30

El Fin del Mundo

آخر الدنيا

Géneros

وكان عسيرا عليها أن تصادفه واقفا في البلكونة خلال الأيام التي تلت، ولكنها في كل مرة عثرت عليه، كانت تحاول أن تفعل كل شيء وأي شيء فقط؛ لترفع بصره الذي ألصقه بأرض الشارع وأبى أن يرفعه. ولم تفعل محاولاتها المتعددة أكثر من أنها أنستها الهدف منها، والدرس الذي كان في نيتها أن تلقيه عليه، والحقد الذي تكنه له في قلبها، وأصبح همها كله ومنتهى أملها أن تنجح فقط في رفع بصره من فوق أرض الشارع، وكأنها إذا نجحت ونظر إليها يكون قد تم الانتقام، واستعادت مكانتها وشرفها المثلوم.

ولو كان أحد قد أخبرها أنها ستضطرب كل هذا الاضطراب، وستلهث ويجف لعابها ويتوقف قلبها عن النبض، لو كان أحد قد أخبرها أن هذا كله سيحدث لها حين تفاجأ ذات مرة، وقبل أن تحاول شيئا أنه قد رفع بصره إليها وثبت عينيه في عينيها، لما صدقته بل ولما صدقت أبدا أنها لم تستطع أن تحتمل نظراته لثوان، وأنها هي التي انسحبت من البلكونة هذه المرة ترتجف، وهي لا تملك قدرة على صفق باب أو فتح فم. كل ما حدث أنها استطاعت قبل أن تختفي أن ترسم بالكاد شيئا فوق ملامحها يعبر عن الغضب.

وربما لو لم ترسم هذا الشيء ... ربما لو ظلت واقفة، وكأنها لم تلحظه أو نالها اضطراب، ربما لو لم ترد أن تؤنبه وتعلمه الخلق الحسن، ربما لو حدث شيء من هذا؛ لما قضى الشاب ذلك الوقت الطويل يفكر فيها، ولما شجعه ما حدث منها على المضي في التفكير وتدبير الخطط لما بعد التفكير.

أما هي فقد ظلت وقتا طويلا أيضا تفكر وتستنكر اضطرابها وتستعذبه، وتنتوي العودة إلى البلكونة وتعدل عن نيتها، والإحساس العام الذي يتملكها أنها غير غاضبة على الشاب، وأنها أصبحت ليس لديها مانع حتى أن يعود يوجه إليها نظراته.

وفوجئ بهيج! عاد ذات يوم، فوجد الستارة تنسدل وتحجب الشرفة وما فيها، واستغرب ... وسأل الزوجة فإذا بها تقول إن الستارة لازمة لحمايتها من نظرات الجيران المتطفلين، وإن لكل بيت حرمته والستارة تحفظ الحرمة، وحاول أن يناقشها بنفس حججها القديمة، ويتحدث عن الشمس والهواء، ولكنها أفحمته حين قالت إنها كانت مخطئة في اعتقادها، وإنها أخيرا اقتنعت برأيه. •••

واستمرت الستارة بعد هذا تؤدي عملها مع اختلاف بسيط؛ إذ كانت تستخدم لتحول بين بهيج وبين رؤية الشاب الأعزب إذا كان موجودا في البيت، ولتحول بينه وبين رؤية الواقفة تحتمي بها لتستطيع أن ترى الشاب ويراها دون أن يلحظهما أحد، وبالذات بهيج. وفي أحيان كان يتطلع بهيج من الشارع ليطمئن على أن الستارة مغلقة ومسدلة، ودائما كان يجدها كذلك. وإذا تصادف ووجدها تختلج كان حينئذ يهز رأسه ويبتسم، ويقول: الهوا ... لا بد أنه الهواء ... لعنة الله عليه.

الغريب

من كان يظن أن «الشوربجي» ذا الشعر الأصفر المجعد، والوجه الخواجاتي الأحمر، والملامح الجذابة الحادة له مثل هذه القصة المذهلة مع قتال القتلة، وقاطع الطريق وسلطان الليل؟ أنا نفسي، قبل أن يحكي لي، كان من المستحيل أن أصدق أن الشوربجي، زميل ثانوي العتيد الذي علمني ركوب العجل وكتابة القصص، جعلني أدمن قراءة روايات الجيب ... لم أكن أعتقد للحظة أن في حياته جانبا بأكمله لا أعرفه، وكان مقدرا ألا أعرفه، لولا تلك المصادفة التي جمعتني به ... والمصادفة وحدها هي التي كانت تجمعني به. فعلى الرغم من أننا نعمل في نفس المدينة، في القاهرة، إلا أنني لم أكن ألقاه إلا صدفة. وفي كل مرة نأخذ العناوين ونضرب المواعيد ونحن نعرف سلفا أننا لن نستعملها، وأننا لن نلتقي إلا كما تعودنا اللقاء صدفة ... وأنا أعرف عن الشوربجي أشياء كثيرة، أعرف بلدهم، ورأيت أباه مرة، وأعرف ولعه بالنساء، وضيقه الشديد بأننا على الرغم من أننا كبرنا وغادرنا ثانوي؛ إلا أننا لا نزال نسميه باسم جده، كما تعودنا أن نسميه. فاسمه في الحقيقة كان، ولا يزال طبعا، عبد الرحمن صالح الشوربجي، ولكنا في ثانوي نضيق بالأسماء الأولى المتشابهة. وهكذا عرفناه بالشوربجي، وعلى الرغم من ضيقه بالتسمية ظللنا نعرفه هكذا إلى اليوم، إلى حد أنني كنت أستغرب حين تناديه زوجته أمامي بعبد الرحمن، أعرف عنه أشياء كثيرة، ولكني لم أكن أعتقد أبدا أن في حياته أناسا كالغريب أبو محمد وعم خليل، وحياة الليل وسفك الدماء. هو الرائع الأدب الذي تخدش خجله الكلمة الخارجة حتى بعدما صار رجلا كبيرا وخلف أبناء، ولكنها الصدفة كما قلت، وربما الليلة أو الموضوع الذي طرقناه ... موضوع السفاح. والشوربجي ليس محدثا لبقا ولا راوية ممتازا، وعلى الرغم من أنه علمني كتابة القصص، ولكنه يتحدث أجمل بكثير مما يكتب.

لا أعرف ماذا دعا الشوربجي ليكشف لي عن هذا الجزء من نفسه في تلك الليلة ... فربما الموضوع كما قلت، وربما الجلسة، وربما الساعة الواحدة والنصف التي بدأنا الحديث فيها، وربما قصته نفسها، أو لعل السبب هو تلك اللذة الواضحة التي كنت أراه مستمتعا بها، وهو يغوص في نفسه ويحفر ويستخرج أشياء، وكأنما يكشف وجودها لأول مرة، ربما هذا هو ما جعله ينساق، ويقضي ليلة كلها يتحدث، وأقضيها وأنا أنصت ... وأرتجف أحيانا، ولكني أستمر أنصت بشغف وبلا انقطاع.

1

Página desconocida