ترددت منذ ذلك الحين على هذا المكان، وعرفت الأولاد وعرفوني جيدا، فإذا ما تناولت قهوتي أعطيتهم قطعة من السكر، وفي المساء أشركهم في اللبن والخبز والزبدة، وأنفحهم في كل يوم أحد بكروتزر، وإذا كنت منصرفا إلى الصلاة، أعطتهم إياه ربة الدار بناء على أمري، وقد حزت ثقتهم، فهم يسرون إلي كل أمورهم ومطالبهم، ويدهشونني بصفائهم، خصوصا إذا كان معهم رفاق لهوهم الصغار. وخشيت أمهم في بداءة الأمر أن يكونوا علي متطفلين، ولكنني أقنعتها بعكس ما تظن، وجعلتها بعد عناء قليل تمنحهم ملء حريتهم، فتتركهم يسرون ما يشاءون.
الرسالة العاشرة
30 مايو
رأيي في الشعر كرأيي السابق في التصوير، فدعامتهما القدرة على فهم الجمال، وطريقة حسنة للتعبير. كان أمامي اليوم منظر يمكن أن يكون موضوعا بديعا لشعر بدوي، ولكن ما الحاجة إلى الأوصاف الشعرية والأناشيد؟ أيجب أن يقص كل معجز في الطبيعة في بيت أو وزن؟
أنت مخطئ في ظنك، إذا كنت تنتظر من وراء هذه المقدمة شيئا فخما. إن موحي هذه العواطف الحية فلاح ...
سأقصها على غير وجه كامل، كما هي عادتي، ولو أنك ستقول، كما هي عادتك، إن الصورة ملونة فوق اللازم، إن هي إلا قصة والهيم.
اتفق جماعة من تلك القرية على الاجتماع لتناول القهوة تحت أشجار الزيزفون، ولم تسرني رفقتهم، فاعتذرت عن الحضور، وكان المحراث الذي اقتعدته يوم التصوير قد كسر، فجاء شاب من الجهات المجاورة ليقوم بإصلاحه، وسرني شكله فجاذبته الحديث، حتى وثق بي بعد وقت قصير، فسألته عن شئونه، فقال إن حبيبته أرملة وأثنى عليها كثيرا. ولاحظت أن حبه لم يكن «عبودية»، وقال من طرف خفي إنها متقدمة في السن، وإنها آلت على نفسها ألا تتزوج؛ لما نالها من إهانة وسوء معاملة من زوجها القديم، وكان كلامه جله تعبيرات حلوة كثيرة، صورت آماله ورغباته الشديدة في غسل الشقاء الذي جلبه عليها زواجها، وقال إنه ليطيل كثيرا إذا أراد أن يصور تماما شغفه وحبه، بل إنني يجب أن أستعين بنيران الشعر لأصف تلكم النظرات المتلألئة في عينيه وهو يتكلم، عبثا أصف أن صديقي ليستطيع أن يتصور ما أجد روايته محالا.
ورأى في أثناء اعترافه بحبه أن يتفادى ذكر أي عسر مالي طفيف قد يؤثر في سمعة السيدة، وخشي أن أرتاب في استقامتها، فأفاض يتكلم - بلهجة حب صحيح لا تزال تسرني ذكراه - عن كمالها ومناقبها، وأنها وإن كانت قد قطعت مرحلة الشباب إلا أنه قد بقي لها كل جمالها القديم. لم أشهد قط من قبل حبا صادقا كهذا، تلك عاطفة قلب مخلص، فلا تهزأ مني أيها الصديق إذا صرحت بأنني قد افتتنت بهذا الحب والثبات اللامثيل لهما، وقد نال مني حديثه الخالص وأثر في، حتى لأحسب نفسي في بعض الأوقات ثملا بنشوة هذا الغرام الذي صرح به.
سأنتهز فرصة قريبة أرى فيها هذه السيدة المحبوبة، على أن تجنب ذلك ربما كان أكثر تعقلا وحزما؛ فإن هذه السجايا الجميلة الوصف قد تختفي إذا رأيتها، قد لا تكون لي عين الحبيب، ولو أن بي آراؤه؛ وعلى ذلك فسأضيع جمال التصور، وأفقد السرور الذي أتمتع به الآن.
الرسالة الحادية عشرة
Página desconocida