فالقصة هي أسطورة منقوشة على الوعاء وهناك آلهة وبشر، رعاة وعذارى وصيد مجنون، وأغصان وغابات وعشب وطئته أقدام، ومزامير ودفوف نكاد نسمع نغماتها العذبة فتملؤنا نشوة عارمة؛ نغمات نراها - إذا سمحتما لي بهذا التعبير - بأذن الروح ونسمعها بعينها الباطنة. انظرا إلى الفتى الجميل الذي يجلس في ظل الشجرة وينشد أغنيته. هذا المحب الجسور السعيد لأنه يغني أغاني متجددة إلى الأبد.
لقد فشل في أن يقبل حبيبته التي هربت منه في الغابة، أو انضمت إلى الموكب الذي سأكلمكما عنه، ولكنه ما يزال يحب، وما تزال هي جميلة صافية كالنبع ووردية كالفجر. سيبقى حبه دافئا قويا، وسيظل جمالها ربيعا متجددا على الدوام. ثم انظرا معي إلى هذا الكاهن العجوز الغامض الذي يقود الموكب المتجه في طريقه إلى المذبح لتقديم الأضحية، وفي وسط الموكب تتدحرج البقرة السمينة المكللة بأكاليل الزهر، ومن خلفهم تبدو المدينة الصغيرة التي انحدروا منها والقلعة الآمنة المطلة على شاطئ البحر، والشاب هناك يتابع منظر الموكب وهو يشدو بأغنية حبه، والحبيبة السعيدة لا تزال مختبئة وبعيدة وراء الأشجار وربما تسمع أغنيته وتتمنع ولا تستجيب ، والوعاء كالعروس الساكنة التي تضج رغم سكونها بالحركة والغناء الشجي الغامض من الشاعر العاشق ومن الموكب الجليل الغامض. هل لاحظتما أن الفنان قد ثبت الصور في لوحته التي نقشها على جدران الوعاء ليعطيها خلود الأبدية؟ هل لاحظتما أن الفنان والعاشق كليهما قد ماتا منذ قرون وأن الحب الذي صوره لا يزال يفيض من رسمه ونقشه بالحركة والجمال والحياة، مؤكدا أن الحب أبدي خالد يتحدى الموت والفناء الذي لا يفلت منه شيء؟ وهل رأيتما كيف تحدت لحظته السحرية أنياب الموت وأظافره وفمه الفاغر على الدوام ... تأملا أيضا ختام القصيدة أو الأنشودة التي يوجهها الشاعر للوعاء ولنفسه:
عندما تضني الشيخوخة هذا الجيل،
ستبقى أنت وسط حزن آخر غير أحزاننا،
ستبقى صديقا للإنسان،
تقول له الجمال هو الحق، والحق هو الجمال،
هذا هو كل ما نتعلمه على الأرض
وكل ما نحتاج أن نعلم ...
أخرجه صوت السائق من حلمه الطويل كأنما مزق بيت العنكبوت الذي نسجه وعاش فيه طوال الوقت. قال له: هذا هو الشارع يا حضرة. يمكنك أن تسأل بنفسك عن العنوان. هو إن شاء الله على هذا الرصيف أو الرصيف المقابل.
نقده أجرته وهز رأسه ليكمل تمزيق النسيج الذي تشابك حوله وينفض خيوطه بعيدا عنه، وفرد الشمسية وراح يسأل عن الرقم المكتوب على الورقة والشلال ما يزال يتدافع ويجيش ويتدفق من داخله. •••
Página desconocida