وسكتت دقيقة كيما تسترجع أنفاسها، ثم زادت بصوت تتابعه الغصات: ولكن أههنا تفرقنا سبل الحياة لتذهب بك إلى أمجاد الرجل وتسير بي إلى واجبات المرأة؟ أهكذا ينقضي الحلم الجميل وتندثر الحقيقة العذبة؟ أهكذا تبتلع اللجة نغمة الشحرور وتنثر الرياح أوراق الوردة وتسحق الأقدام كأس الخمر؟ أباطلا أوقفتنا تلك الليلة أمام وجه القمر وباطلا ضمنا الروح في ظلال هذه الياسمينة؟ هل تسرعنا بالصعود نحو الكواكب فكلت أجنحتنا وهبطت بنا إلى الهاوية؟ هل فاجأنا الحب نائما فاستيقظ غاضبا ليعاقبنا؟ أم هيجت أنفاسنا نسمات الليل فانقلبت ريحا شديدة لتمزقنا وتجرفنا كالغبار إلى أعماق الوادي؟ لم نخالف وصية ولم نذق ثمرا، فكيف نخرج من هذه الجنة؟! لم نتآمر ولم نتمرد، فلماذا نهبط إلى الجحيم؟! لا لا وألف لا ولا. إن الدقائق التي جمعتنا هي أعظم من الأجيال، والشعاع الذي أنار نفسينا هو أقوى من الظلام، فإن فرقتنا العاصفة على وجه هذا البحر الغضوب فالأمواج تجمعنا على ذلك الشاطئ الهادئ، وإن قتلتنا هذه الحياة فذاك الموت يحيينا.
إن قلب المرأة لا يتغير من الزمن ولا يتحول مع الفصول، قلب المرأة ينازع طويلا، ولكنه لا يموت. قلب المرأة يشابه البرية التي يتخذها الإنسان ساحة لحروبه ومذابحه، فهو يقتلع أشجارها ويحرق أعشابها ويلطخ صخورها بالدماء ويغرس تربتها بالعظام والجماجم، ولكنها تبقى هادئة ساكنة مطمئنة، ويظل فيه الربيع ربيعا والخريف خريفا إلى نهاية الدهور ... والآن قد قضي الأمر، فماذا نفعل؟ قل لي ماذا نفعل وكيف نفترق ومتى نلتقي؟ هل نحسب الحب ضيفا غريبا أتى به المساء وأبعده الصباح؟ أنحسب هذه العاطفة النفسية حلما أبانه الكرى ثم أخفته اليقظة؟ أنحسب هذا الأسبوع ساعة سكر ما لبثت أن قضت بالصحو والانتباه؟ ... ارفع رأسك لأرى عينيك يا حبيبي. افتح شفتيك لأسمع صوتك، تكلم، أخبرني، حدثني، هل تذكرني بعد أن تغرق العاصفة سفينتي أيامنا؟ هل تسمع حفيف أجنحتي في سكينة الليل؟ هل تشعر بأنفاسي متموجة على وجهك وعنقك؟ هل تصغي لتنهداتي متصاعدة بالتوجع منخفضة بالغصات؟ وهل ترى خيالي قادما مع خيالات الظلام مضمحلا مع ضباب الصباح؟ قل لي يا حبيبي، قل لي ماذا تكون لي بعد أن كنت نورا لعيني ونغمة لأذني وجناحا لروحي، ماذا تكون؟
فأجبتها وحبات قلبي تذوب في عيني: سأكون لك يا سلمى مثلما تريدينني أن أكون.
فقالت: أريدك أن تحبني، أريدك أن تحبني إلى نهاية أيامي، أريدك أن تحبني مثلما يحب الشاعر أفكاره المحزنة، أريدك أن تذكرني مثلما يذكر المسافر حوض ماء هادئ رأى فيه خيال وجهه قبل أن يشرب من مائه، وأريدك أن تذكرني مثلما تذكر الأم جنينا مات في أحشائها قبل أن يرى النور، وأريدك أن تفكر بي مثلما يفكر الملك الرؤوف بسجين مات قبل أن يبلغه عفوه، أريدك أن تكون لي أخا وصديقا ورفيقا، أريدك أن تزور والدي في وحدته وتعزيه في انفراده؛ لأنني عما قريب سأتركه وأصير غريبة عنه.
فأجبتها: سأفعل كل ذلك يا سلمى، سوف أجعل روحي غلافا لروحك، وقلبي بيتا لجمالك، وصدري قبرا لأحزانك. سوف أحبك يا سلمى محبة الحقول للربيع. سوف أحيا بك حياة الأزاهر بحرارة الشمس. سوف أترنم باسمك مثلما يترنم الوادي بصدى رنين الأجراس المتمايلة فوق كنائس القرى. سوف أصغي لأحاديث نفسك مثلما تصغي الشواطئ لحكاية الأمواج ... سأذكرك يا سلمى مثلما يذكر الغريب المستوحش وطنه المحبوب، والفقير الجائع مائدة الطعام الشهية، والملك المخلوع أيام عزه ومجده، والأسير الكئيب ساعات الحرية والطمأنينة. سوف أفكر بك مثلما يفكر الزارع بأغمار السنابل وغلة البيادر، والراعي الصالح بالمروج الخضراء والمناهل العذبة.
كنت أتكلم وسلمى تنظر إلى أعماق الليل وتتأوه بين الآونة والأخرى، ونبضات قلبها تتسارع وتتماهل كأنها أمواج بحر بين صعود وهبوط. ثم قالت: غدا تصير الحقيقة خيالا واليقظة حلما، فهل يكتفي المشتاق بعناق الخيال ويرتوي الظمآن من جداول الأحلام؟
فأجبتها قائلا: غدا يسير بك القدر إلى أحضان العائلة المملوءة بالراحة والهدوء، ويسير بي إلى ساحة العالم حيث الجهاد والقتال. أنت إلى منزل رجل يسعد بجمالك وطهر نفسك. وأنا إلى مكامن أيام تعذبني بأحزانها وتخيفني بأشباحها. أنت إلى الحياة وأنا إلى النزع. أنت إلى الأنس والألفة وأنا إلى الوحشة والانفراد. ولكنني سأرفع في وادي ظل الموت تمثالا للحب وأعبده. سأتخذ الحب سميرا وأسمعه منشدا وأشربه خمرا وألبسه ثوبا. عند الفجر سينبهني الحب من رقادي ويسير أمامي إلى البرية البعيدة. وعند الظهيرة سيقودني إلى ظل الأشجار، فأربض مع العصافير المحتمية من حرارة الشمس. وفي المساء سيوقفني أمام المغرب ويسمعني نغمة وداع الطبيعة للنور، ويريني أشباح السكينة سابحة في الفضاء. وفي الليل سيعانقني فأنام حالما بالعوالم العلوية حيث تقطن أرواح العشاق والشعراء. وفي الربيع سأمشي والحب جنبا لجنب مترنمين بين التلول والمنحدرات متبعين آثار أقدام الحياة المخططة بالبنفسج والأقحوان، شاربين بقايا الأمطار بكؤوس النرجس والزنبق. وفي الصيف سأتكئ والحب ساندين رأسينا إلى أغمار القش مفترشين الأعشاب ملتحفين السماء ساهرين مع القمر والنجوم. وفي الخريف سأذهب والحب إلى الكروم، فنجلس بقرب المعاصر ناظرين إلى الأشجار وهي تخلع أثوابها المذهبة متأملين بأسراب الطيور الراحلة إلى الساحل. وفي الشتاء سأجلس والحب بقرب الموقد تاليين حكايات الأجيال مرددين أخبار الأمم والشعوب. وفي أيام الشبيبة سيكون لي الحب مهذبا، وفي الكهولة عضدا، وفي الشيخوخة مؤنسا. سيظل الحب معي يا سلمى إلى نهاية العمر، إلى أن يجيء الموت، إلى أن تجمعني بك قبضة الله.
كانت الألفاظ تتصاعد مسرعة من أعماق نفسي، كأنها شعلات من نار تنمو وتتطاير ثم تتبدد وتضمحل في زوايا تلك الحديقة، وكانت سلمى مصغية والدموع تنهمر من عينيها، كأن أجفانها شفاه تجيبني بالدموع على الكلام.
إن الذين لم يهبهم الحب أجنحة لا يستطيعون أن يطيروا إلى ما وراء الغيوم ليروا ذلك العالم السحري الذي طافت فيه روحي وروح سلمى في تلك الساعة المحزنة بأفراحها المفرحة بأوجاعها. إن الذين لم يتخذهم الحب أتباعا لا يسمعون الحب متكلما، فهذه الحكاية لم تكتب لهم، فهم وإن فهموا معاني هذه الصفحات الضئيلة لا يمكنهم أن يروا ما يسيل بين سطورها من الأشباح والأخيلة التي لا تلبس الحبر ثوبا ولا تتخذ الورق مسكنا. لكن أي بشري لم يرشف من خمرة الحب في إحدى كاساته؟ أية نفس لم تقف متهيبة في ذلك الهيكل المنير المرصوف بحبات القلوب المسقوف بالأسرار والأحلام والعواطف؟ أي زهرة لم يسكب الصباح قطرة من الندى بين أوراقها؟ وأي ساقية تضل طريقها ولا تذهب إلى البحر؟
ورفعت سلمى إذ ذاك رأسها نحو السماء المزينة بالكواكب، ومدت يديها إلى الأمام، وكبرت عيناها، وارتجفت شفتاها، وظهر على وجهها المصفر كل ما في نفس المرأة المظلومة من الشكوى والقنوط والألم، ثم صرخت قائلة: ماذا فعلت المرأة يا رب فاستحقت غضبك؟! ماذا أتت من الذنوب ليتبعها سخطك إلى آخر الدهور؟! هل اقترفت جرما لا نهاية لفظاعته ليكون عقابك لها بغير نهاية؟! أنت قوي يا رب وهي ضعيفة، فلماذا تبيدها بالأوجاع؟! أنت عظيم وهي تدب حول عرشك، فلماذا تسحقها بقدميك؟! أنت عاصفة شديدة وهي كالغبار أمام وجهك، فلماذا تذريها على الثلوج؟! أنت جبار وهي بائسة، فلماذا تحاربها؟! أنت بصير عليم وهي تائهة عمياء، فلماذا تهلكها؟! أنت توجدها بالمحبة، فكيف بالمحبة تفنيها؟! بيمينك ترفعها إليك وبشمالك تدفعها إلى الهاوية، وهي جاهلة لا تدري أنى ترفعها وكيف تدفعها؟! في فمها تنفخ نسمة الحياة، وفي قلبها تزرع بذور الموت، على سبل السعادة تسيرها راجلة ثم تبعث الشقاء فارسا ليصطادها، في حنجرتها تبث نغمة الفرح ثم تغلق شفتيها بالحزن وتربط لسانها بالكآبة، بأصابعك الخفية تمنطق باللذة أوجاعها، وبأصابعك الظاهرة ترتسم هالات الأوجاع حول ملذاتها، في مضجعها تخفي الراحة والسلامة، وبجانب مضجعها تقيم المخاوف والمتاعب، بإرادتك تحيي ميولها، ومن ميولها تتولد عيوبها وزلاتها، بمشيئتك تريها محاسن مخلوقاتك، وبمشيئتك تنقلب محبتها للحسن مجاعة مهلكة، بشريعتك تزوج روحها من جسد جميل، وبقضائك تجعل جسدها بعلا للضعف والهوان. أنت تسقيها الحياة بكأس الموت والموت بكأس الحياة. أنت تطهرها بدموعها، وبدموعها تذيبها. أنت تملأ جوفها من خبز الرجل، ثم تملأ حفنة الرجل من حبات صدرها. أنت أنت يا رب، قد فتحت عيني بالمحبة، وبالمحبة أعميتني، أنت قبلتني بشفتيك، وبيدك القوية صفعتني، أنت زرعت في قلبي وردة بيضاء، وحول هذه الوردة أنبت الأشواك والحسك، أنت أوثقت حاضري بروح فتى أحبه، وبجسد رجل لا أعرفه قيدت أيامي؛ فساعدني لأكون قوية في هذا الصراع المميت، وأسعفني لأبقى أمينة وطاهرة حتى الموت ... لتكن مشيئتك يا رب، ليكن اسمك مباركا إلى النهاية.
Página desconocida