وأخذ الركب في النزول، وأتى بعض الخدم وأناخوا جمل دميانة وانزلوها عنه، فمشت وفرائصها ترتعد وقلبها يخفق خوفا، ووقفت مطرقة لا تدري ما تعمل فإذا بالرجل الترجمان أتى وقال لها: «تعالي معنا إلى المعبد لنتبرك بالكاهن ونستخير الآلهة على يده في قسمة الغنائم.» ثم قال بصوت ضعيف سمعته هي وحدها: «عسى أن تكوني من نصيب الأمير؛ فإنك أهل له.»
فوقعت كلماته في أذنيها وقوع الصاعقة، ولكنها أطرقت وجعلت تصلي في قلبها وتطلب إلى الله أن يشجعها ويأخذ بيدها؛ لتستطيع النجاة من هذه التجارب، وأحست بعد الصلاة أنها في حرز حريز لا خوف عليها، كأن جندا من الملائكة يحرسها.
أما بقية الركب فترجلوا وسار زعيمهم أمامهم إلى القبة بجانب الخيمة الكبرى. ولما اقتربوا منها فتح بابها وأطل منه كاهن بلباس مزخرف على رأسه شبه تاج من الريش وعلى كتفه شملة مطرزة وحول وسطه حزام من جلد مرصع بالزمرد والياقوت تحته قباء من القباطي الأبيض وبيده صولجان من خشب الأبنوس في أعلاه شبه فرس من الذهب وقد تصاعدت رائحة البخور. ولما أطل الكاهن على الناس سجدوا جميعا، وكانت دميانة وراءهم تجاريهم في سيرهم إلى جهة القبة. فلما رأتهم يسجدون وقفت وأبت أن تسجد معهم، ولم ينتبه لها الكاهن.
ثم دخلوا القبة وفي صدرها تمثال من نحاس - لعله مأخوذ من أصنام قدماء المصريين - أقاموه على دكة من الحجر، وزينوه بالحلي فاتجه الكاهن إليه وسجد له فسجدوا جميعا مؤتمين به، ثم تمتم قليلا وتمتموا ودميانة واقفة تستغفر لهذه المشاهد.
وبعد الفراغ من الصلاة أشار الكاهن إلى الوقوف فخرجوا جميعا، وخرجت دميانة ورفيقتها وهما مطرقتان حياء؛ لغرابة موقفهما من هؤلاء البدو. ثم تقدم الترجمان فاستوقفهما فوقفتا ووقف الكاهن بباب القبة ثم دخلها مستديرا وأقفلها وراءه وأشار القائد إلى دميانة وصاحبتها أن تبقيا واقفتين. وبعد قليل سمعتا جرسا في القبة ثم رأتا الباب وقد فتح وخرج الكاهن عاريا، وظهر الوشي على صدره وذراعيه، وقد تغيرت سحنته وجحظت عيناه فيخيل إلى الناظر أنه مجنون أو مصروع.
فأجفلت دميانة عند رؤيته وغطت وجهها بكفيها وكادت تصيح من الخجل. ثم سمعته يتكلم بصوت عال مختنق كأن شخصا آخر يتكلم في جوفه، وكانوا يعتقدون أن إلها يتكلم في داخله، ولما أتم كلامه أجابوه بكلمتين كأنهم يؤمنون على أقواله. ثم عاد إلى القبة وأشار القائد إلى الترجمان بأن يقول لدميانة ما يقوله الكاهن، فوجه كلامه إليها قائلا: «اعلمي يا جميلة أن الكاهن قد استخار الآلهة، فأشارت بأن تكوني من نساء أبي حرملة أميرنا الأكبر وهذا قائدنا يهنئك بهذه النعمة.» والتفت إلى علية وقال لها: «وأنت من نصيب هذا القائد الباسل.» وأشار إليه.
وكانت دميانة وهم يصلون لآلهتهم تصلي لربها وتتوسل إليه أن يشجعها ويقويها، فلما سمعت ما تلاه عليها الترجمان لم يجفلها وإن كان قد وقع عليها وقعا شديدا؛ فإن الإيمان الصحيح يقوي القلوب. وهو أكبر تعزية لبني الإنسان في الشدائد.
وبعد أن قال الترجمان ما قاله ذهب ثم عاد ومعه رجل نوبي. فلما وقع نظر دميانة عليه استخفت روحه واستأنست به؛ لأنه يشبه خادمها زكريا فتقدم وأشار إليها أن تتبعه إلى خيمة الأمير. وذهب الترجمان الآخر مع علية إلى خيمة القائد. ولم يكن الأمر عظيما على عليه ولا غريبا عنها؛ لأنها اعتادت البادية وأهلها. •••
مشت دميانة في أثر النوبي وهي تقدم رجلا وتؤخر أخرى وتستعين الله ومريم العذراء والقديسين على ما يصفون، وسمعها النوبي تستغيث بالعذراء فشعر بانعطاف إليها؛ لأنه ربي تربية نصرانية في بلاده، والنوبيون يومئذ كلهم مسيحيون. فتباطأ في مشيه حتى حاذاها وقال لها: «يظهر أنك نصرانية فهل أنت قبطية؟»
فلما سمعت استفهامه استبشرت وقالت: «نعم إني قبطية ووالدي من وجهاء القبط؟»
Página desconocida