1
كأني ما زلت أراك يا حبيبتي وأنت واقفة هناك وراء الباب الموارب، تنتظرين أن يرجع الابن الجاحد الذي خرج مسرعا ليستقل العربة التي ستقله للعاصمة، وحرمك وحرم نفسه من قبلة لم يكن أحد منكما يدري أنها ستكون القبلة الأخيرة.
2
في ضحى يوم شتوي بارد قبل ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمان قلت لنفسك: أزور بيتنا في البلد زيارة خاطفة قبل أن ينفذ فيه حكم الإزالة الذي أصدره أخي الأكبر مع مجلس المدينة. كانت أصوات الهدم والردم والخبط وضربات المعاول والمطارق والفئوس قد تناهت إلى سمعي عند هبوط العربة من المزلقان واستدارتها إلى اليسار لتقف أمام عتبة البيت مباشرة. خلصت نفسي من زحام العربة التي كنت قد انحشرت فيها وسط مجموعة كبيرة من الفلاحين الطيبين الذين لا يملون الشكوى من الحكومة وإلقاء الذنب في كل المصائب على رءوس المسئولين، وضعت قدمي على الأرض بعد جهد جهيد ووقفت أمام عتبة البيت وفي يدي حقيبة صغيرة بها بعض الأوراق التي توهمت أنني سأستطيع النظر فيها أثناء السفر، ومعها الخطاب الذي أرسله إلى أخي ورجائي فيه أن أقف بجانبه وأتنازل عن حقي في البيت تقديرا لظروفه. لم أشأ أن أكلمه في الهاتف أو أرد عليه بخطاب آخر، صممت على السفر والرجوع في نفس اليوم بعد رؤية البيت وبعث الحياة في أجساد الذكريات الميتة.
لم أجد حاجة لطرق الباب بالسقاطة الحديدية العتيقة المثبتة عليه منذ سنين طويلة كقبضة يد نحيلة، كان الباب مفتوحا ورائحة الغبار الخانق تهب من الداخل ومن أكوام الهديم والرديم المتراكمة على شكل مساطب أو أهرامات صغيرة سواء في مدخل البيت أو خارجه، وقفت أنظر حولي وأتلفت في كل اتجاه، هذا هو نفس الباب الذي كانت تفتحه لي أمي عند عودتي في إجازة الصيف وتقف وراءه لتطل علي قبل ركوبي العربة التي تعيدني إلى الدراسة الثانوية أو الجامعية أو إلى العمل الذي التحقت به قبل رحيلها بسنوات قليلة. ما كان أطيبها وأحنها علي أنا آخر العنقود الوحيد الذي رفض حتى الآن أن يتخلى عن وحدته. هل أنسى كيف كانت تفتح ذراعيها بمجرد دخولي من الباب وتضمني إلى صدرها في حضن طويل وتغمر وجهي بالقبلات وهي تنهنه قائلة: يا نضري يا حبيبي، يعني كان لا بد من الغربة وحرقة الدم في الكتب والعلوم؟ يا ليتك تقعد معنا يا بني على طول وربك هو الرزاق للعالم والجاهل الذي لا يعرف الألف من كوز الذرة. وتأخذ يدها تربت على ظهري وتتحسس عظامي وهي تقول بصوت كالأنين: يا عيني عليك يا بني! كوم عظم يا ناس؟ هات الشنطة واسبقني على فوق، فيها هدوم للغسيل، طيب وما له، ياما جاب الغراب لأمه. في هذه الأثناء يكون صديقي بستان القط الأسود قد حضر على صوت كلامي وضحكاتي وأخذ يشب ويتمسح في رجلي وثيابي وأمي ترمقه بغضب وهي تهدده بيدها المتوعدة: والله لولا معزتك عنده كنا وضعناك من زمان في جوال ورميناك في الترعة، غدار ابن غدار، يأكل الأرانب المولودة ويسطو على صواني السمك في الفرن، تقول بستان! غير اسمه يا حبيبي، سمه خرابة بدل بستان، نمر أو وحش صحيح!
وأضحك على الذكرى وأنا أنظر إلى المندرة على يميني، ويقطع علي خيوط ذكرياتي صوت مجلجل أعرفه على الفور: الدكتور وصل يا أولاد، نادوا على الحاج يا جماعة، تفضل يا دكتور، تفضل في المندرة وأبعد عن التراب.
كان هو صوت جارنا عطية الحلاق الذي لا أدري كيف ولا متى لمحني فأسرع إلي وأخذني بالأحضان.
دخلت المندرة فوجدت كل شيء فيها كما كان. الكنب نظيف ومرتب، والحصيرة الملونة مفروشة على الأرض كأنها سجادة كبيرة للصلاة. هنا كم صلينا خلف أبي، وكم جلسنا نستمع إلى الدرس الديني الذي كان يتلوه علينا شقيقي الأزهري ، بينما تتابعه عينا أبي من وراء النظارة السميكة بكل الفخر والاعتزاز، وهل أنسى الرعب الذي كان ينفضني ويرجف قلبي وأعضائي وهو يحدثنا عن عذاب القبر أو عن أهوال يوم القيامة؟ (لا أذكر أبدا أنه تطرق مرة للكلام عن الجنة ونعيم الفردوس!) في هذه المندرة نفسها، كم كان يحلو السهر في رمضان، وكم كانت تعمر بالجيران والأحباب والأعيان والفلاحين والفقراء المجهولين الذين يأتون للسمر ويستمتعون بفنجان القهوة أو القرفة أو طبق الخشاف، والكنبة المقابلة. كيف أنسى جلسة أمي عليها بجوار النافذة المواربة، ترى الدنيا وتطل على الناس أو تنتظر عودة شقيقي - الذي أنتظره الآن - من غربته في المدينة التي هرب إليها من وجه أبي وبعث له ولشقيقه الأكبر بأكثر من خطاب يهدد فيه بالانتحار إن لم تتحقق مطالبه بالاستقلال بنفسه بمحل تجاري خاص به وحده، والأم تنتظر بجانب الشباك وهي تجفف دموعها بين الحين والحين، وتتحسس الأساور والمباريم التي أعلنت للجميع أكثر من مرة بأنها مستعدة أن تعطيها له بمجرد رجوعه بالسلامة وتقبيل يد أبيه التقي المسامح بالرغم من غضبه الجبار، وفي داخل المندرة من هذا الباب الصغير كانت الخزنة الصغيرة التي ...
ويحضر شقيقي معفر الشعر والملابس كأنه خارج من قلب عاصفة ترابية. مرحبا مرحبا وهلت الأنوار، أهلا بالحكمة والعلم والأدب والناس الطيبين. العصفورة قالت لي إنك ستحضر بنفسك. أنت دائما لا تخيب عشمي فيك، سلامات، سلامات، إن شاء الله تقعد معنا يومين، بالحضن يا رجل، بالأحضان ...
قلت محاولا أن أقطع السيل المتدفق: يومين؟ أنت متفائل جدا يا أخي، لا بد من الرجوع عصر اليوم. قال مستنكرا: قبل ما الأولاد يشوفوك ويسلموا عليك؟ قبل ما تذوق أكل الحاجة وتسلم عليها؟ أنا أرسلت لها بالفعل لتجهز الغداء. سنذهب إلى الشقة التي استأجرناها ووضعنا فيها العزال الضروري حتى تنتهي من البناء، أنا كنت على ثقة من حضورك، ومتأكد من وقفوك بجانبي أنا وأولادي.
Página desconocida