أهمية العناية بالتفسير والحديث والفقه
أهمية العناية بالتفسير والحديث والفقه
Editorial
بدون ناشر فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية
Número de edición
الأولي ١٤٢٥ هـ
Ubicación del editor
الرياض
Géneros
العلم الممدوح في الكتاب والسنة والعلم الشرعي
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، قيوم السموات والأرضين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الصادق الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، ﷺ وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن العلم المحمود المُثنى عليه وعلى أهله في الكتاب والسّنّة علم الشريعة، التي بعث الله بها رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، فكل ما جاء في كتاب الله وسنّة رسوله ﷺ من مدح للعلم وثناء على حملته إنما يراد به هذا العلم الشرعي، علم الكتاب والسّنّة والفقه في الدين.
1 / 3
ومما جاء في كتاب الله قول الله ﷿: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران:١٨]، وقوله: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر:٩]، وقوله: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه:١١٤]، وقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:٢٨]، وقوله: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:١١] .
ومن سنّة رسول الله ﷺ، قوله ﷺ: "ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهّل الله له به طريقًا إلى الجنّة" أخرجه مسلم (٢٦٩٩) من حديث أبي هريرة ﵁، وقوله ﷺ: "من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله ﷿ به طريقًا من طرق الجنّة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان
1 / 4
في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" وهو حديث حسن رواه أبو داود (٣٦٤١) و(٣٦٤٢)، والترمذي (٢٦٨٢)، وابن ماجه (٢٢٣)، وغيرهم عن أبي الدرداء ﵁، وقد شرحه الحافظ ابن رجب في جزء. وقوله ﷺ: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلاّ من ثلاثة، إلاّ من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم (١٦٣١) عن أبي هريرة ﵁.
مدار العلم الشرعي علي التفسير والحديث والفقه ... وأصول هذا العلم ترجع إلى التفسير والحديث والفقه، وقد بدأ البخاري كتاب العلم من صحيحه بباب فضل العلم وقول الله تعالى ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
مدار العلم الشرعي علي التفسير والحديث والفقه ... وأصول هذا العلم ترجع إلى التفسير والحديث والفقه، وقد بدأ البخاري كتاب العلم من صحيحه بباب فضل العلم وقول الله تعالى ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
1 / 5
خَبِيرٌ﴾، وقوله ﷿: ﴿رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، قال الحافظ في شرحه فتح الباري (١/١٤١) في معنى الآية الأولى: "قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم"، وقال في الآية الثانية: قوله: "وقوله ﷿: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ واضح الدلالة في فضل العلم؛ لأن الله تعالى لم يأمر نبيه ﷺ بطلب الازدياد من شيء إلاّ من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه، وقد ضرب هذا الجامع الصحيح في كل من الأنواع الثلاثة بنصيب".
وتتّضح أهمية العناية بهذه العلوم الثلاثة التي عليها مدار العلم الشرعي، وهي التفسير والحديث والفقه بما يلي:
1 / 6
أهمية العناية بالتفسير
...
أما التفسير فلتوضيحه معاني كلام الله ﷿، واشتماله على نتائج التدبر لآياته، قال الله ﷿: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر:١٧]، وقال: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق:٤٥]، وقال: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:٢٩]، وروى البخاري في صحيحه (٥٠٢٧) عن عثمان ﵁ عن النبي ﷺ قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلّمه"، وروى مسلم في صحيحه (٨١٧) عن عامر بن واثلة: أن نافع ابن عبد الحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: مَن استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومَن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟! قال: إنه قارىء لكتاب الله ﷿، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم ﷺ قد قال: "إن الله يرفع
1 / 7
بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين".
وفي صحيح مسلم أيضًا (٢٢٣) من حديث أبي مالك الأشعري ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: "الطهور شطر الإيمان" وفي آخره: "والقرآن حجّة لك أو عليك".
وخير ما يفسّر به القرآن القرآن، ثم سنّة الرسول ﷺ، ثم كلام السلف من الصحابة والتابعين بإحسان، وأهم الكتب في ذلك: تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة (٣١٠هـ)، وتفسير الحسين بن مسعود البغوي المتوفى سنة (٥١٦هـ)، وتفسير إسماعيل بن كثير المتوفى سنة (٧٧٤هـ)، وكتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المتوفى سنة (١٣٩٣هـ) .
أهمية العناية بالحديث ... وأما الحديث - وهو مرادف للسّنّة عند عطفها على الكتاب - فهو ما أضيف إلى النبي ﷺ من قول أو
أهمية العناية بالحديث ... وأما الحديث - وهو مرادف للسّنّة عند عطفها على الكتاب - فهو ما أضيف إلى النبي ﷺ من قول أو
1 / 8
فعل أو تقرير أو وصف خُلُقي أو خَلْقي، وهو وحي من الله أوحاه الله على رسوله ﷺ، كما قال الله ﷿: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم:٣-٤]، وفي صحيح البخاري (١٤٥٤) كتاب أبي بكر إلى أنس الطويل في بيان فرائض الصدقة، وفي أوله قال: "هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله ﷺ على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله"، وروى مسلم في صحيحه (١٨٨٥) عن أبي قتادة أنه حدث عن رسول الله ﷺ أنه قام فيهم، فذكر لهم: "أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت إن قتلتُ في سبيل الله تكفَّر عنّي خطاياي؟ فقال له رسول الله ﷺ: نعم! إن قتلتَ في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، إلاّ الدَّين؛ فإن جبريل ﵇ قال لي ذلك" ورواه النسائي (٣١٥٥) عن أبي هريرة، وفي
1 / 9
آخره: "نعم! إلاّ الدَّين، سارَّني به جبريل آنفًا"، وفي صحيح البخاري (١٧٨٩) ومسلم (١١٨٠) عن يعلى ابن أمية في قصّة الرجل الذي عليه جبّة وهو متضمخ بالخلوق، وقد سأل النبي ﷺ بالجعرانة: "كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ " فنزل عليه الوحي، وفي آخر الحديث: "فلما سُرِّي عن الرسول ﷺ قال: "أين السائل عن العمرة؟ اخلع عنك الجبّة، واغسل أثر الخلوق منك، وأنق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجّك"
والعمل بالسّنّة والحديث لازم كالعمل بالقرآن، قال الله ﷿: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧]، وقال: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النساء:٥٩]،وقال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
1 / 10
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب:٣٦]، وقال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:٦٣] .
وتتبين أهمية العناية بأحاديث رسول الله ﷺ وسنّته في قوله ﷺ: "نضّر الله امرءًا سمع منّا حديثًا فحفظه حتى يبلّغه، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" رواه أبو داود (٣٦٦٠) وهذا لفظه، والترمذي (٢٦٥٦)، وابن ماجه (٢٣٠) عن زيد بن ثابت ﵁، وهو حديث متواتر، جاء عن أكثر من عشرين صحابيًا، ذكرت رواياتهم وما اشتمل عليه من الفقه في كتابي" دراسة حديث نضّر الله امرءًا سمع مقالتي رواية ودراية"، وفي هذا الحديث بيان فضل من اشتغل بسنّة الرسول ﷺ؛ حيث دعا له الرسول ﷺ بهذه الدعوة العظيمة، وقال العرباض بن سارية ﵁: "وعظنا رسول الله ﷺ
1 / 11
موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، قال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودّع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء المهديين الراشدين تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" رواه أبو داود (٤٦٠٧) - وهذا لفظه - والترمذي (٢٦٧٦)، وابن ماجه (٤٣-٤٤)، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، وروى مسلم في صحيحه (٨٦٧) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ كان إذا خطب يوم الجمعة قال:" أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"، وقال رسول الله ﷺ: "فمن رغب عن سنّتي فليس منّي" رواه
1 / 12
البخاري (٥٠٦٣) ومسلم (١٤٠١)، وروى البخاري في صحيحه (٧٢٨٠) عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "كل أمّتي يدخلون الجنّة إلاّ مَن أبى، قالوا: يا رسول الله! ومَن يأبى؟ قال: مَن أطاعني دخل الجنّة، ومَن عصاني فقد أبى".
وأهم الكتب المؤلفة في حديث رسول الله ﷺ الكتب السّتّة وهي: صحيح الإمام البخاري المتوفى سنة (٢٥٦هـ)، وصحيح الإمام مسلم المتوفى سنة (٢٦١هـ)، وسنن أبي داود المتوفى سنة (٢٧٥هـ)، وسنن الترمذي المتوفى سنة (٢٧٩هـ)، وسنن النسائي المتوفى سنة (٣٠٣هـ)، وسنن ابن ماجه المتوفى (٢٧٣هـ)، وقد لقيَت هذه الكتب من العلماء عناية خاصة، وكتبتُ في ذلك رسالة مختصرة بعنوان: "كيف نستفيد من الكتب الحديثية السّتّة"، ذكرت فيها جملة من كلامهم وجهودهم في هذه الكتب.
1 / 13
والكتب المؤلفة في حديث رسول الله ﷺ كثيرة جدًّا، ومن أشهرها سوى ما تقدّم: موطّأ الإمام مالك، وسنن الدارمي ومسند الإمام أحمد.
أهمية العناية بالفقه ... وأما الفقه فهو استنباط الأحكام من أدلة الكتاب والسّنّة، وقد اعتنى بذلك المفسرون وشرّاح الحديث، وقد قال ﷺ: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" رواه البخاري (٧١) ومسلم (١٠٣٧) من حديث معاوية ﵁، وهو يدل على أن من علامة إرادة الله ﷿ الخير بالعبد أن يفقهه في الدين؛ لأنه إذا فقه في دين الله يعبد الله على بصيرة، ويدعو غيره إلى الحق والهدى على بصيرة، وروى البخاري (٣٣٥٣) ومسلم (٢٣٧٨) عن أبي هريرة ﵁: "قيل يا رسول الله! مَن أكرم الناس؟ قال: أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن
أهمية العناية بالفقه ... وأما الفقه فهو استنباط الأحكام من أدلة الكتاب والسّنّة، وقد اعتنى بذلك المفسرون وشرّاح الحديث، وقد قال ﷺ: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" رواه البخاري (٧١) ومسلم (١٠٣٧) من حديث معاوية ﵁، وهو يدل على أن من علامة إرادة الله ﷿ الخير بالعبد أن يفقهه في الدين؛ لأنه إذا فقه في دين الله يعبد الله على بصيرة، ويدعو غيره إلى الحق والهدى على بصيرة، وروى البخاري (٣٣٥٣) ومسلم (٢٣٧٨) عن أبي هريرة ﵁: "قيل يا رسول الله! مَن أكرم الناس؟ قال: أتقاهم، فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن
1 / 14
معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"، وهذا الحديث دال على أن من كان خيارًا في الجاهلية لما اتصف به من صفات حسنة وأخلاق كريمة ثم أسلم على هذه الصفات وفقه في دين الله، فإنه يكون جمع بين الشرف والسؤدد في الجاهلية والإسلام، قال النووي في شرح مسلم (١٥/١٣٥): "ومعناه أن أصحاب المروءات ومكارم الأخلاق في الجاهلية إذا أسلموا وفقهوا، فهم خيار الناس، قال القاضي: وقد تضمّن الحديث في الأجوبة الثلاثة أن الكرم كله عمومه وخصوصه ومجمله ومبانه إنما هو الدين من التقوى والنبوة والإعراق فيها والإسلام مع الفقه، ومعنى معادن العرب أصولها، وفقهوا بضم القاف على المشهور، وحكي كسرها، أي صاروا فقهاء عالمين بالأحكام الشرعية الفقهية، والله أعلم"
1 / 15
وفي صحيح البخاري (٧٩) ومسلم (٢٢٨٢) عن أبي موسى الأشعري ﵁ عن النبي ﷺ قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكان منها نقية، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"، والحديث يدل على أن الناس في الوحي ثلاثة أصناف: صنف فقه
في دين الله فعلم وعلّم، وصنف حفظ ما جاء عن النبي ﷺ، فحصلت الفائدة والمنفعة من حفظه، وإلى هذين الصنفين الإشارة في حديث زيد بن ثابت المتقدّم، وهو قوله ﷺ: "نضّر الله امرءًا سمع منا
1 / 16
حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"، وأما الصنف الثالث فهو الذي لم يحفظ ولم يفقه، فلم ينتفع ولم ينفع.
الفقه الفهم في الكتاب والسّنّة والفقه في الدين هو الفهم في كتاب الله ﷿ وسنة رسوله ﷺ واستنباط الأحكام منهما، فأما الفهم في الكتاب العزيز، ففي صحيح البخاري (٣٠٤٧) عن أبي جحيفة ﵁ قال: قلت لعلي ﵁: "هل عندكم شيء من الوحي إلاّ ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! ما أعلمه إلاّ فهما يعطيه الله رجلًا في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر" ومن أمثلة فهم علي ﵁ في كتاب الله استنباطه
الفقه الفهم في الكتاب والسّنّة والفقه في الدين هو الفهم في كتاب الله ﷿ وسنة رسوله ﷺ واستنباط الأحكام منهما، فأما الفهم في الكتاب العزيز، ففي صحيح البخاري (٣٠٤٧) عن أبي جحيفة ﵁ قال: قلت لعلي ﵁: "هل عندكم شيء من الوحي إلاّ ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! ما أعلمه إلاّ فهما يعطيه الله رجلًا في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر" ومن أمثلة فهم علي ﵁ في كتاب الله استنباطه
1 / 17
من آيات البقرة ولقمان والأحقاف، أن أقلّ مدّة الحمل ستة أشهر، قال ابن كثير في تفسيره عند قوله في سورة الأحقاف: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾ "وقد استدل علي ﵁ بهذه الآية مع التي في لقمان:
﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ وقوله ﵎: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ على أن أقل مدّة الحمل ستّة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة ﵃"
ومن الفهم في كتاب الله استنباط شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ﵀ صحّة إمامة أبي بكر ﷺ من قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة:٦-٧]، قال في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (١/٣٦): "يؤخذ من هذه
1 / 18
الآية الكريمة صحّة إمامة أبي بكر الصديق ﵁؛ لأنه داخل فيمن أمرَنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم - أعني الفاتحة - بأن نسأله أن يهدينا صراطهم، فدلّ ذلك على أن صراطهم هو الصراط المستقيم، وذلك في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، وقد بيّن الذين أنعم عليهم فعدّ منهم الصديقين، وقد بيّن ﷺ أن أبا بكر ﵁ من الصديقين، فاتّضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم الذين أمرَنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم، فلم يبق لبس في أن أبا بكر الصديق ﵁ على الصراط المستقيم، وأن إمامته حق"
وكتابه أضواء البيان حافل بالأمثلة الكثيرة من الفهم في كتاب الله ﷿.
ومن الفهم في كتاب الله فهم عمر وابن عباس ﵃ من قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا
1 / 19
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر:١-٣]، قرب أجل رسول الله ﷺ، فقد روى البخاري في صحيحه (٤٢٩٤) عن ابن عباس قال:" كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لِمَ تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما أُريته دعاني يومئذ إلاّ ليريهم مني، فقال: ما تقولون في: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾؟ حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أُمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئًا، فقال لي: يا ابن عباس! أكذاك تقول. قلت: لا! قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله ﷺ أعلَمَه الله له ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ فتح مكة، فذاك علامة أجلك، ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
1 / 20
تَوَّابًا﴾ قال عمر: ما أعلم منها إلاّ ما تعلم"
ومن كتب التفسير التي عُنيت باستنباط الأحكام من القرآن، كتاب الجامع لأحكام القرآن للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي المتوفى سنة (٦٧١هـ)، ومما يُنَبَّه عليه أن لديه تخليطًا في صفات الله ﷿، يتّضح ذلك بما ذكره عند تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف:٥٤]، في سورة الأعراف.
وأما الفهم في سنّة الرسول ﷺ فيكون باستنباط الأحكام الشرعية مما ثبت عن الرسول ﷺ فكان من قبيل الصحيح أو الحسن، وأما الأحاديث الضعيفة التي لا تستفاد الأحكام إلاّ منها، فلا يعوَّل عليها، وإنما التعويل على ما ثبتت نسبته إلى رسول الله ﷺ، وهو الأحاديث الصحيحة والأحاديث الحسنة.
ومن أمثلة الاستنباط الدقيق من الحديث ما اشتملت عليه تراجم الإمام البخاري في صحيحه، من
1 / 21
فهم دقيق واستنباط عجيب، جعل كتابه كتاب رواية ودراية، جمع فيه بين الحديث والفقه، ومن أمثلة ذلك: ترجمة "باب صب النبي ﷺ وَضوءه على مغمى عليه"، وأورد تحتها الحديث (١٩٤) عن جابر ﵁ قال: "جاء رسول الله ﷺ يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضّأ وصبّ عليَّ من وَضوئه فعقلت، فقلت: يا رسول الله! لمن الميراث، إنما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض" فتعبيره ﵀ في الترجمة بـ "صب النبي ﷺ وَضوءه على مغمى عليه" إشارة إلى أنه من خصائصه ﷺ، ولهذا لم يقل: باب صب الإمام أو العالم أو الكبير أو الزائر وَضوءه على مغمى عليه.
ومن ذلك ترجمة "باب إذا استأجر أجيرًا ليعمل له بعد ثلاثة أيام أو بعد شهر أو بعد سنة جاز، وهما على شرطهما الذي اشترطاه إذا جاء الأجل"، وأورد تحتها حديث عائشة ﵂ (٢٢٦٤) قالت: "واستأجر
1 / 22