فتهلل وجهه فرحا وقال: «هل تأذنين في ذلك هل تأذنين أن أدعوك باسمك فقط؟»
قالت: «علي أن أدعوك أنا سعيدا فقط.»
قال: «أنت صاحبة الإذن والفضل للمتقدم فقط سمحت بأن أكون في خدمتك هذا المساء أثناء الطريق ويا لها من خدمة قصيرة الأمد فهل لي أن أطمع في امتدادها؟»
فنظرت إليه وقالت: «لا تقل خدمة فإنما هي أنس المرافقة.»
فقال: «وهل تأذنين أن تطول يا دميانة؟» وأدركت من بحة صوته المعني الذي أراده، فأخذ الهيام منها مأخذا عظيما، وسرها أن يسأل هذا السؤال. فنظرت إلى وجهه على ضوء القمر وعيناها شاخصتان إليه، وقالت وصوتها يرتجف: «طول الحياة.» وغلب عليها الحياء وتوردت وجنتاها وأطرقت. فلما أبطأ بالجواب خافت أن تكون قد تسرعت فتباطأت في المسير فطاوعها سعيد وقال: «قد تستغربين سكوتي يا دميانة بعد أن قلدت عنقي بعقد كلامك الحلو الشهي. وإنما سكت من الدهشة والإكبار فقد شعرت بالانتقال فجأة من مصاف الضائعين إلى مراتب أهل السعادة، إن دميانة كتاب كبير مجلد ضخم، بل هي وحي سماوي نزل على قلبي فأناره فأراني مستقبلا مجيدا لم أكن أحلم به؛ لأنه فوق ما كنت أطمع فيه. إن دميانة روح حلت في ميت آمالي فبعثته. ولقد طالما مررت بي أحلام الصبا يا دميانة وحدثتني نفسي بضروب من السعادة مما يخطر في أذهان الأحداث ويندر أن ينالوا عشر معشارها، فلم يخطر ببالي سعادة كالسعادة التي اكتنفتني عند سماع هذه الكلمة الثمينة، إنها أبلغ ما نطق به الشعراء وأسمى ما خطر على بال بشر. طول الحياة! أطال الله حياتك يا دميانة حتى تطول أسباب سعادتي.»
ثم وقف وقد انتبه لتسرعه في تفسير قولها، والتفت إليها، وهي تنظر إليه وقد حدقت بصرها في وجهه كأنها تهم بأن تحتضنه بأجفانها، فأحس بسهم أصاب قلبه وأنه غلب على أمره فقال: «أخشى يا دميانة أن أكون قد تسرعت في فهم مرادك هل تعنين ما فهمته؟ أم غلب علي الوهم ففهمت ما أتمناه؟»
فتنهدت تنهدا عميقا وقالت: «أبعد ما تراني فيه من دلائل ال ... تغالطني وتطلب مني زيادة الإيضاح؟ اكتف بما تراه من اضطرابي؛ فإنك أخذت كلمتي البسيطة وغاليت في قيمتها كأنك تقرأ أفكاري وهي تعبير عما يجول بخاطري. ولكنك ألبستها ثوبا قشيبا من عواطفك. ولا عجب فإنك مقيم في قلبي.»
فقال: «يا لنعيمي ويا لهنائي. مقيم في قلبك؟ حبذا المقام السماوي فماذا أقول يا دميانة وقد غلبتني على أمري وضيقت علي أبواب الكلام فأنا مقصر عنك في هذا البيان وأكتفي بعبارة بسيطة فأقول: إني أحبك حبا يكفي للتوفيق بين الملكية واليعاقبة ونزع ما بينهما من الضغائن أو التأليف بين الأقباط والمسلمين حتى يصيروا أمة واحدة.»
وأخذا يتشاكيان ويتكاشفان الهيام وهما يسيران والجواد يسير في أثرهما لا يسمعان لحوافره وقعا كأنه شعر باتقاد ذينك القلبين تهيبا من سلطان الحب وإكراما لذينك الحبيبين في ذلك المساء المقمر، وأما الحبيبان فكانا ينقلان الخطى وهما لا يعلمان إلى أين يسيران، ولو مشيا على تلك الحالة أياما لحسباها لحظات قليلة، فكانا في شاغل عن حفيف الورق وتنادي الفلاحين ونباح الكلاب وصهيل الخيل كأنهما في عالم آخر.
وفيما هما في هذه الغيبوبة المحببة رأيا شبحا مقبلا من جهة بيت مرقس، فقال سعيد: «أرى شبحا مقبلا أظنه رجلا هل ترينه؟ وهل تعرفينه؟»
Página desconocida