ففرح بها زكريا ولبسها وطلب مرآة يرى فيها وجهه فأعطاه فنظر فيها فإذا هو قد تغيرت قيافته وإن بقي وجهه ينم عليه - عند التفرس - على أنه قنع لما كان وودع الشماس فرافقه هذا إلى باب الدير وفتحه له فخرج ومضى في سبيله.
ولما رأى نفسه في الصحراء أكبر أمره وتخيل وحدته بها في الظلام لا يدري أين يبيت ولا أين يلتجئ، فوقف حائرا وكاد يقلع عن السفر وحده، ثم تذكر نصيحة الشماس فاتجه في طريق وادي النطرون وهو على مقربة منه. وقبل أن يشرف عليه سمع أنينا فوقف وتلفت ثم مشى إلى جهة الصوت فلما اقترب منه رأى رجلا ملقى على الأرض ويداه ورجلاه مشدودة بحبال وهو يستغيث وما كاد يرى زكريا حتى قال له بالقبطية: «انجدني أيها الجندي بحرمة الذي تعبده.»
فعلم زكريا أنه ظنه جنديا لما رأى لباس الجند عليه، فأسرع إليه فإذا هو شاب قمحي اللون، عليه ثياب التجار فأخذ في حل الحبال فلما أفلت الرجل هم بيدي زكريا يقبلهما وهو يقول: «جزاك الله خيرا يا سيدي.»
فقال زكريا: «من أنت وما خطبك؟»
قال: «أنا تاجر أحمل الملح والنطرون من هذا الوادي ولي قافلة تعودت أن أسيرها بأمان، فجئت هذه المرة مع القافلة وحملنا الأحمال وخرجنا من الوادي في الصباح وإذا بجماعة سطوا علينا، فساقوا القافلة برمتها وتركوني مقيدا كما ترى.»
وكان يتكلم وهو يكاد يبكي من الحزن والجزع. فرق زكريا لحاله وازداد خوفا على نفسه من الخطر، فقال: «لا بأس عليك يا صاحبي والحمد لله إذا سلمت. والآن ماذا تريد أن تفعل؟»
قال: «لا أريد شيئا؛ فإن أموالي وأحمالي ضاعت وأظن اللصوص سيقتلون رجالي ولا آسف على شيء ما دمت حيا. وإني أشكر الله على أن لقيت جنديا نبيلا مثلك. فهل تتمم جميلك وتعدني أن ترفع أمري إلى صاحب مصر؟»
فاعتقد زكريا أن تنكره غر الرجل، فوعده أن يبلغ أمره إلى أمير مصر متى وصل إلى الفسطاط ثم أحب أن يستعينه على أمر الرجوع فقال: «وكيف السبيل إلى الرجوع الآن؛ فقد كان معي جمل ضل مني وأصبحت راجلا - كما ترى.»
فأطرق الرجل هنيهة ثم قال: «أظنني أقدر أن أدلك على جمل في مكان قريب وراء هذه الأكمة كنت قد ربطته هناك قبل هجوم اللصوص ولعلهم لم يعرفوا مكانه، فتركبه إذا وجدناه.»
ففرح زكريا وقال: «امكث هنا، وأنا أذهب للتفتيش عن الجمل.»
Página desconocida