فلما سمعت منه هذا التصريح أسرع خفقان قلبها وتولاها الخجل ولم تجب فابتدرها هو قائلا: «وهذا الأمر - على خطورته - لا ينبغي أن يهمك كثيرا إنك ستنالين كل ما تريدين بإذن الله ونعمة يسوع المسيح (وكان العم زكريا نصرانيا مثل سائر أهل النوبة في ذلك العهد). ستنالين سعيدا، وسيذهب إسطفانوس هذا مخذولا، وستكونين صاحبة هذه الثروة وحدك متى شئت. إنما يجب علينا أن نتوخى التؤدة والحكمة والله المستعان.» قال ذلك وأمارات الجد بادية في صوته ولو استطاعت دميانة التفرس في وجهه لرأت في عينيه معاني لا يعبر عنها النطق، على أنها فهمت قوة عزمه من لحن صوته، كأنه يتكلم عن ثقة وسلطان، لكنها حملت قوله محمل الحماسة لها تخفيفا عنها؛ لأنه يحبها ويريد راحتها.
فقالت: «إني لا أفتر عن الصلاة والدعاء مساء وصباحا، وأتوسل إلى السيد المسيح أن يبعد عني هذه التجارب، وأرجو أن يصغي لطلبتي.» وقد سرها تصدي العم زكريا للأخذ بناصرها فزادت استئناسا به وارتكانا عليه، وهي تعتقد صدق ولائه وإخلاصه. ومشيا حتى اقتربا من الدار، ففتح لهما البواب فدخلا، فأطلا على حديقة أنيرت بمصابيح ملونة معلقة بأغصان الشجر. وقد مدت المائدة تحت شجرة كبيرة تدلت المصابيح من أغصانها كالعناقيد، وعلى المائدة الأقداح والأباريق فيها أصناف الخمر يتخللها أطباق الفاكهة والأطعمة وباقات الرياحين. فتحولت دميانة إلى غرفتها وظل زكريا في طريقه حتى أقبل على سيده وكان جالسا على وسادة عالية بجانب المائدة وبجانبه صديقه إسطفانوس وقد لعبت الخمر برأسيهما.
مرقس وإسطفانوس
كان مرقس كهلا متصابيا يؤلمه التفكير في كهولته وإذا بدا له أنه أشرف على الستين غالط نفسه وزعم أن أباه أخطأ في رصد عام ولادته. فكيف إذا سئل عن سنه إذن لاستشاط غضبا من قحة السائل! ومثله مثل كثيرين من كهول هذا الزمان الذين يشق عليهم أن يعرف الناس حقيقة أعمارهم، فإذا ظهرت سن أحدهم ظهورا لا سبيل إلى إنكاره ملكت قياده إذا قلت له : «يظهر أنك أصغر سنا من ذلك بكثير.» فيعد قولك تقريظا له فيثني عليك كأنك أطريت مناقبه فذكرت مآثره في المجتمع الإنساني أو تفوقه في العلم على أقرانه أو بلاءه في الدفاع عن وطنه!
هكذا كان شأن صاحبنا مرقس، وقد زاده تمسكا بظواهر الشباب انصرافه على إرضاء سراريه الكثيرات واكتساب إعجابهن، فكان لا يدخر وسعا في إخفاء علامات الكهولة، وأصبح منذ انصراف الشباب عنه، إذا ابيضت شعرة في شاربيه أو لحيته أو رأسه نزعها، فلما تكاثر الشيب عمد إلى الخضاب يسود به وجهه، فبدلا من أن يكون الشعر نظيفا كما خلقه الله يطليه بكلس اسود كما تطلى الجدران بالكلس الأبيض، أو يصبغه بالعقاقير كما تصبغ الجلود أو الأنسجة.
فهو يخدع نفسه لأنه يود أن يظهر من حاله غير ما هو عليه، ولكن خداعه لا يجوز على أكثر الناس. ولو أن واحدا من هؤلاء توسم فيك مداجاة أو خداعا لاحتقرك وتجنب عشرتك مع أنه يداجي الناس بخضابه فيريهم من أحواله غير الواقع ويوهمهم أنه شاب وهو كهل. وأنه أصغر سنا مما هو، فكأنه سئل عن عمره فكذب ومع أنهم يكرهون أنواع الرياء والكذب فإنهم يعدون الخضاب من قبيل المبالغة في إصلاح الهندام، ناسين أن النظافة أول شروط جمال الهندام.
وكان كل أمل مرقس أن يحتفظ بمظاهر الشباب بين يدي أهله؛ ولذلك كان إذا أحس بانحطاط في قواه الجسدية عمد إلى المنبهات، فشرب الخمر وأكثر في طعامه من اللحوم الطازجة والأفاويه، وتنشق العطور ولازم الراحة والخمول - وهما من بواعث السمن - فانتفخ وجهه وجحظت عيناه وغلظ عنقه وتعالى صدره وبطنه، فأصبح لقصر قامته إذا لبس السراويل والقباء يكاد يكون عرضه كطوله وتراه أكثر ما نراه ضاحكا طروبا كأن الطبيعة طوع إرادته لا يخاف مستقبلا ولا يرهب قدرا مخبئا، همه أن يتمتع بالحياة جهد طاقته فلا يروق له إلا مجلس المتهتكين المستهترين وينفر من أحاديث الجد بل هو لا يقوى على إعمال الفكر برهة ولا يلبث حتى يمل ويضيق صدره، فقد اعتاد أن ينأى بجانبه عن التعب بعد أن أتته الثروة فأغنته عن العمل.
ولرغبته في الشباب كان لا يصاحب الكهول؛ إذ يغلب فيهم الرزانة والبعد عن المجون والتهتك، فكان يعاشر الشبان ويقلدهم في حركاتهم وسكناتهم، فيجالسهم ويشاربهم ويؤاكلهم، وكان حديثه طليا فكها يتخلله كثير من النكات والمغامز اللطيفة، فإذا سمع نكتة ضحك لها وقهقه طويلا.
وكان إسطفانوس من بين عشرائه الشبان، وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وكان مرقس عشير أبيه من قبله. وكان هذا رجلا عاقلا وجيها اسمه المعلم حنا ترقى في مناصب الدولة حتى صار كاتبا للمارداني صاحب الخراج، ونال نفوذا كبيرا، وجمع ثروة حسنة، وقد أحسن كل عمل إلا تربية ابنه إسطفانوس، فلقد غلب ضعفه على عقله في أمره. أو لعل الذنب ليس ذنبه بل للفطرة؛ لأنك إذا تدبرت أحوال الناس في تربية أبنائهم قلما رأيت للتربية تأثيرا في ذلك، وما هي إلا كالصقل للمعدن تجلو ظاهره ولا تغير جوهره.
ومهما يكن السبب فقد شب إسطفانوس على الانهماك في اللذات والإخلاد إلى الرخاء ولم يكن مضطرا إلى العمل ولا فيه ميل إليه، فنشأ في عيش سهل لا هم له إلا أكله أو شرابه. وكان وحيدا لأبيه وله دالة عليه لا يطلب أمرا إلا ناله وعرف مرقس ذلك فازداد رغبة في تقريب إسطفانوس منه فضلا عن اتحاد الطباع وقد استفاد من عشرته إغضاء جباة الخراج عن تحصيل خراج أطيانه عدة أعوام.
Página desconocida