا، وأي حركة طعنة ... وكان لم يبق على انتهاء حقل الأذرة الصيفي الذي كنت أسير بحذائه إلا بضعة أمتار. بعدها أمر بأرض القمح المنخفضة، حيث الاحتمالات أقل والأمان أكثر ... والأذرة في الليل لها وشوشة تحدثها أوراقها الطويلة الحادة كالموسى الخشنة كالمنشار، خاصة حين يفاجئك حدها في جبهتك أو يلسعك وهو يصك يدك ... وأنا خائف أن أبطئ، وكل ثانية تمر قد تحدث فيها الكارثة. وجاءني شيء من خلف ظهري كالهبهبة. حسبتها أول الأمر هبهبة كلب، ولكنها كانت كلمة ... «وله» ... وبسرعة الومض خطر لي أنها بالتأكيد ليست هبهبة، ولكنها كلمة ... أمر من إنسان. وخطوت خطوة ثانية، وجاءت هذه المرة واضحة، أخرست وشوشة الذرة، وأصمتت صراصير الليل وأزيزه. - وله ...
نفذت إلي آمرة سريعة، فيها دعوة أحسست بعدها بصمم دافئ، وكأن أحدهم صب ماء ساخنا في فتحات أذني ... ولم أعد أسمع ولا أتحرك أو أتنفس أو أفكر ... وفي عقلي شيء واحد يدق ولا يتغير: لقد حدث ... لقد حدث ... لقد حدث!
لحظة واحدة هي التي استغرقها كل ما دار، ولكنها من اللحظات التي يجلس الإنسان بعدها ساعات؛ ليستطيع أن يلم بكل ما حدث فيها ويرتبه، ويجعله يخضع للمنطق والمعقول ... لماذا لم أجر وقد كان باستطاعتي أن أفعل؟ لماذا انكتم الصوت في حلقي الجاف ولم أصرخ؟ لماذا لم أكن أريد أن أجري أو أصرخ أو حتى أتنفس؟ لماذا التفت فجأة إلى الخلف في حركة مذعورة، وقلت بتلك الحشرجة المرتفعة التي ملأت صوتي المراهق برنين أصوات الرجال وخشونته: أيوه ... عايز إيه؟ - ما تخافش يا شاطر.
هل معقول هذا؟ وهل يخضع الخوف أحيانا للأمر، أو لأمر قادم من شخص معين، بحيث إذا جاءك وجدت نفسك فعلا قد كففت فورا عن الخوف؟ ولكن إذا لم يكن هذا صحيحا؛ فبأي شيء استطعت أن أدفع هذا الخوف وأجعل ما أصابني من خوف يتلاشى، وكأنه ذاب؟ جسدي فقط هو الذي تولته رعشة ... رعشة بلا خوف ... وكأن الخوف قد غادر رأسي وصدري إلى الأبد، وركب أطرافي وأرعشها بطريقة جعلت همي كله يصبح أن أوقف ارتجافي الظاهر هذا، وأستجمع إرادتي كلها لآمر بها أطرافي أن تكف عن خوفها ... بلا جدوى، بل بالعكس كلما أمرتها كانت تزداد خوفا وارتعاشا ... والحقيقة المالئة رأسي لحظتها أني لا يجب أن يظهر علي علامة خوف واحدة، حتى لو كانت ارتعاشة. ووجدت السؤال ينطلق مني بلا تفكير، إلا أن أوقف أسنانا تصطك وركبا تهتز ... بلا تفكير إلا أن تمر اللحظة الحاضرة، فقط تمر وبأي ثمن؛ إذ لأمر ما كنت أعتقد أنها لو مرت بسلام، فسأملك أمر نفسي بعدها، وسأنجح في التصرف. - من أنت؟
شخطة خرجت مني، ولا شخطة المأمور! ... أو الغريب نفسه إذا صادف شحاذا أو متسولا! ... وبسرعة، وقبل أن تصطك أسناني مرة أخرى أعقبتها: إنت مين؟
وجاء الصوت الذي لم أكن إلى ذلك الوقت قد عرفت من أين يجيء، وهل يأتي من أمامي أو من خلفي ... أو حتى يخرج من باطن الأرض: أني غريب.
وانطلقت مرة أخرى، وكأنني مسدس الخائف حين لا يصبح همه إلا أن يطلق الرصاص ... ولا يكف إلا بعد أن يفرغ رصاصه ... انطلقت لأقول: إنت غريب ولا الغريب؟ ... ولكن شيئا غريزيا أوقف الجملة الطلقة في حلقي، وجعلني أقول: أنت ال... وبتقول «وله» ليه؟ ... ما تقول سلام عليكم يا أخي ... ما تقول سلام عليكم.
قلتها وانتهت طلقاتي وسكت. وسكت الصوت الآخر. انتهى بعدها صمم أذني، وعاد إليها أزيز الليل ... وبدأت أنفاسي تتلاحق وتعمق، ورحت أفكر في أن أطلق ساقي للريح وأجري وأستغيث، ولكن شيئا كامنا في نفسي ظل يردد لي أنني لن أفعل شيئا كهذا، وأن ليس باستطاعتي أن أتحرك من مكاني خطوة، حتى لو أردت.
وطال الصمت، أو ربما طال في نظري ... وخيل إلي أن كل شيء قد انتهى ... وأن صاحب الصوت لا بد قد ذهب، ولكن أبدا ... إحساس غمرني وجعلني أحس أني أراقب، وأن عينين لا أراهما تدرسانني خلجة خلجة، وأن أمري وصغر سني لا بد سينكشفان حالا ... وستحين لحظتي القاضية. ويا له من شعور أفزعني، وأنا واقف عاري الرأس مخلوع الصندل، تحت سماء بدأ قمرها الجامد يختنق ويذوي، وظلامها الكامل يطبق، والشعاعات غير المرئية تخرج لا بد من مكان داخل هذه الشجيرات المتكاثفة لتتفحصني على مهل وبتمعن! ... أنا المتجمد في مكاني لا بقوة الرعب؛ فقد ذهب الرعب، ولكن بقوة ما بعد الرعب، بقوة الشعور الذي يجمد الفأر في مكانه حين تنغلق عليه المصيدة، بحيث حتى لو فتحت له بابها؛ لما استطاع أن يهرب منها.
Página desconocida