أبطال الرواية
مراجع رواية أحمد بن طولون
دميانة
سعيد
مرقس وإسطفانوس
الصعود في النيل
بين سعيد وإسطفانوس
خطبة دميانة
موكب ابن طولون
فرار دميانة
صدقات ابن طولون
في دير أبي مقار
بين قبائل البجة
عند ملك النوبة
كشف السر
زواج الحبيبين
أبطال الرواية
مراجع رواية أحمد بن طولون
دميانة
سعيد
مرقس وإسطفانوس
الصعود في النيل
بين سعيد وإسطفانوس
خطبة دميانة
موكب ابن طولون
فرار دميانة
صدقات ابن طولون
في دير أبي مقار
بين قبائل البجة
عند ملك النوبة
كشف السر
زواج الحبيبين
أحمد بن طولون
أحمد بن طولون
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
أحمد بن طولون:
أمير مصر.
أبو الحسن البغدادي:
من الشيعة العلوية.
دميانة بنت مرقص:
من سراة الأقباط.
سعيد الفرغاني:
مهندس مسيحي.
أحمد المارداني:
متولي الخراج.
إسطفانوس بن يوحنا:
كاتب الخراج.
زكريا:
خادم دميانة.
البطريرك ميخائيل:
بطريرك الأقباط.
أبو حرمله:
أمير قبيلة البجة.
مراجع رواية أحمد بن طولون
هذه هي المراجع التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
تاريخ المقريزي.
الخريدة النفيسة.
تاريخ التمدن الإسلامي.
بتلر
Butler I .
دميانة
خرجت دميانة من منزل أبيها بقرية «طاء النمل» بمديرية الدقهلية - في أصيل يوم من أيام سنة 264 للهجرة، ومشت تسترق الخطى في البساتين، تلتمس كنيسة هناك بنيت لصلاة أهل تلك الناحية والقرى المجاورة. وكانت دميانة تذهب للصلاة فيها كل صباح - وخاصة أيام الآحاد والأعياد - لكنها أرادت الذهاب في ذلك الأصيل لتخلو بقسيسها وتسر إليه أمرا خالج ضميرها وأقلق راحتها، وهي ترى في الاعتراف راحة أو مشورة أو مؤاساة، ولو كانت أمها على قيد الحياة لاستغنت بالشكوى إليها عن مكاشفة القسيس. وأما أبوها مرقس فلم تكن ترتاح لمصارحته بما يجول في خاطرها؛ لاختلاف ما بين ميولهما وطباعهما؛ إذ كانت هي تقية ورعة تصلي كل صباح وكان لا يعبأ بالصلاة ولا يدخل الكنيسة إلا نادرا وكانت تكره الخمر في حين يتعاطاها هو مسرفا في المجون لا يهمه إلا متاع دنياه والتأنق في الطعام والشراب.
وكانت دميانة طفلة حين توفيت أمها. فلم يتزوج أبوها بعدها لا احتفاظا بعهد الزوجة الوفية ولا مراعاة لوحيدته؛ ولكنه رأى الزواج قيدا شاغلا فعمد إلى التسري واقتناء الجواري اقتداء بسراة المسلمين في ذلك العهد - عهد البذخ والترف والقصف شأن بعض الأقباط من أهل الثروة في ذلك الحين.
كان مرقس من ملاك الضياع وأهل الثروة، لا يشغله طلب الرزق عن شيء من ملاذ الحياة. فيقضى نهاره في الأكل والشرب بين الأصدقاء والخلان الذين هم على شاكلته، وكان العقلاء ينتقدونه ويقبحون عمله، ولا سيما الذين عاشروه منذ الصبا وعرفوا حداثة عهده بالثروة؛ لأنه نشأ متوسط الحال لا يزيد دخله على الكفاف، ثم جاءته الثروة فجأة فصادفت قلبا شرها ونفسا ضعيفة فاتجه وجهة المتاع الجسدي.
أما دميانة فربيت في حجر أمها حتى الثامنة من عمرها وأخذت عنها كثيرا من الفضائل؛ كالتقوى والصراحة في القول وصدق اللهجة والاتكال على الله والمحافظة على الصلاة اليومية، وماتت أمها فجأة وهي غائبة ولو شهدت نزعها لسمعت منها حديثا يهمها ذا شأن في مستقبل حياتها، فأصبحت وحيدة لا أنيس لها في تلك القرية؛ لأن أكثر سكانها من الفلاحين العاملين في أرض أبيها وهم تابعون للأرض ينتقلون معها من مالك إلى مالك، أو من متقبل إلى متقبل؛ على نحو ما كانت عليه الحال يومئذ في أكثر البلاد. ففي المملكة الرومانية بأوروبا كانت الأرض تنتقل من بارون إلى بارون وينتقل فلاحوها معها، ويسمونهم سيرف.
وهو ما يعبر عنه بالعربية بالقن؛ أي العبد المملوك بالوراثة، وجمعه أقنان.
فلم تكن ترتاح إلى معاشرة بنات الفلاحين، ولم تخرج في علاقتها بهن إلى أكثر من الإحسان والبشاشة، وكن يتقربن إليها بالهدايا والخدمة، غير أن ذلك لم يكن ليشبع ما في نفسها من الميل الغريزي إلى المصادفة والمكاشفة على عادة بنات المدن مع الصواحب أو الجارات أو ذوات القربى فكانت إذا طرأ عليها أمر يقتضي الترويح عن النفس انصرفت إلى الصلاة فتتعزى إلى حين.
أما في ذلك اليوم فشعرت بانقباض. وضاقت ذرعا بكتمان ما في نفسها وهي تحسبه مخالفا لشروط التقوى والتدين فقضت معظم النهار في التفكير منفردة في غرفتها، حتى إذا مالت الشمس إلى الأصيل لاح لها أن تبوح بسرها إلى الأب منقريوس قسيس القرية؛ وكانت تأنس به لطول عهده بخدمة الكنيسة ولكبر سنه. هذا إلى أن الاعتراف للقسيس قاعدة متبعة عندهم.
وخرجت دميانة تمشي في البساتين كأنها تتمتع بمناظر الطبيعة، وتنظر في الأغراس وصبيان الفلاحين وبناتهم يقفون احتراما لها أو يفرون خجلا منها. وبعضهم في شاغل عنها بثور يسوقه على مربطه أو حمار يحمل عليه قضبانا أو فاكهة إلى بيت مولاه. •••
مشت دميانة متظاهرة بأنها مهتمة بتلك المناظر، وهي في الحقيقة في شاغل عنها بما يتردد في ذهنها من الأمر الذي تهم بكشفه للأب منقريوس، فلم تكن تسمع غناء الغلمان وهم يحصدون الزرع ولا صياح الأدياك ولا رفرفة الأطيار التي تلتقط الحب. ولما دنت من الساقية الكبرى على ضفة النيل لم تنتبه لأنينها أو طقطقة أخشابها أو خوار ثورها والغلام يستحثه على الدوران.
وكانت دميانة في نحو العشرين من عمرها ربعة القامة سمراء اللون مع صفاء ونضرة، كبيرة العينين سوداء الحدقتين مع ذكاء ووداعة، صغيرة الأنف والفم، ممتلئة الشفتين، لها ميسم ينم عن صدق طويتها ورقة إحساسها وفي أذنيها قرطان من ذهب يمثلان أبا الهول وقد ضفرت شعرها الأسود ضفيرة واحدة أرسلتها على ظهرها وغطت رأسها بنقاب من الحرير - نسج دمشق - أهدته إليها أمها في طفولتها، وقد طرزت لها حواشيه ببعض الدعوات والآيات باللغة القبطية وارتدت ثوبا رقيقا من القاطي واسع الأردان التفت فوقه بمطرف من الخز مما كان يحمله تجار فارس إلى الفسطاط واحتذت نعلا من الجلد والخوص وفي عنقها قلادة من الذهب في وسطها صليب. •••
كانت المسافة بين المنزل والكنيسة نحو ميل، قطعت دميانة معظمه على ضفة النيل وعيناها تنتقلان بين الماء واليبس، فمرت بها قوارب تحمل تبنا أو حبوبا أو غير ذلك من الغلال - وهي لا تعيرها انتباها ولا تكاد تسمع صراخ ملاحيها أو نقر الريح على أشرعتها - ولكنها انتبهت فجأة على سفينة لم تشاهد في النيل مثلها ضخامة وإتقانا، بناء وزخرفة وكبر شراع. وكانت لما احتوت عليه من غرف ونوافذ كأنها بيت سابح فوق الماء يشبه ما يعرف اليوم (بالذهبيات)، فعلمت أن مثل هذه السفينة لا تخلو من أن تنقل بعض السراة، وربما كان فيها بعض أصدقاء أبيها وهي لا تحب أن يراها أحد منهم.
وكانت قد أشرفت على الكنيسة فأسرعت إليها تتوارى بين جذوع الشجر وأغصانها، حتى دنت من باب الكنيسة فاستترت وراء نخلة ضخمة عند الباب القديمة العهد والتفتت إلى النيل لتعيد نظرها في تلك (الذهبية) لعلها تعرف أصحابها، فتفرست في الراية المنصوبة في مقدمها فرأت عليها كتابة بالعربية وهي لا تقرأها؛ لأن أهل القرى كانوا إلى ذلك العهد لا يعرفون العربية؛ لقلة اختلاطهم بالعرب، ولأن المسلمين كانوا منذ الفتح يقيمون بمعزل عن أهل البلاد. إما بالفسطاط مقر رجال الدولة ومن يلحق بهم من الحاشية والأعوان وإما في أطراف البلاد بالمضارب والخيام ولم ينزلوا القرى إلا بعد قدوم المأمون إلى مصر في أوائل القرن الثالث للهجرة لإخماد ثورة نشبت بها، فأمر المسلمين بنزول القرى فابتنوا فيها القصور وحولوا بعض الكنائس إلى مساجد.
فلما رأت دميانة الراية علمت أنها لبعض رجال الدولة، أو بعض الخاصة، أو الجباة من القبط؛ قد خرجوا لجمع الخراج والجزية، ولولا علمها بمنزلة أبيها من صاحب الخراج لخافت أن يمسه ضر من أصحاب تلك السفينة. ولو كانت تقرأ العربية لقرأت على الراية اسم «أحمد المارداني» متولي الخراج وأحد ذوي النفوذ الكبير عند ابن طولون صاحب مصر.
وانتبهت لما جاءت من أجله فتوجهت نحو الكنيسة ودخلت بابها الغربي. •••
كان لتلك الكنيسة في أول أمرها بابان: أحدهما غربي والآخر شمالي. فلما نزل المسلمون القرى بعد قدوم المأمون واحتاجوا إلى أماكن للصلاة ابتنى بعضهم المساجد واغتصب آخرون بعض الكنائس وجعلها مساجد. أما قرية دميانة فنزلها رجل من الشيعة العلوية اسمه «أبو الحسن البغدادي» جاء من بغداد في حملة المأمون، ثم أحب المقام بمصر فاستأذنه في البقاء فيها فأذن له. وظل زمنا يقضي فروض الصلاة في منزله. وكان معتدلا منصفا فلم ير أن يسلب أهل تلك الناحية كنيستهم، فاتفق مع صاحب القرية وهي يومئذ مارية القبطية المشهورة على أن يقتطع من الكنيسة جانبا يتخذه مسجدا يصلي فيه كما فعل المسلمون بالجامع الأموي لما فتحوا دمشق فأذنت له. وقسم الكنيسة شطرين وأصبح الباب الشمالي خاصا بدخول المسلمين وليس منهم هناك إلا أبو الحسن البغدادي وحاشيته، وظل الباب الغربي مدخلا للنصارى.
دخلت دميانة من ذلك الباب ومشت في الدهليز باحترام وخشوع حتى أقبلت على واجهة الهيكل وعليها الأيقونات الملونة والأستار المصورة، فرسمت علامة الصليب وعرجت على أيقونة مريم العذراء في جهة اليمين وهي تمثل العذراء تحمل طفلها في شكل جميل، وقد جلبت هذه الصورة من القسطنطينية، فجثت دميانة أمامها وأخذت تصلي بحرارة وخشوع وتمثل لها الأمر الذي جاءت من أجله، فخفق قلبها تهيبا من الخوض فيه ولكنها تجلدت وأخذت تتضرع إلى العذراء أن تقويها وتسدد خطواتها ولمست وجه الصورة بأناملها ثم مسحت بها وجهها تبركا.
وفيما هي في ذلك سمعت تمتمة القسيس بالصلاة التي اعتاد إقامتها بالهيكل قبل الغروب في كل يوم - ويندر أن يحضرها أحد - وشمت رائحة البخور ورأت ضوء الشموع فازدادت خشوعا وتهيبا وهي وحدية في ذلك المكان المقدس ولم تر القسيس؛ لأن باب الهيكل مغطى بستارة من الديباج المزركش من صنع دار الطراز في تنيس.
ولما فكرت فيما قدمت من أجله أكبرته، وحدثتها نفسها بأن تعدل عن مكاشفة القسيس بسرها وهمت بالرجوع وإذا بالقسيس قد أزاح الستار ووقف بباب الهيكل وبيده الصليب والإنجيل وهو يتلو الصلاة، فلم تتمالك عن التقدم نحوه وإحناء رأسها تحت الكتاب، فقرأ فصلا من الإنجيل بالقبطية - على عادته - فتشددت ورجعت إلى عزمها على الاعتراف.
فلما فرغ القسيس من الصلاة مد يده إليها فقبلتها، وأحس القسيس ارتعاش أناملها. وكان الأب منقريوس شيخا طاعنا في السن، عرف دميانة منذ طفولتها إذ كان هو الذي عقد إكليل أمها وعمدها هي وكان عطوفا عليها طيب السريرة صادق التدين مع سذاجة وصفاء طوية. وقد اطلع على أسرار اعترف له بها أصحابها زادته حنوا على دميانة ورعاية لها.
وقسيس الشعب الذي يطلع على أسرار رعيته إذا كان صادق التدين طيب السريرة كان ميمون الطالع؛ لأنه يستخدم تلك المعرفة للتوفيق بين بنيه وإزالة ما يكدر صفوهم من سوء التفاهم أما إذا كان طماعا منافقا فإنه يكون شرا عظيما عليهم؛ لأنه يستخدم تلك الأسرار لسلب الأموال والتمتع بالسيادة وغيرها من مطالب العالم.
وكان الأب منقريوس شيخا جليلا قد ابيض شعره واسترسلت لحيته، لا مطمع له في شيء من حطام الدنيا، وإنما همه خدمة رعيته والتوفيق بينهم، فلما رأى دميانة على تلك الحال في ساعة لم يتعود أن يراها بالكنيسة فيها ابتدرها بالكلام ليجرئها فقال: «كيف أنت يا ابنتي؟»
فهمت بالكلام فسبقتها العبرات فأطرقت حياء ووجلا فقال: «ما بالك تبكين؟ إن من كان في مثل حالك من التقوى والإيمان بالسيد المسيح لا ينبغي له أن يحزن أو يخاف.»
فتشددت وقالت: «نعم يا سيدي صدقت وأنا قد جئت الآن لاعترف لك بأمر أتعبني وأقلق ضميري فهل تسمعه؟»
قال: «كيف لا؟ تعالي إلى كرسي الاعتراف.»
قال ذلك واتجه إلى كرسي بجانب الهيكل يقعد عليه لسماع أقوال المعترفين، وأشار بأن تقعد على كرسي بين يديه، وبعد أن تلا الصلوات أو الطقوس التي تتلى في مثل هذا الموقف قال لها: «قصي خبرك يا دميانة ولا تخافي؛ فإنك تخاطبين نفسك، ومهما يكن من خطورة سرك فإنه يبقى مكتوما لا يعلم به أحد كأنك تناجين الله في ضميرك.»
فأطرقت دميانة خجلا وقد بدا الاصفرار في وجهها وسكتت، فقال: «قولي يا ابنتي.»
فرفعت بصرها إليه وتناولت يده وقبلتها وبللتها بدموعها، فاجتذب يده منها وقال: «قولي يا دميانة لا تخافي يا ابنتي، ولا أظنك تقولين شيئا أجهله؛ لأننا معشر القسيسين لا يخفى علينا شيء من أسرار الرعية؛ وذلك بما وهبنا السيد المسيح من سر الاعتراف، وعلينا أن نستخدم هذه المعرفة في الإصلاح بين الناس وتخفيف متاعبهم، وأنت تعلمين أني بمنزلة أبيك وقد عرفتك طفلة وعرفت أمك من قبلك ، ولا تخفى علي خافية من أحوالك.»
فلما سمعت منه ذلك قالت: «تعرف ما في نفسي؟ كيف؟ قل - بحياة قدسك - قل ما تعلمه وخفف عني مشقة القول».
فتنحنح القسيس ومسح فمه ولحيته بمنديله وقال: «لا يا ولدي لا يجوز أن أبدأ بالقول ولكنني قلت لك ذلك؛ لأيسر عليك التصريح.»
فقالت: «أتعرف جارنا أبا الحسن البغدادي نزيل هذه القرية؟»
قال: «كيف لا أعرفه؟ أليس هو صاحب القصر الذي بجانب قصر أبيك؟»
قالت: «نعم وإنه - والحق يقال - لعلى خلق عظيم وأراه يحب القبط ويلاطفهم ويحاسنهم، خلافا لسواد أهل الدولة».
فلم ير القسيس رابطة بين ما سمعه وما كان يتوقع أن يسمعه، ولكنه ظنها تندرج في الحديث فقال: «أراك تحسبين اضطهاد أهل الإسلام للأقباط قاعدة من قواعد حكومتهم، والواقع أن ذلك يختلف باختلاف الرجال؛ فقد كان المسلمون في أوائل دولتهم بمصر أكثر الناس رعاية لنا ورفقا بنا واحتراما لعاداتنا وطقوسنا، وتخلل ذلك اضطهادات نأى الحق في بعضها بجانبه عنا لطمع كبارنا في أموال الدولة والإمساك عن دفع الخراج أو الجزية، ومن ذلك ما وقع في العام الذي جاء فيه المأمون إلى مصر وعاقبنا أشد العقاب مما لا محل لتفصيله الآن، أما أبو الحسن فرجل عاقل معتدل، عرفت اعتداله من تساهله في معاشرتنا واقتناعه بجزء من هذه الكنيسة لصلاته، وقد رأينا غيره يحولون الكنائس على جوامع.
وهناك سبب آخر لتقربه منا لا أظنك تعرفينه، وهو أن أبا الحسن هذا ينتمي إلى طائفة من المسلمين يقال لها الشيعة، يضطهدها رجال الدولة؛ لأنها تخالف مذهب الخليفة وأمرائه. كما كان حالنا قبل الإسلام إذ انقسمت الكنيسة إلى ملكية ويعقوبية، وكانت دولة الروم تنصر الملكية؛ لأنهم على مذهبها وتضطهد اليعاقبة، حتى تمنى هؤلاء خروج هذه البلاد من حوزتها، وقد حصل. ألا تذكرين يوم جاء أمر المتوكل خليفة بغداد إلى قبط مصر منذ بضع عشرة سنة؟ أظنك لا تذكرين ذلك؛ إذ كنت طفلة.
إنه بعث إلى عامله بمصر أن اهدم الكنائس المستحدثة بعد الإسلام، ونهى عن الاستعانة بالنصارى في الأعمال أو أن يظهروا الصلبان في شمانينهم. وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب وأن يلبسوا الطيالسة العسلية ويشدوا الزنار ويركبوا السروج على بكر الخشب بكرتين في مؤخرة السرج، وأن يرقعوا لباس رجالهم برقعتين تخالفان لون الثوب قدر كل واحدة أربع أصابع ولون الواحدة غير لون الأخرى، وأن تخرج كل من نساؤهم لابسة إزارا عسليا. وحرم عليهم لبس المناطق وغير ذلك مما بقي معمولا به حتى تولى ابن طولون فأبطله.»
وسكت قليلا ثم استأنف الكلام فقال: «وقد أصاب الشيعة في ذلك الوقت من الاضطهاد مثل ما أصابنا، فإن ابن الخليفة - الذي نحن بصدده - كتب إلى عامله بمصر ألا يقتني علوي ضيعة ولا يركب فرسا ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ أكثر من عبد واحد ومن كان منهم له خصومة قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة.» «ومن طبيعة الأشياء يا ابنتي أن الذين يقاسون الذل معا يتآلفون ويتحابون ولو بعدت أصولهم وتباينت مذاهبهم.» •••
كان القسيس يتكلم ودميانة تنظر كمن يصغي وذهنها يعمل في تهيئة عبارة تبدأ بها شكواها أو تبث بها غرامها فلما فرغ من كلامه قالت: «وسعيد المهندس ضيف أبي الحسن، أو ابنه أو مولاه هل تعرفه؟»
فنظر القسيس إليها خلسة فوجد سحنتها قد تغيرت ولونها امتقع وأبرقت عيناها. فأدرك أن ظنه لم يكن مخطئا، فأراد أن يشجعها على التصريح فقال: «وأنت ألا تعرفينه يا دميانة؟»
فلما سمعت سؤاله نزلت عن الكرسي وجثت بين يديه وأخذت تبكي وتهم بالكلام فيمنعها البكاء، فصبر حتى هدأ روعها وقال: «أظنك تحبينه. إنه شاب حميد الخصال بارع ماهر.»
فتنهدت دميانة ومسحت دموعها وقالت: «نعم يا أبتي إني أحبه. وهذا هو الأمر الذي جئت للاعتراف به وأستغفر لذنبي. لقد أحببته عفوا ومحض اتفاق يا سيدي وأنا لم أكلمه بعد وإنما كنت أراه داخلا إلى منزله أو خارجا منه وربما حياني بكلمة أو إشارة لا تتجاوز الكلمة وجوابها. ولكنني كنت أسمع بخصاله ومناقبه ومهارته في الهندسة. ولم يتفق لي أن اجتمعت به في مكان؛ لأن أبي يحجبنا عن أبي الحسن كما يحجب هذا نساءه عن رجالنا وحسنا فعل؛ فإن في ذلك دفعا للشر. وكثيرا ما حاولت البعد وغض الطرف لعلي أنسى فلم أقدر.» قالت ذلك وعادت إلى البكاء.
فقال القسيس: «أتبكين لأنك أحببت سعيدا؟ وهل الحب محرم؟»
قالت: «إنما أبكي لأني أحببت رجلا لا سبيل إليه، فإني وإن كنت لم أسع إلى حبه أحسبني أخطأت خطيئة كبيرة؛ لأني أحببته وهو مسلم.»
ففهم القسيس سر اضطرابها، فأنهضها وأجلسها على الكرسي بجانبه وهو يبتسم. فلما رأته يبتسم خف اضطرابها ولبثت تنتظر ما يقوله. فقال: «وما الذي جعلك تحسبينه مسلما؟»
قالت: «لأن اسمه سعيد ولم أعرف أحدا سمي بهذا من غير المسلمين، وقد سمعت أنه يلقب بالفرغاني، وهذا أيضا من ألقاب المسلمين وزد على ذلك أني لم أره في الكنيسة ورأيته مقيما مع أبي الحسن كأحد أولاده.»
قال: «أما اسمه فإن أبا الحسن سماه به، وليس ما يمنع تسميته سعيدا. وكذلك اللقب فإنه لقب به نسبة إلى أحد أساتذته المسلمين الذين أخذ الهندسة والرياضيات عنهم في بغداد مدينة العلم؛ لأنه سافر إليها مع أبي الحسن وتلقى العلم فيها. وقد يكون نسبة إلى قرية مصرية اسمها فرغانة. وأما الصلاة في ا لكنيسة فإنه لم يتخلف عنها إلا أثناء غيابه عن القرية في عمل أو سفر، ولعله كان يأتي متأخرا فلا ترينه».
قالت والدهشة بادية في محياها: «أليس سعيد مسلما؟»
قال: «كلا يا ابنتي إنه مسيحي مثلك.»
فلما سمعت قوله وثبت من مجلسها وحملقت في القسيس وقالت: «مسيحي؟ نصراني مثلنا؟» قال: «نعم مسيحي يا ابنتي؟»
قالت: «هل أنت على يقين من ذلك؟»
قال: «لا ريب عندي في ذلك وقد جلس على هذا الكرسي واعترف لي مرارا.»
قالت: «جلس على كرسي الاعتراف؟ واعترف لك؟ أطلعك على مكنونات قلبه؟ آه هل اعترف لك بأنه؟»
وهمت بأن تسأله إذا كان قد اعترف بحبه لها، ثم أمسكت خجلا، وعلمت أن سؤالها يخالف أصول الاعتراف، فأطرقت وسكتت.
فقال : «يكفي أنك عرفت أنه مسيحي.»
فتنهدت وقالت: «نعم يكفي.» ثم رفعت رأسها إلى السماء وقال: «أشكر الله على ذلك.» وغلب عليها الفرح حتى ضحكت والدمع يقطر من عينيها وهي تردد قولها: «مسيحي؟ سعيد مسيحي؟» ثم انتبهت إلى أن مسيحيته لا تكفي وحده ليطمئن قلبها فسكتت وجعلت تتشاغل بمسح عينيها وإصلاح نقابها، ثم قالت: «وهل يعد حبي له خطيئة يا أبانا؟»
فأجاب القسيس: «إن الحب الطاهر يا دميانة ليس خطيئة بل هو من الفضائل التي يثاب الناس عليها، ونظرا لما أعلمه من تقواك وتعقلك لا أخاف تورطك وخروجك عن الحدود التي وضعتها الكنيسة.»
فقالت: «معاذ الله أن أفعل ما يخالف تعاليم الكنيسة ولكن هل تظن أبي ...» ومنعها الحياء عن تتمة الكلام.
فأدرك أنها تسأل هل أبوها يمانع في زواجها منه فقال: «إن أباك صعب المراس ولا أدري هل يرضى به بعلا لك أم لا.»
فقالت: «إذا كنت أنت مكان أبي هل ترى سعيدا كفئا لي؟»
قال: «نعم؛ فإنه من خيار الشبان تعقلا وذكاء ومهارة، ولاسيما الآن، فإنه قد أحرز ثقة صاحب مصر أحمد بن طولون لمهارته في فن الهندسة فآثره على جميع مهندسي مصر. وأظنك تعلمين السبب.»
قالت: «كلا ما هو؟»
قال: «لما أفضت حكومة مصر إلى ابن طولون هذا وهو تركي الأصل وجنده أتراك كان عرف الفسطاط (قصبة المسلمين بمصر) لا يقبلونه إذ يرون أنهم أصحاب الدولة وفيهم ظهر النبي صاحب الشريعة الإسلامية، وكانوا في أول الإسلام يعدون الأتراك والفرس ومن إليهم من الأمم أقل منهم ويسمونهم الموالي. فلما تغلب العنصر التركي في بغداد على أيام المعتصم انحط شأن العرب وخرجت مقاليد الدولة من أيديهم وتولاها الأتراك والفرس وغيرهم وصار العرب ينظرون إلى هؤلاء بعين البغض والحسد ولم يعد ابن طولون يأمن القيام بينهم، فعزم على أن يبني لنفسه بلدا يجعله معقلا له ولجنده، فابتنى بين الفسطاط والمقطم قطائع أنزل فيها رجاله وبنى بها قصرا له فأعوزه الماء؛ لأن القطائع بعيدة عن النيل ومرتفعة عنه، فأراد أن يجري الماء إليها فلم يجد من يستطيع ذلك سوى سعيد فإنه تعهد له بجره وقد وضع له رسما هندسيا لم يستطعه سواه، وباشر العمل وأظنه فرغ منه الآن وجرى الماء إلى القطائع، فإذا رأى العمل متقنا كافأ سعيدا مكافأة يحسده عليها كثيرون.»
فسرت سرور المحب بما يناله حبيبه من التقدم، ثم انقبضت نفسها مخافة أن يحول ذلك الرقي دون مرادها وهي لم تعلم رأيه فيها بعد وإن كان قلبها يدلها على الحب المتبادل، فأصبحت في شوق إلى مقابلته لترى ما يبدو منه ولا تعرف وسيلة للاجتماع به؛ لأنه كان يقضي معظم أيامه في الفسطاط والقطائع.
وانتهت من الاعتراف فوقف القسيس ورفع يده على رأسها وباركها وصلى ودعا لها، فقبلت يده والصليب الذي يحمله وخرجت، وانصرف هو إلى غرفة يقطنها ملاصقة للكنيسة. ولم يعرض عليها أن يوصلها إلى بيت أبيها وقد أمسى المساء؛ لعلمه أنها لا تخرج إلا وخادمها العم زكريا معها، ولم يدر أنها أتت وحدها خلسة في ذلك اليوم.
سعيد
خرجت دميانة من الكنيسة وقد غربت الشمس وأخذت الظلال تتكاثف، ولكن القمر كان في ربعه الأول. فظلت بضع دقائق تتردد ثم مضت تخطو بغير انتباه حتى تجاوزت النخلة وأطلت على البساتين. وأشرفت على النيل وقد أكمد لون مائه من غيوم الجو فوقه لكن سطحه ازداد لمعانا لانكسار ضوء القمر على وجهه المتجعد كأن الزمان أثر فيه فتكمش مثل تكمش وجوه الشيوخ، فسارت وحدها وهي تستغيث بصاحب الكنيسة وحامية تلك الناحية؛ كي لا يراها أحد حتى تدخل غرفتها.
وفيما هي كذلك سمعت وقع حوافر جواد ألفت سماع مثله مارا بجانب منزل أبيها، وسمعت صهيل الجواد فخفق قلبها وأدركت أنه جواد سعيد، وأنها ستلتقي به وحده في الليل هناك وليس لها عهد بمثل هذه الحرية، ولا سبق لها أن كلمت سعيدا بغير التحية أمام والدها، وكانت منفعلة مما قالته وسمعته على كرسي الاعتراف، فوقعت في حيرة؛ لا تدري: أتتوارى من الطريق حتى لا يراها أم تقف له وتتحين الفرصة لمعرفة ما في قلبه، وكلا الأمرين شاق.
وكان هو قد بلغ موضعها، وما كاد يقع بصره عليها حتى عرفها، فترجل مسرعا، وتقدم وهو ممسك لجام جواده بيساره، ووقف بين يدي دميانة وقفة الإجلال وعليه لباس السفر، وعلى رأسه الكوفية والعقال بدل القلنسوة أو العمامة، وقد التف بعباءة من الحرير فوق القباء والسراويل، وكان أسمر بيضي الوجه عسلي العينين - مع وداعة وذكاء - قصير الحاجبين صغير الفم، خفيف الشاربين واللحية تلوح الصحة في محياه، ويتدفق الذكاء والحدة من عينيه. وكان وقوفه مواجها للقمر، فظهرت تلك الملامح ظهورا واضحا وزادها ضوء القمر هيبة.
أما هي فكان الضوء واقعا على جانب رأسها فاكتسب وجهها رونقا من تكسر الأشعة واختلاف كثافتها على تقاطيعه، وكانت عيناها قد ذبلتا من البكاء بين يدي القسيس، فازدادتا ذبولا عند رؤية سعيد لما جاش في نفسها وما ينازعها من عوامل الدهشة والرجاء والخوف. فوقفت لا تتحرك، ولكنك لو جسست يديها أو سمعت حركة قلبها لظننتها بطارية كهربائية عليها مرجل يغلي ماؤه، ويتدفق بخاره لما يبدو لك من ارتعاش أناملها وخفوق قلبها واصطكاك ركبتيها.
فتقدم إليها باحترام، وقال: «هل تأذن سيدتي دميانة في أن أكلمها؟»
فلم تجب بلسانها، وإنما أجابت بعينيها ولم تحركهما، فقال: «أراك وحدك هنا ولعل خادمك أبطأ عليك، فهل تأذنين لي أن أماشيك إلى المنزل أو إلى أن يأتي الخادم؟»
فأطرقت وهي تصلح طرف نقابها، وقالت بصوت تخامره بحة: «أشكرك يا سيدي، وأخشى أن يكون في ذلك تعب عليك.»
قال: «كلا، وإذا خفت التعب لطول الطريق فاركبي هذا الفرس وأنا أقوده، ولا بأس عليك منه.»
فقالت وقد استأنست بتلطفه واستدلت منه على أنه يضمر مثلما تضمر: «لقد بالغت في التلطف يا سيدي بل يكفيني حظا أن أمشي إلى جانبك فأكون في ظلك، لا أخشى بأسا، ولا أخاف تعبا.»
قالت ذلك وهي تكاد تشرق بريقها من شدة الاضطراب، وسارت تتعثر بثوبها وركبتاها ترتعدان.
فماشاها سعيد يقود جواده وقد رأى المقام ذا سعة ليشكو لها ما يكنه فؤاده فقال: «إني أسير معك ولكنني في الواقع في حماك يا سيدتي؛ فإنك صاحبة هذه الأرض ومالكة رقاب أهلها وقلوبهم.»
فالتفتت إليه وقالت: «لا تقل يا سيدتي.»
فقال: «وماذا أقول إذن؟». قالت: «قل يا دميانة وكفى.»
فتهلل وجهه فرحا وقال: «هل تأذنين في ذلك هل تأذنين أن أدعوك باسمك فقط؟»
قالت: «علي أن أدعوك أنا سعيدا فقط.»
قال: «أنت صاحبة الإذن والفضل للمتقدم فقط سمحت بأن أكون في خدمتك هذا المساء أثناء الطريق ويا لها من خدمة قصيرة الأمد فهل لي أن أطمع في امتدادها؟»
فنظرت إليه وقالت: «لا تقل خدمة فإنما هي أنس المرافقة.»
فقال: «وهل تأذنين أن تطول يا دميانة؟» وأدركت من بحة صوته المعني الذي أراده، فأخذ الهيام منها مأخذا عظيما، وسرها أن يسأل هذا السؤال. فنظرت إلى وجهه على ضوء القمر وعيناها شاخصتان إليه، وقالت وصوتها يرتجف: «طول الحياة.» وغلب عليها الحياء وتوردت وجنتاها وأطرقت. فلما أبطأ بالجواب خافت أن تكون قد تسرعت فتباطأت في المسير فطاوعها سعيد وقال: «قد تستغربين سكوتي يا دميانة بعد أن قلدت عنقي بعقد كلامك الحلو الشهي. وإنما سكت من الدهشة والإكبار فقد شعرت بالانتقال فجأة من مصاف الضائعين إلى مراتب أهل السعادة، إن دميانة كتاب كبير مجلد ضخم، بل هي وحي سماوي نزل على قلبي فأناره فأراني مستقبلا مجيدا لم أكن أحلم به؛ لأنه فوق ما كنت أطمع فيه. إن دميانة روح حلت في ميت آمالي فبعثته. ولقد طالما مررت بي أحلام الصبا يا دميانة وحدثتني نفسي بضروب من السعادة مما يخطر في أذهان الأحداث ويندر أن ينالوا عشر معشارها، فلم يخطر ببالي سعادة كالسعادة التي اكتنفتني عند سماع هذه الكلمة الثمينة، إنها أبلغ ما نطق به الشعراء وأسمى ما خطر على بال بشر. طول الحياة! أطال الله حياتك يا دميانة حتى تطول أسباب سعادتي.»
ثم وقف وقد انتبه لتسرعه في تفسير قولها، والتفت إليها، وهي تنظر إليه وقد حدقت بصرها في وجهه كأنها تهم بأن تحتضنه بأجفانها، فأحس بسهم أصاب قلبه وأنه غلب على أمره فقال: «أخشى يا دميانة أن أكون قد تسرعت في فهم مرادك هل تعنين ما فهمته؟ أم غلب علي الوهم ففهمت ما أتمناه؟»
فتنهدت تنهدا عميقا وقالت: «أبعد ما تراني فيه من دلائل ال ... تغالطني وتطلب مني زيادة الإيضاح؟ اكتف بما تراه من اضطرابي؛ فإنك أخذت كلمتي البسيطة وغاليت في قيمتها كأنك تقرأ أفكاري وهي تعبير عما يجول بخاطري. ولكنك ألبستها ثوبا قشيبا من عواطفك. ولا عجب فإنك مقيم في قلبي.»
فقال: «يا لنعيمي ويا لهنائي. مقيم في قلبك؟ حبذا المقام السماوي فماذا أقول يا دميانة وقد غلبتني على أمري وضيقت علي أبواب الكلام فأنا مقصر عنك في هذا البيان وأكتفي بعبارة بسيطة فأقول: إني أحبك حبا يكفي للتوفيق بين الملكية واليعاقبة ونزع ما بينهما من الضغائن أو التأليف بين الأقباط والمسلمين حتى يصيروا أمة واحدة.»
وأخذا يتشاكيان ويتكاشفان الهيام وهما يسيران والجواد يسير في أثرهما لا يسمعان لحوافره وقعا كأنه شعر باتقاد ذينك القلبين تهيبا من سلطان الحب وإكراما لذينك الحبيبين في ذلك المساء المقمر، وأما الحبيبان فكانا ينقلان الخطى وهما لا يعلمان إلى أين يسيران، ولو مشيا على تلك الحالة أياما لحسباها لحظات قليلة، فكانا في شاغل عن حفيف الورق وتنادي الفلاحين ونباح الكلاب وصهيل الخيل كأنهما في عالم آخر.
وفيما هما في هذه الغيبوبة المحببة رأيا شبحا مقبلا من جهة بيت مرقس، فقال سعيد: «أرى شبحا مقبلا أظنه رجلا هل ترينه؟ وهل تعرفينه؟»
فالتفتت وتفرست فيه ثم قالت: «إنه خادمي العم زكريا وأظن أبي استبطأني فبعث به يستعجلني.»
فقال: «إن هذا العم سيأخذك مني أو بالحري سيفصل بيننا.»
فقطعت كلامه قائلة: «مؤقتا إن شاء الله.»
فردد قولها: «مؤقتا إن شاء الله» مرارا، ثم جذب اللجام حتى اقترب الجواد منه وقال وهو يحك جبهة الجواد: «أنت ذاهبة الآن إلى بيت أبيك، وستلهين عني بالخدم والجواري وبالأصدقاء، وأما أنا فلا أنيس لي إلا خيالك.»
فقالت: «لا يشغلني عنك شاغل بعد ما دار بيننا.» وكأنها أرادت إتمام الحديث فمنعها الحياء فقاطعها قائلا: «لن يطول الفراق - إن شاء الله.»
قالت: «ذلك إليك و...»
قال: «أنا ذاهب في الغد إلى الفسطاط؛ لأرى ما يأمر به أميرنا ابن طولون بعد أن أنهيت بناء العين وجر المياه وسبعين يوما يحتفل فيه بجرها فأنال المكافأة، وأرجو أن تسرك، وعند ذلك أتقدم إلى الأمر الذي جرأتني عليه بصادق فضلك. فأستودعك الله الآن.»
ومد يده إليها فمدت يدها فصافحها وضغط أناملها فأجابته بمثل ذلك وأومأت إلى القمر وهي تنظر في عينيه ولم تقل شيئا ففهم مرادها وقال: «وأنا أستشهد هذا الكوكب السيار على عهدنا.»
والتفت فرأى العم زكريا يتباطأ في مشيته عمدا كأنه علم بما بينهما فلم يشأ أن يفصل بينهما، فلما رآهما يتصافحان تقدم إليهما وحياهما هادئا رزينا.
وكان زكريا كهلا أجرودا أصله خصي أسود، نشأ في صباه عند ملك النوبة، ثم تنقل من يد إلى يد حتى وهب لدميانة ليلة ولادتها على أن يكون في خدمتها إلى آخر حياته، وقد أخلص لها الخدمة. وهؤلاء الخصيان إذا صدقوا في حبهم كانوا أقرب مودة لأسيادهم من الإخوة أو الوالدين، وكانت دميانة تأنس بزكريا وتكرمه وتناديه: «يا عماه.» وكان يعرف سعيدا معرفة جيدة ولم يفته ما يكنه لدميانة ولا ما في قلب دميانة له مع أنها لم تذكر له شيئا من ذلك. وكان يرى بينهما تناسبا، ويتمنى أن يتم زواجهما. فلما التقى بهما في تلك الخلوة بادرها قائلا: «لقد شغلنا عليك يا مولاتي لغيابك ولو علمت أنك التقيت بمولانا المهندس لما تحملت مشقة السعي إليك ولكن سيدي والدك استبطأك فأمر بتعجيل مجيئك.»
قالت: «نعم أبطأت فقد شعرت بحاجة إلى الصلاة والاعتراف فجئت إلى الكنيسة وطال وقوفي أمام صورة سيدتنا فغابت الشمس قبل خروجي واتفق مرور جارنا الشهم فترجل عن فرسه ومشي معي.»
فابتدرها زكريا قائلا: «فوجب علينا شكره على هذه الأريحية.»
والتفت إلى سعيد وقال: «أشكرك على تحملك هذه المشقة، فإذا شئت فاركب فرسك إلى منزلك وأنا أمشي في خدمة مولاتي إلى البيت، فإننا على مقربة منه.»
فنظرت دميانة فإذا هي بجانب بيت أبيها، ولم تكن تحسب أنها على مثل هذا القرب منه، فبغتت، وجعلت تصلح من شأنها وتهدئ روعها؛ لئلا يبدو حالها لأبيها. أما سعيد فودعها وربك فرسه وتحول إلى منزل أبي الحسن، وما زال يلتفت نحوها ويشير مودعا حتى توارت عن بصره. •••
مشت دميانة خطوات قليلة حتى رأت الأنوار في حديقة بيت أبيها، ووقع نظرها على ضفة النيل التي تليه، فرأت أنوارا عديدة لم تعهد مثلها هناك، فقالت: «ما هذه الأضواء التي أراها في النيل؟»
قال: «هذه سفينة المارداني صاحب الخراج وأهلها أضياف عندكم.»
فتذكرت أنها رأتها تجري في الماء أصيل ذلك اليوم فقالت: «ما لنا وللمارداني لا أذكر أنه يزورنا ولا أعرف وجهه، فما الذي أتى به اليوم؟»
قال: «إن السفينة للمارداني ولكنه هو لم يأت فيها.»
قالت: «من أتى بها إذن.» قال: «إسطفانوس ابن المعلم يوحنا كاتب المارداني، وهو صديق سيدي والدك، وقد جاء في هذه السفينة الفخمة مبالغة في الأبهة.»
فلما سمعت اسم إسطفانوس امتقع لونها ووقفت وقد جمد الدم في عروقها. ولم يجهل زكريا سبب المفاجأة، ولكنه تجاهل وقال: «هيا بنا يا سيدتي؛ فقد طال بأبيك انتظار قدومك.»
قالت: «طال انتظاره بقدومي؟ وهل يهمه أمري؟ وعنده من السراري والجواري ما يشغله عن هذه اليتيمة المسكينة التي فقدت سعادتها بفقد والدتها - رحمك الله يا أماه.» قال ذلك وحرقت أسنانها ثم قالت: «ما غرض هذا الشاب الجاهل من الزيارة يا ترى؟ أظنه جاء لمعاقرة الخمر مع أبي وليمضيا الوقت في المجون والخلاعة على جاري العادة.»
فتأثر زكريا مما شاهده من المها فأراد تشجيعها فقال: «وما الذي يهمك من ذلك يا مولاتي؟»
قالت: «كيف لا يهمني أمر والدي يا عماه؟ ألا يهمني أن يكون من معاقري الخمر وأهل المجون؟ هل رأيته ذاهبا إلى الكنيسة يوما ما؟ أم هل سمعته يصلي؟ وما الذي أبقاه لآخرته وأنت تراه يقضي أوقاته في الخلاعة والمجون وهو الذي لا يصاحب إلا من كان على شاكلته، وما قولك في رجل يتخذ إسطفانوس هذا صديقا له ينفق أمواله عليه؟»
فأجابها على الفور: «ألا تعلمين لماذا يصاحبه ويكرمه؟ وهل يخفى عليك أن سيدي والدك صاحب ضياع وأموال يلحقها من الخراج الكثير، وهذا الشاب ابن كاتب الخراج وله دالة على المارداني، فيخدم أباك في تخفيف وطأة الخراج وقد مضت عدة أعوام لم يؤد أبوك من الخراج شيئا.»
قالت: «بئس الاقتصاد هذا، أراه ينفق عليه في المآدب والولائم والهدايا فوق ما يقتصده من الخراج، ثم إن الخراج حق للدولة لا ينبغي إمساكه عنها كأننا نسرقها. إن أهل الذمة والضمير لا يقبلون ذلك.»
وكان زكريا يمشي بين يديها وهما يسيران الهويناء لإتمام الحديث قبل الوصول إلى المنزل، فأعجب بتعقلها وصدق نظرها؛ لأنه سمع منها قولا لم يسمعه إلا من كبار الرجال المتفانين في نصرة الحق والعدل، ثم تذكر تقواها وتدينها فأدرك حفظها قول المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وفكر في أمرها وما يهمها من أمر أبيها فاستوقفها وقال:
إن الذي يهمك من هذه الشكوى أمران: الأول أنك تخافين أن يبذر أمواله فيضيع حقك في الإرث و...
فقطعت كلامه قائلة: «إن المال لا يهمني كثيرا ولكن لدي أمرا آخر أهم منه.»
فقال: «لو صبرت لأتمم حديثي لاستغنيت عن هذا البيان. الأمر الثاني أنك تكرهين إسطفانوس وتكرهين عشرته وتخافين أن تئول صداقته لأبيك إلى تمكين عرى القرابة معه، فتعود العائدة عليك، وأنا أعلم أنك تبغضين هذا الشاب كما تبغضين جهنم.»
فسرها أن العم زكريا فهم مرادها، وعرف ما يكنه ضميرها وأحسن التعبير عن مقدار بغضها إسطفانوس. وفي الواقع أن أباها كان قد لمح لها مرة بأنه يحب أن يزوجها منه فلم تجبه على أنها لا ترى كل ذلك شيئا يستحق الذكر بالقياس إلى حرمانها من سعيد، ولاسيما بعد الذي سمعته في تلك الليلة. وهمت بأن تبوح بذلك لزكريا فمنعها الحياء. وكان زكريا يمشي بجانبها والمصباح بيده، فلما آنس منها الإطراق والسكوت والتفكير رفع المصباح إلى وجهها وتفرس فيه وهو يبتسم وقال: «وقد قرأت في وجهك شيئا آخر.» وتنحنح وسعل وصبر هنيهة ثم قال: «إن سعيدا رجل شهم، وهو وحده أهل لك.»
فلما سمعت منه هذا التصريح أسرع خفقان قلبها وتولاها الخجل ولم تجب فابتدرها هو قائلا: «وهذا الأمر - على خطورته - لا ينبغي أن يهمك كثيرا إنك ستنالين كل ما تريدين بإذن الله ونعمة يسوع المسيح (وكان العم زكريا نصرانيا مثل سائر أهل النوبة في ذلك العهد). ستنالين سعيدا، وسيذهب إسطفانوس هذا مخذولا، وستكونين صاحبة هذه الثروة وحدك متى شئت. إنما يجب علينا أن نتوخى التؤدة والحكمة والله المستعان.» قال ذلك وأمارات الجد بادية في صوته ولو استطاعت دميانة التفرس في وجهه لرأت في عينيه معاني لا يعبر عنها النطق، على أنها فهمت قوة عزمه من لحن صوته، كأنه يتكلم عن ثقة وسلطان، لكنها حملت قوله محمل الحماسة لها تخفيفا عنها؛ لأنه يحبها ويريد راحتها.
فقالت: «إني لا أفتر عن الصلاة والدعاء مساء وصباحا، وأتوسل إلى السيد المسيح أن يبعد عني هذه التجارب، وأرجو أن يصغي لطلبتي.» وقد سرها تصدي العم زكريا للأخذ بناصرها فزادت استئناسا به وارتكانا عليه، وهي تعتقد صدق ولائه وإخلاصه. ومشيا حتى اقتربا من الدار، ففتح لهما البواب فدخلا، فأطلا على حديقة أنيرت بمصابيح ملونة معلقة بأغصان الشجر. وقد مدت المائدة تحت شجرة كبيرة تدلت المصابيح من أغصانها كالعناقيد، وعلى المائدة الأقداح والأباريق فيها أصناف الخمر يتخللها أطباق الفاكهة والأطعمة وباقات الرياحين. فتحولت دميانة إلى غرفتها وظل زكريا في طريقه حتى أقبل على سيده وكان جالسا على وسادة عالية بجانب المائدة وبجانبه صديقه إسطفانوس وقد لعبت الخمر برأسيهما.
مرقس وإسطفانوس
كان مرقس كهلا متصابيا يؤلمه التفكير في كهولته وإذا بدا له أنه أشرف على الستين غالط نفسه وزعم أن أباه أخطأ في رصد عام ولادته. فكيف إذا سئل عن سنه إذن لاستشاط غضبا من قحة السائل! ومثله مثل كثيرين من كهول هذا الزمان الذين يشق عليهم أن يعرف الناس حقيقة أعمارهم، فإذا ظهرت سن أحدهم ظهورا لا سبيل إلى إنكاره ملكت قياده إذا قلت له : «يظهر أنك أصغر سنا من ذلك بكثير.» فيعد قولك تقريظا له فيثني عليك كأنك أطريت مناقبه فذكرت مآثره في المجتمع الإنساني أو تفوقه في العلم على أقرانه أو بلاءه في الدفاع عن وطنه!
هكذا كان شأن صاحبنا مرقس، وقد زاده تمسكا بظواهر الشباب انصرافه على إرضاء سراريه الكثيرات واكتساب إعجابهن، فكان لا يدخر وسعا في إخفاء علامات الكهولة، وأصبح منذ انصراف الشباب عنه، إذا ابيضت شعرة في شاربيه أو لحيته أو رأسه نزعها، فلما تكاثر الشيب عمد إلى الخضاب يسود به وجهه، فبدلا من أن يكون الشعر نظيفا كما خلقه الله يطليه بكلس اسود كما تطلى الجدران بالكلس الأبيض، أو يصبغه بالعقاقير كما تصبغ الجلود أو الأنسجة.
فهو يخدع نفسه لأنه يود أن يظهر من حاله غير ما هو عليه، ولكن خداعه لا يجوز على أكثر الناس. ولو أن واحدا من هؤلاء توسم فيك مداجاة أو خداعا لاحتقرك وتجنب عشرتك مع أنه يداجي الناس بخضابه فيريهم من أحواله غير الواقع ويوهمهم أنه شاب وهو كهل. وأنه أصغر سنا مما هو، فكأنه سئل عن عمره فكذب ومع أنهم يكرهون أنواع الرياء والكذب فإنهم يعدون الخضاب من قبيل المبالغة في إصلاح الهندام، ناسين أن النظافة أول شروط جمال الهندام.
وكان كل أمل مرقس أن يحتفظ بمظاهر الشباب بين يدي أهله؛ ولذلك كان إذا أحس بانحطاط في قواه الجسدية عمد إلى المنبهات، فشرب الخمر وأكثر في طعامه من اللحوم الطازجة والأفاويه، وتنشق العطور ولازم الراحة والخمول - وهما من بواعث السمن - فانتفخ وجهه وجحظت عيناه وغلظ عنقه وتعالى صدره وبطنه، فأصبح لقصر قامته إذا لبس السراويل والقباء يكاد يكون عرضه كطوله وتراه أكثر ما نراه ضاحكا طروبا كأن الطبيعة طوع إرادته لا يخاف مستقبلا ولا يرهب قدرا مخبئا، همه أن يتمتع بالحياة جهد طاقته فلا يروق له إلا مجلس المتهتكين المستهترين وينفر من أحاديث الجد بل هو لا يقوى على إعمال الفكر برهة ولا يلبث حتى يمل ويضيق صدره، فقد اعتاد أن ينأى بجانبه عن التعب بعد أن أتته الثروة فأغنته عن العمل.
ولرغبته في الشباب كان لا يصاحب الكهول؛ إذ يغلب فيهم الرزانة والبعد عن المجون والتهتك، فكان يعاشر الشبان ويقلدهم في حركاتهم وسكناتهم، فيجالسهم ويشاربهم ويؤاكلهم، وكان حديثه طليا فكها يتخلله كثير من النكات والمغامز اللطيفة، فإذا سمع نكتة ضحك لها وقهقه طويلا.
وكان إسطفانوس من بين عشرائه الشبان، وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وكان مرقس عشير أبيه من قبله. وكان هذا رجلا عاقلا وجيها اسمه المعلم حنا ترقى في مناصب الدولة حتى صار كاتبا للمارداني صاحب الخراج، ونال نفوذا كبيرا، وجمع ثروة حسنة، وقد أحسن كل عمل إلا تربية ابنه إسطفانوس، فلقد غلب ضعفه على عقله في أمره. أو لعل الذنب ليس ذنبه بل للفطرة؛ لأنك إذا تدبرت أحوال الناس في تربية أبنائهم قلما رأيت للتربية تأثيرا في ذلك، وما هي إلا كالصقل للمعدن تجلو ظاهره ولا تغير جوهره.
ومهما يكن السبب فقد شب إسطفانوس على الانهماك في اللذات والإخلاد إلى الرخاء ولم يكن مضطرا إلى العمل ولا فيه ميل إليه، فنشأ في عيش سهل لا هم له إلا أكله أو شرابه. وكان وحيدا لأبيه وله دالة عليه لا يطلب أمرا إلا ناله وعرف مرقس ذلك فازداد رغبة في تقريب إسطفانوس منه فضلا عن اتحاد الطباع وقد استفاد من عشرته إغضاء جباة الخراج عن تحصيل خراج أطيانه عدة أعوام.
وكان إسطفانوس يتقرب من مرقس لثروته، وقد عرف دميانة من صغرها فأحبها، وكان جميل الطلعة معجبا بشبابه، وعنده أن الإنسان إنما تقاس منزلته برواء طلعته. وقد يصح هذا الزعم في النظرة الأولى وربما تعداها إلى ما بعدها؛ فإنك ترى أكثر الناس يأخذون الأمور بظواهرها فيبنون أحكام سيرتهم ومعايشهم على وسامة الشكل فيخلف ظنهم الرجل الطرير. واعتبر ذلك في اختيار الأزواج فكم من فتى غره الطرف الكحيل والخد الأسيل والقد الرشيق، وكم من فتاة خدعها جمال الطلعة وفخامة المظهر وقد يكون وراء ذلك ما يبكي العيون ويدمي القلوب.
ولم يخل عصر من شبان يعولون في الزواج على جمالهم فقط. وكان إسطفانوس من هؤلاء، وقد طمع في دميانة لجمالها ومالها، وخيل إليه أن أمرها بيد أبيها فجعل يتزلف إليه بإسدائه الخدمات أو بإطراء ذكائه وطلاوة حديثه، ويأتيه من مواضع الضعف فيه فينوه بما في وجهه من نضارة الشباب حتى لتكاد تظنه ابن ثلاثين، وكان من الجهة الأخرى يحسب رضا الفتاة أمرا مقضيا؛ إن لم يكن لجاه أبيه أو تبعا لرأي أبيها فلجماله، فكان إذا زارهم أصلح من شأنه وتطيب ولبس أحسن ثيابه وأثمنها، وكانت دميانة تنفر من تأنقه ومن تطيبه وتعدهما تخنثا أو خلاعة؛ ولاسيما بعد أن عرفته من المدمنين للخمر ولكنها لم تكن تظهر شعورها وتكتفي بتجنب مجلسه، فتدخل غرفتها تصلي أو تقرأ أو تجالس بعض جواري القصر ممن ربينها منذ صغرها. •••
لما أطل زكريا على مرقس وإسطفانوس وهما على المائدة قال له مرقس: «أين كانت دميانة، وما الذي عاقها؟»
فقال: «كانت في الكنيسة تصلي وتعترف وقد عادت.»
قال: ادعها لتتناول شيئا من الفاكهة.»
فأشار مطيعا وذهب إليها فرآها واقفة أمام المرآة الفضية تبدل ثيابها وتتأهب للرقاد، فقال: «إن سيدي يدعوك إليه.»
قالت: «قل له إني ذهبت إلى الفراش.»
قال: «لا يصدقني لأنه رآك داخلة، ولا أرى بأسا من جلوسك هنيهة معه ثم تعتذرين بالنعاس وتذهبين.»
فأطاعت والتفت بمطرفها وخرجت إلى الحديقة فاستقبلها أبوها ضاحكا مازحا وقال: «لقد طال غيابك في الكنيسة يا دميانة ألا تشبعين من الصلاة؟»
قالت وهي تجلس على وسادة في طرف البساط المفروش هناك: «إن الصلاة لذيذة يا أبي.» قالت ذلك وابتسمت.
فقال: «إذن ستفرحين كثيرا إذا عرفت أننا ذاهبون غدا إلى شبرا لحضور الاحتفال بعيد الشهيد.» وضحك.
فأطرقت وقد علمت من غنة صوته أنه يعبث بها ويعرض بإكثارها من الصلاة، ولما رأت ضحكه قالت: «إن عيد الشهيد عيد مبارك، وفيه فضل وبركة؛ لأنه يبشر ببدء الفيضان إذ يلقون فيه التابوت وأصبع الشهيد، فإذا استقر في النيل يأخذ ماؤه في الفيضان، ولكنني أعلم أنهم شوهوا الاحتفال، فلا يرضي الله إذ يتخذه بعض الناس فرصة لإراقة الخمور والتمتع بالشهوات.»
فقال وقد تناول تفاحة جميلة قدمها إليها: «ما لك وللناس نحن نذهب لحضور الصلاة والاحتفال بإخراج التابوت و...»
فتناولت التفاحة من يده وقالت: «أصبح احتفالا تتزاحم فيه الأقدام وتتحاك المناكب ويختلط الحابل بالنابل فلا يجد المرء موطئا لقدميه.»
فنظر إليها مستخفا بما تقوله وقال: «كأنك تحسبيننا ذاهبين لنقف مع الرعاع والعامة، إننا ذاهبون مع صديقنا إسطفانوس في سفينة صاحب الخراج الراسية إلى الشاطئ، فنركبها وفيها الغرف للنوم والمطابخ للطعام، ونخترق بها النيل فنقف حيث نشاء ونتفرج على ازدحام الناس ونحن في سعة من المكان، ونشاهد الاحتفال على مهل فلنشكر صديقنا إسطفانوس على دعوته.»
فلما سمعته دميانة وعلمت أنها ذاهبة مع إسطفانوس استعاذت بالله وتراجعت حتى بدا التردد في عينيها أما إسطفانوس فتذرع بشكر مرقس، فقال: «العفو يا مولاي فإنما علي أنا أن أقدم فرائض الشكر إذا تنازلت الآنسة دميانة ورضيت بالذهاب معنا.»
فلم يزدها هذا التلطف إلا نفورا، ووقعت في حيرة بين أن تقبل الدعوة فتقضي بضعة أيام مع إسطفانوس وهو ثقيل على قلبها وبين أن ترفضها فلا تأمن أن يلح عليها والدها فتضطر للذهاب مرغمة، فظلت ساكتة، فقال أبوها: «ما لك لا تتكلمين يا دميانة، ألست مسرورة بهذه السياحة والزيارة؟»
فسبقها إسطفانوس إلى الكلام وقد تناول الإبريق بيده وأخذ يصب منه الخمر في قدح من الزجاج المنقوش، وقال: «لا حاجة إلى سؤالها؛ فقد قالت إنها لا تريد الذهاب.» وفرغ من الصب فأدنى القدح من فيه وقد أرسل رأسه إلى الوراء فاسترق نظرة إليها بين القدح وكمه فرآها مطرقة تتشاغل بالتفاحة بين أناملها وقد غلب الحياء عليها حتى توردت وجنتاها.
فتصدى مرقس للجواب عنها وبيده اليمنى القدح يبعده عن فيه بعد أن شربه ويمسح باليسرى شاربيه وفمه وقال: «كيف فهمت أنها لا تريد الذهاب وهي أرغب الناس في الصلاة والاحتفالات الدينية، وقد كانت تخاف الازدحام، فبعد أن علمت بذهابنا بالذهبية لا أظنها تمانع فهي تذهب مع أبيها حيثما سار .»
فأدركت دميانة أنه يذكرها بسلطته الأبوية، وأنه سيأخذها رضيت أم لم ترض، فرأت أن القبول أليق، فالتفتت إلى إسطفانوس، وقالت: «ظننتني رفضت الذهاب ولا رأي لي في وجود والدي فإذا أمر أطعت.»
فبش لها أبوها، وقال: «بورك فيك يا ولدي، إني لا أحب أن أحملك إلا على ما لا تريدين، ونحن ذاهبون فاستعدي.»
فانبسطت أسارير إسطفانوس، وأبرقت عيناه، وأخذ ينتفخ ويعالج مجلسه ليلفتها إلى جمال عينيه وعظيم هيبته، وهي لا تزداد بذلك إلا نفورا منه حتى ضاقت ذرعا بتلك الجلسة، وهمت بالنهوض. وإذا بالعم زكريا أقبل مسرعا يقول: «إن جارنا أبا الحسن بعث يستأذن في السهرة عندنا.»
فلما سمع مرقس ذلك بغت، وقال: «دعه يدخل من الباب الآخر، ونحن قادمون لملاقاته وأنر القاعة الكبرى بالشموع جيدا.» فنهض وأخذ يمسح شاربيه ولحيته ويصلح هندامه، ودعا إسطفانوس للدخول معه وتركا دميانة لتذهب على غرفتها من طريق آخر؛ لئلا يراها الضيف أو الجار. ولم يكن الحجاب يومئذ شائعا عند القبط، أو لعله كان في أول شيوعه وسببه في الغالب أن المسلمين كانوا يحجبون نساءهم عن النصارى كما يحجبونهن عن سواهم، فلما كانت إقامتهم بالمدن لم يكن لذلك تأثير على القبط، فلما نزلوا القرى وجاوروا القبط أصبح القبطي إذا زار جاره المسلم يحجب عنه امرأته وسائر نسائه، فأصبح هو يفعل ذلك إذا زاره المسلم فيحجب أهله عنه، وتنوقل ذلك في الأعقاب بتوالي الأجيال حتى صارت عادة محكمة فرضها تقليد المحكوم للحاكم. •••
أما دميانة فأخذ قلبها يدق عند سماعها اسم أبي الحسن وعزمه على الزيارة في تلك الساعة. وكانت زياراته نادرة قلما يأتي إلا لغرض. وتذكرت مقابلتها سعيدا في ذلك المساء فحدثتها نفسها بأنه قد يكون قادما لشأن يتعلق بها وأصبحت شديدة الشوق لمعرفة ما إذا كان سعيد آتيا مع أبي الحسن. ووقفت هنيهة تفكر في ذلك بعد ذهاب أبيها وإسطفانوس، ثم اتجهت إلى غرفتها وهي تتوقع أن يأتي زكريا ليطمئن بالها، فتشاغلت بتبديل ثيابها حتى أتى فسألته، فقال: «أتى أبو الحسن وحده يا سيدتي ، وهذه الزيارة لإسطفانوس وليست لوالدك؛ فقد سمعت أبا الحسن يذكر أنه لما علم بوجود إسطفانوس ابن المعلم حنا في القرية اغتنم الفرصة للسلام عليه.»
فأجابت دميانة بقلب شفتها السفلى - وهي تعجب تهكما واستخفافا - ولسان حالها يقول: «ما شاء الله، ابن المعلم حنا شيء عظيم وزيارته فخر كبير!»
فلحظ زكريا ذلك منها فقال: «لا تستخفي به يا مولاتي؛ فإن أباه يكاد يكون صاحب النفوذ الأول وليس أكثر نفوذا منه إلا المارداني صاحب الخراج ...»
فقطعت حديثه قائلة: «هل جاء أبو الحسن وحده؟»
فابتسم وقال: «نعم وحده.»
فقالت: «أراني أهم بأن أنام.»
قال: «ألا تتناولين العشاء؟» قالت: «لا أشعر بالجوع.» فتركها وخرج.
أما أبو الحسن فقد كان كهلا جليل القدر مع أنس ولطف جاء في ذلك المساء بلباس البيت وهو جلباب من الحرير المخطط فوقه عباءة رقيقة، وعلى رأسه طاقية حولها عمامة صغيرة. وكان مرقس وإسطفانوس قد سبقاه إلى القاعة وهي غرفة واسعة مفروشة بالبسط والسجاد الجميل وعلى نوافذها ستائر من الديباج المطرز صنع (تنيس) مما يندر اقتناؤه في القرى، وعلى جدران القاعة صور دينية وفي الوسط مشمعة كبيرة قد أنيرت شموعها وحول الأبسطة وسائد مطرزة بقرب الجدران.
فلما أقبل أبو الحسن خف مرقس لاستقباله والترحيب به، فسلم أبو الحسن عليه، ثم سلم على إسطفانوس، وقال له: «لقد آنست قريتنا يا معلم إسطفانوس.»
فقال: «إن الأنس بجوارك يا سيدي.»
ودعاه مرقس إلى الجلوس على وسادة قدمها له فقعد عليها، وبعد أن تبادلوا التحية والسلام مرارا قال أبو الحسن: «لماذا لا يأتي المعلم حنا والدكم لقضاء بضعة أيام عندنا؛ يستريح فيها من عناء الأعمال ويبعد عن ضوضاء الفسطاط؟»
قال وهو يشمخ بأنفه افتخارا بوالده: «إن الشواغل عنده كثيرة يا سيدي؛ إذ لا يخفى عليكم أهمية مركزه. وقد ألف العمل حتى غدا لا يرى راحة إلا به، وكثيرا ما أتوسل إليه أن يخرج للتنزه فلا يرضى.»
قال أبو الحسن: «أظنه الآن منهمكا في حسابات الخراج والعشور، فهذا الفصل.»
قال: «نعم ولا أدري متى يفرغ من العمل؛ فإن كل أيام السنة عمل عنده حتى إننا لا نراه في منزله إلا نادرا وإذا جاء المنزل تهافت عليه الوجهاء بين زائر يستشيره أو صاحب حاجة يتوسل إليه أو متخاصمين يحكمونه.» قال ذلك تفاخرا وبدا الإعجاب في وجهه؛ فهو يفاخر الناس بحكمة أبيه ووجاهته، ونسي أنه غر خامل قد يكون سببا في ذهاب تلك الوجاهة - وذلك دأب كثيرين من أبناء الوجهاء لا يضيع أحدهم فرصة يدخل فيها اسم والده في الحديث، وإذا سنحت له تلك الفرصة استأثر بالجلسة وأخذ يعدد مناقب الوالد ووجاهته فيقص على سامعيه من نوادره ومعجزاته ما يثقل سمعه ويعسر تصديقه وقد يتلطف في الاستطراق إلى التحدث عن والده بأسلوب يوهم السامعين أن ذكر الوالد جاء عرضا ثم عمد إلى القص والإطراء، ذلك هو شأن صغار الأحلام ضعاف الرأي وإسطفانوس واحد منهم. •••
وكان أبو الحسن من ذوي العقول الراجحة، واسع الصدر، يغضي عن الصغائر وينظر إلى الجوهر فقال: «أظنكم تقيمون بالفسطاط الآن؟»
قال: «كنا نقيم هناك ثم انتقلنا إلى بابلون بجانب الفسطاط لأن الفسطاط كثيرة الزحام وأبي يحب السكينة في ساعة الرقاد.»
قال: «لا أظنه ترك الفسطاط لازدحامها فقط، ولكنكم تفضلون الإقامة ببابلون؛ لأن سكانها من القبط، فتكون أماكن العبادة قريبة منكم.» وتبسم.
فأدرك إسطفانوس إشارته فقال: «يستطيع الإنسان أن يعبد ربه حيثما يكون، والقبط الآن - كما لا يخفى عليك - في راحة وطمأنينة بفضل أميرنا الحالي.»
فتنهد أبو الحسن وأطرق، فابتدره مرقس قائلا: «أحمد الله أن الأحوال تبدلت وأدرك حكامنا المسلمون أن محاسنة القبط أولى.»
قال: «أتحسب ما ارتكبه بعض الأمراء المسلمين من ظلم القبط كان بأمر الخلفاء أو أنه من قواعد الدين الإسلامي؟ كلا، إن الإسلام يأمر بالحسنى، يدلك على ذلك ما كان من رفق المسلمين في صدر الإسلام على أيام الخلفاء الراشدين، وإن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد أوصى بالقبط خيرا، وإنما هي مطامع بعض الولاة لا يريدون لها التعصب على دين بل يرمون من ورائها إلى ابتزاز الأموال. ولو أرادوا بها غير ذلك لما أصابنا نحن الشيعة ما تعلمونه من الاضطهاد حتى منعونا ركوب الأفراس والخروج من الفسطاط، وحظروا علينا اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، وإذا كان بيننا وبين أحد الناس خصومة قبل قول خصمنا فينا بلا بينة.» وسكت أبو الحسن هنيهة ثم استأنف الكلام قائلا: «حتى هذا الوالي أحمد بن طولون فإنه إنما يحاسن ويجامل لغرض في نفسه ...»
فاعترضه إسطفانوس قائلا: «وكيف ذلك يا سيدي؟ وقد أحسن جوار القبط ورفع عنهم كثيرا من المظالم وهل في الرفق بهم وسيلة إلى تحقيق مطمع لحاكم؟»
قال: «إن ابن طولون داهية كبير النفس، ذو تعقل ودهاء، ألا ترى أنه لم ينزل في الفسطاط؟ فلماذا؟ لماذا ترك قصر الإمارة والمسجد فيها وابتنى لنفسه وجنده قطائع خارج الفسطاط بجوار المقطم أنفق فيها الأموال الطائلة؟»
فأطرق إسطفانوس ولم يحر جوابا. فاستأنف أبو الحسن كلامه، وقال: «اعلم يا بني أن ابن طولون هذا تركي الأصل وهذا العصر عصر الأتراك. فبعد أن كانت الدولة للعرب وكان أمراؤها وقوادها من العرب أخذت السيادة تتحول عنهم إلى الأتراك حتى أصبحوا أهل النفوذ والسطوة في بغداد، وسامرا ومنهم أكابر الولاة والأمراء والأشراف، وأظنكم لحظتم انحطاط شأن العرب في مرافق الدولة في الفسطاط نفسها، حتى صار الولاة الأتراك يعدون العرب منافسيهم، ويخافون من انتقامهم فلا يأمنون القيام بهم، فأخذوا يبنون المنازل الحصينة لأنفسهم خارج المدن التي يقيم بها العرب، وقد بدأ بذلك الخليفة المعتصم، فخرج بأتراكه من بغداد وابتنى
والفسطاط - كما تعلمون - بلدة عربية، فلما استتب الحكم لابن طولون ابتنى القطائع بين الفسطاط والمقطم - على بعد الماء عنها - واضطر إلى إنفاق الأموال الطائلة في جر المياه، وأظنكم تعلمون أن حبيبنا سعيدا قد أخذ على نفسه جر الماء إلى القطائع، وأخبرني أن الأمير أنفق في ذلك مالا كثيرا.»
فقال مرقس: «صدقت يا جارنا العزيز وقد لحظت أنا أيضا أن أميرنا المشار إليه يطمع فيما لم يطمع فيه سواه من الأمراء السابقين. يطمع في أن يستقل بحكم مصر.»
فقطع أبو الحسن كلامه قائلا : «لقد استقل بها وقضي الأمر وفاز على ابن المدير صاحب الخراج الذي كان يسوم الناس الخسف والذل، ويبتز الأموال بغير حساب - سبحان من أنقذكم منه ...»
قال مرقس: «شكرا لله على ذلك، ونشكره على شيء آخر أيضا كان له أثره في تحسين أحوالنا وتخفيف الضرائب عنا.»
قال: «أظنك تعني الكنز الذي عثر عليه ابن طولون في الجبل، إن عثوره على الكنز سد كثيرا من حاجاته، فخفف المظالم عن الناس.»
قال أبو الحسن: «إن المال المذكور خفف الضرائب. أما محاسنته القبط وتقريبهم إليه فسببها رغبته في اكتساب الأحزاب لما قدمته من سوء ظنه بالعرب، فاتخذ القبط حزبا له وكذلك قل عن الشيعة؛ فإنه يرى في محاسنتهم سياسة ودهاء.»
قال مرقص: «فهو يبني القطائع إذن خوفا من مساكنة العرب بالفسطاط - ما شاء الله شيء جميل!»
فضحك أبو الحسن وقال: «والقبط يسكنون بابلون خوفا من العرب أيضا حتى أصبحت لهذه الديار الآن ثلاث عواصم: الفسطاط للعرب المسلمين والقطائع للأتراك المسلمين وبابلون للقبط.» •••
سكتوا جميعا هنيهة، ثم أراد مرقس أن يجامل ضيفه، ويسايره فلا يقطع الحديث، فقال لأبي الحسن: «أظن سعيدا ما زال في القطائع يعمل في جر المياه، ولو كان هنا لزارنا معك.»
فاستبشر أبو الحسن لفتح الحديث، فقال: «بل هو هنا، وقد جاء اليوم وأخبرني أنه فرغ من بناء العين وسيعود قريبا للاحتفال بجر الماء إليها وهو يتوقع من نجاحه تقدما كثيرا.»
فقال: «ولما لم يزرنا معك؟»
فسعل أبو الحسن ومسح لحيته بكمه استعدادا للحديث، وقال: «لم يأت؛ لأنه وصل الساعة وهو تعب على أن هناك أمرا آخر اغتنم وجود حبيبنا إسطفانوس هنا لأعرضه عليك.»
فتطاول الرجلان نحوه لسماع ما يقوله فوجه خطابه لمرقص وقال: «ولا تخفى عليك منزلة سعيد عندي فهو على كونه نصرانيا قد اتخذته صفيا لي، وأحببته كما يحب الوالد ولده وهو ماهر في الهندسة ولم يوجد في مصر كلها من استطاع الإقدام على بناء تلك العين سواه.»
فصادق مرقس وإسطفانوس على قوله بالرأس والعينين، فقال أبو الحسن يخاطب مرقص : «أظنك تعرف سعيدا كيف تراه؟»
قال: «أراه شابا جميلا ماهرا في الهندسة ويحبه كل من عرفه.»
قال: «هل تحبه أنت؟» فقال: «كيف لا أحبه؟»
قال: «بناء على ذلك وقد قلت لك إني بمنزل أبيه، جئت بالنيابة عنه؛ لألتمس منك أمرا أرجو من الحبيب إسطفانوس أن يساعدني في الحصول عليه.»
فخفق قلب إسطفانوس لأنه أدرك الغرض المطلوب ولكنه تظاهر بالقبول وقال: «إني طوع أمرك يا سيدي.»
فقال أبو الحسن: «جئت أخطب إليك ابنتك دميانة إلى حبيبي سعيد، فهل تخذلني وترفض طلبي؟»
فوقع الطلب وقع الماء الحار على بدنيهما، وأجفلا، وسكت إسطفانوس، وأما مرقص فأجاب جوابا مضطربا مجاملة، فأدرك أبو الحسن اضطرابه وتردده ولم يأبه بالمجاملة؛ لأنه قرأ الإنكار في عينيه، واكتفى بما لحظه وأهل الإحساس يقرءون الفكر خلال الإنكار، وبعضهم يدرك مرادك قبل أن تتكلم. وكان أبو الحسن من هؤلاء، فأيقن بفشل مهمته لكنه تجاهل وقال: «أنا أعلم أن إجابة طلبي تقتضي ترويا ونظرا، فأمهلك ريثما تتبصر فيه.»
فأحس مرقص عند هذا الاعتذار كأنه كان في سجن وأفرج عنه، ولو كانت له شجاعة أدبية لقال له: «إنها مخطوبة.» إذ قد سبق ووعد إسطفانوس بها، ولكنه خشي الصراحة وحسبها خشونة، فلما سمع كلام أبي الحسن ابتسم وقال: «طبعا سأنظر في الأمر والذي يقدره الله يكون.»
وأسرع أبو الحسن حالا إلى تغيير الحديث، فطرق موضوعات مختلفة، ثم وجه خطابه إلى مرقص قائلا: «أرجو من فضلك يا جارنا العزيز أن تساعدني على الحبيب إسطفانوس؛ فإني أحب أن يؤانسني بزيارة، وأن تتفضل أنت معه.»
فتصدى إسطفانوس للجواب قائلا: «أشكرك يا سيدي. كنت أود ذلك من صميم قلبي، لولا أني عزمت على العودة غدا.»
قال: «وإلى أين؟ لقد تعجلت الرجوع وأنت لم تأتنا إلا الساعة.»
قال: «نعم جئت لآخذ المعلم مرقص معي.» قال: «تأخذه؟ إلى أين؟»
فضحك مرقص وقال: «لا تخف. ليس إلى السجن ولا إلى الصلاة.»
فقطع إسطفانوس كلامه قائلا: «بل إلى الصلاة ألست ذاهبا لحضور عيد الشهيد؟»
قال: «إننا ذاهبون لحضور الاحتفال، ولا بأس من حضور الصلاة.»
فقال أبو الحسن: «أظنكم ستذهبون على هذه الدهبية لمشاهدة الاحتفال في النيل.»
فرأى إسطفانوس من اللياقة أن يدعوه لمرافقتهم، فقال: «إن منظر الاحتفال في النيل بهيج جدا، فهل تتفضل وترافقنا في هذا السفر؟ وهذا الاحتفال مع كونه نصرانيا فإن المصريين على اختلاف أديانهم يشتركون فيه؛ لأنه في الحقيقة احتفال وطني.»
فاستغرب أبو الحسن قوله وقال: «هل هو عيد شم النسيم أو النيروز أو فتح الخليج حتى يعد قوميا؟»
قال: «اعتبروه وطنيا؛ لأنه حل محل احتفال كان شائعا في مصر قبل دخول العرب، فلا شك أنك تسمع بضحية النيل الفتاة الجميلة التي كان أسلافنا يزفونها إلى النيل ويلقونها فيه كل سنة استدرارا لمائه.»
فقاطعه أبو الحسن قائلا: «نعم سمعت حديثها ولكن المسلمين أبطلوا هذه العادة - على ما أعلم.»
قال: «نعم أبطلوها، ولكن القبط ما زالوا يخافون غضب النيل إذا لم يزفوا إليه شيئا، فأبدلوا بالضحية المشار إليها إصبعا من أصابع شهدائنا الأولين، تلقى في النيل كل سنة قبيل فيضانه، فيحتفلون بذلك في الثامن من بشنس، ويضعون الإصبع في تابوت يلقونه في النيل فيأخذ في الزيادة من ذلك اليوم.» •••
وكان أبو الحسن مصغيا يسمع، فلما فرغ إسطفانوس من كلامه أظهر سروره بما استفاده، وقال أنه كان يود أن يجيب دعوته ويرافقه، ولكنه يؤثر البقاء في المنزل إكراما لسعيد؛ لأنه قادم من سفر، وربما لحق بهم بعد حين إلى أن قال: «وإذا لحقنا بكم نعرف دهبيتكم من رايتها، أليست هي راية المارداني؟»
فخشي إسطفانوس إذا ألح في الدعوة أن يرافقه في الدهبية، وربما جاء سعيد معه وقد أصبح لا يطيق رؤيته غيرة منه على دميانة، فاكتفى بقوله: «نعم هي للمارداني وأرجوا أن تلحقوا بنا فيكون حظنا كبيرا.»
وسكت وانتبه أبو الحسن على أنه أطال الجلوس قبل العشاء فاعتذر وانصرف. ولما خلا إسطفانوس بمرقس نظر إليه نظرة استعطاف واستفهام. فضحك مرقس واتخذها ذريعة لإظهار فضله على إسطفانوس وقال: «لا تخف يا عزيزي لو طلب دميانة ابن طولون وكان نصرانيا لما سمحت بها لسواك.»
فأثنى إسطفانوس على تفضله وحسن رأيه فيه ووضع يده على كتفه تحببا كأنه يحاول ضمه وقال: «بارك الله فيك يا أخا الرجال. لقد طالما أثنى أبي على لطفك وفضلك وذكر العلاقات الودية القديمة بين أسرتينا.»
فاغتنم مرقس ذكر أبيه فقال: «إن أباك المعلم حنا ينسى القديم ولا يذكر غير الجديد، فقد فرحنا بتقدمه في ديوان الخراج حتى أصبح كاتب المارداني ولكن هذا قلما أفاده أو أفادنا.»
فأدرك إسطفانوس أنه يلمح إلى أمر يريده من أبيه، فقال: «لا تظن أبي ينسى أصحابه، ولا أظنك نسيت تخليه عن الضريبة المتأخرة على ضيعتك من أيام الظلم.»
فقال: «إنه فعل ذلك بأمر ابن طولون - كما تعلم - على أني لا أشك في أن أباك لا يدخر وسيلة في التخفيف عنا ولي عنده ملتمس لا يكلفه عناء. سأذكره لك بعد حين.»
وكانا يتكلمان وهما خارجان من القاعة بعد أن ودعا أبا الحسن، وكان الخدم قد أعدوا الطعام، فوضعوه على المائدة حالما علموا بخروج أبي الحسن، فقعد الصديقان ساعة أخرى للطعام والشراب، ثم آوى كل إلى فراشه.
الصعود في النيل
نهض الخدم في صباح اليوم التالي يحضرون اللحوم والخضر والفاكهة والخمور؛ لتحمل إلى الدهبية طعاما أثناء الرحلة. والتصعيد في النيل في فصل الربيع جميل جدا؛ لأن السفينة تجري فيه هادئة لا يزعجها نوء ولا يكدر ركابها رائحة البحر المالح، فلا يخافون خطرا ولا دوارا، يقضون نهارهم مستمتعين بمناظر الطبيعة، فإذا توسطوا النيل شاهدوا روعة الضفتين وما وراءهما من السهول الملونة بين خضراء وحمراء وصفراء على اختلاف حال الزرع من النمو أو النضج. وإذا جاوروا إحدى الضفتين استأنسوا تارة بأنين السواقي وخوار ثيرانها وطورا بسماء الماعز تسرح في بساتينها، وآونة بغناء الغلمان الذين يرفعون الماء بالشادوف ويوقعون ألحانهم على حركاته. وترى هنا غلاما راكبا حمارا يسوق أمامه بقرة وهناك رجلا يسوق بعيرا. ويعترض منظر السهول الخضراء كثير من الشجر والنخل الذي كأنه مظلات مغروسة في الأرض، أو كما قال الشاعر:
1
وللنخيل منظر مهيب
تراع من جماله القلوب
فوق الضفاف ظلها رهيب
صفا بصف زانها الترتيب
من كل جبار عظيم القدر
تحسبها مردة طوالا
تحت مظلات زهت جمالا
في النيل جاءت تبتغي اغتسالا
سحرها النيل فلن تزالا
واقفة هنا بفعل السحر
ويزداد منظر الشاطئين جلالا وجمالا في الليل، ولاسيما إذا كانت الليلة مقمرة، وقد هدأت الطبيعة وسكنت الرياح وأوت الطيور إلى أوكارها وتكسرت أشعة القمر على سطح الماء، كما وصفها ذلك الشاعر بقوله:
والنيل يجري تحتنا غزيرا
تهزنا موجاته سرورا
كما تهز غادة سريرا
قد نام فيه طفلها قريرا
في مأمن من عاديات الدهر
والبدر يلقي وجهه في الماء
سبائكا من فضة بيضاء
تلمع إذ تموج بالهواء
كأنها السيوف في الهيجاء
ما بين كر دائم وفر
وقد يتكاثر النخيل في بعض الأماكن حتى تتألف منه غابات غضة تتغنى فوقها الطيور وتتخللها أكواخ الفلاحين.
ناهيك بما يقع عليه بصرك من الأبنية الفخمة من آثار الفراعنة - وأكثرها في الصعيد - أما الصاعد في السفينة إلى الفسطاط فلا يقع بصره من تلك الآثار إلا على أهرام الجيزة وقد يرى أبا الهول.
هذا والسفينة تسير نهارا وترسو ليلا ولا سيما في الربيع؛ إذ يكون النيل في معظم انخفاضه وفي قاعه صخور يعرف الربان موضعها في النهار، ويخشى أن يخدعه بصره أو تخونه ذاكرته في الليل، فلا يسيرون في النيل فيه.
قضى ركاب دهبية المارداني أياما في طريقهم من قرية طاء النمل إلى شبرا وقد تباطئوا عمدا؛ لكي يصلوا إلى الاحتفال في إبانه، وكانوا يتمتعون بمناظر الضفتين على نحو ما ذكرنا إلا دميانة؛ فقد كانت تقضي معظم نهارها منفردة تصلي أو تتذمر وزكريا يؤانسها ويعزيها، وقد ندمت على مجيئها وآثرت أن تغضب أبوها يوما أو يومين ولا تحمل نفسها ما لا طاقة لها به من تكلف اللطف والمسايرة على الطعام أو عند الكلام.
وكانوا قد نصبوا في الدهبية مظلة جميلة فرشوا أرضها بالطنافس وزينوا جوانبها بأغراس الرياحين والأزهار، يجلسون فيها للحديث أو الشرب أو التفكه. ولم تجلس دميانة هناك قط ولم يظهر ذلك غريبا لأبيها؛ لأنه تعود أن يراها منفردة في البيت تقضي أوقاتها في الصلاة أو القراءة أو تشغل نفسها بأمور بيتية لا تهمه. أما إسطفانوس فلم يكن يدخر وسعا في التحبب إليها تارة بتقديم الفاكهة أو الزهور وآونة بلفتها إلى منظر جميل أو موقف غريب لعله يسمع منها كلمة استحسان أو تلطف أو ما يدل على وقوعها في شرك جماله أو الافتتان بحديثه أو ذكائه أو الإعجاب بمنصب أبيه ونفوذه.
وكان يحسب ركوبه في دهبية المارداني كافيا لرفع منزلته في عيون الناس. ولو كان من أهل الشعور الرقيق لأدرك من أول مقابلة أنها لا تطيق رؤيته ولا تريد عشرته - ولو أظهرت اللطف أحيانا عملا بأدب السلوك واحتراما لرأي أبيها.
وأطل ركاب الدهبية على شبرا في ظهر يوم صفا جوه، فلم تقع أبصارهم إلا على خيام مضروبة وأعلام منصوبة، وبين ذلك شجر النخيل يناطح السحاب على ضفتي النيل وفي الجزر بينهما. فانتهر إسطفانوس تلك الفرصة، وتقدم إلى دميانة، وكانت واقفة قرب السارية تتلهى بما يقع عليه بصرها في الضفتين محاذرة أن تلتقي به أو يقابل وجهها وجهه، فرارا من سماع حديثه، فلما رأته يمشي إليها استعاذت بالله وعلا وجهها الاحمرار، فتلهت بصليب معلق في عنقها كانت شديدة الحرص عليه إذ أهدته إليها راهبة من دير المعلقة كانت قد زارت طاء النمل لجمع النذور وهي تعتقد فيه القداسة والكرامة. فلم يبال إسطفانوس ارتباكها. أو لعله حسبها استحيت من مقابلته كما يستحي الحبيب من محبه. واغتنم انفرادها عن سائر أهل السفينة ليطارحها الغرام وأحب أن يتدرج إلى ذلك بأسلوب لطيف فقال: «لا أدري أأهنئك بهذا الصليب يا دميانة أو أهنئه بك؟»
فأدركت قصده وأحبت أن تؤنبه فقالت: «أبمثل هذا الكلام يتحدثون عن صليب السيد المسيح؟»
فظنها تداعبه فقال: «لا أعني صليب المسيح وإنما أعني هذا الصليب فإنه نال مقاما يتحسر عليه كثيرون.» وتنهد وأبرقت عيناه ووقف ينتظر جوابها.
أما هي فتوردت وجنتاها وشق عليها ما يجول في ذهنه، فأرادت أن تغير الموضوع فقالت: «حقا لم أشاهد احتفالا مثل هذا.» ووجهت نظرها إلى تلك المضارب.
فلم يشعر بما ينطوي عليه نقل الحديث من الاحتقار، وسر؛ لأنها فتحت بابا للكلام فقال: «إنه احتفال باهر؛ ولذلك أحببت أن تحضريه فجئت في خدمتك بدهبية صاحب الخراج، وسننزل بعد قليل في فسطاط نصبوه لنا خاصة أمام تلك الجميزة الكبيرة.» وأشار بيده إلى شجرة كبيرة، أمامها سرادق ثمين نصب ببابه علم يشبه العلم المنصوب على السفينة.
فعلمت دميانة أنه سرادق المارداني، وشق عليها النزول به مع إسطفانوس وهي تكره رفقته وتعلم فوق ذلك أنها ستلاقي هناك ما تكرهه من موائد المدام وأبارح الراح، فقالت - وقد بدا في وجهها الاشمئزاز: «لا ... اسمح لي ألا أذهب.»
فقال معاتبا: «لا تخافي يا دميانة لست بنازلة فيه وحدك؛ فإن أباك ذاهب معنا.»
فرفعت كتفيها وهزت رأسها - إشارة الرفض - ولم تتكلم.
فلم يكتف الشاب بذلك فقال: «وإن كنت في ريب مما أقول فصديق والدك آت الآن، ويقول لك ما قلت.»
فتراجعت والتفتت لفتة من سمع صوت قادم، فرأت العم زكريا آتيا نحوها، وهو يهم بأن يكلمها، فتوجهت إليه بكليتها، فقال لها: «ألا تزالين عازمة على زيارة هذه الكنيسة يا مولاتي؟» وأشار إلى كنيسة شبرا التي يختلفون بإخراج التابوت منها كل عام.
ففهمت أنه ينتحل وسيلة لتخليصها من إسطفانوس، فقالت: «كثيرا ما اشتهيت زيارتها والتبرك بها، ولا سيما في مثل هذا الاحتفال.»
فقال: «إن السفينة لا تلبث أن ترسو عند الشاطئ، وقد استأذنت أباك في الأمر.»
فقالت: «لقد أحسنت يا عماه.» ومشت معه لتبديل ثيابها وتركت إسطفانوس على مثل الجمر وقد أحس أنها تتعمد احتقاره فكظم ما في نفسه وذهب إلى مرقص فقص عليه ما قالته له، فقال: «وهل ساءك ذلك؟ إن بعدها في مثل هذا اليوم نعمة؛ لأن وجودها معنا في الفسطاط لا يوافق هوانا. أم جئنا لحضور الصلاة؟ إنها لا يلذ لها أن تحضر موائد الشراب، فدعها تذهب لصلاتها ونحن نذهب إلى مجلس أنسنا وسماع الغناء والضرب على العود والنفخ بالمزمار، إنها فرصة نادرة المثال، فلا ينبغي إضاعتها.»
فلم يحر إسطفانوس جوابا، ولكن قلبه اتقد غيظا. أما مرقس فتظاهر بأنه كان يود دميانة أن ترافقه، فتحول إليها وقد تزملت بمطرفها ولفت رأسها بخمارها، ووقفت تنتظر رسو السفينة، فلما رأته توجهت إليه فابتدرها قائلا: «بلغني أنك ذاهبة إلى الكنيسة على أن صاحبنا إسطفانوس قد أعد لنا فسطاطا لجلوسنا.»
قالت: «إني أوثر الذهاب إلى الصلاة. وربما وافيتك إلى المكان الذي تعنيه.»
قال: «لا أحب أن ألجئك إلى أمر لا تحبينه. افعلي ما بدا لك. ومتى تفرغين من الزيارة؟»
قالت: «لست أدري الآن ولعلي آتيكم نحو الغروب.»
فقال: «حسنا. وأنا مطمئن لوجود العم زكريا معك. سيري بسلام.» قال ذلك ومشى إلى صديقه.
بين سعيد وإسطفانوس
وقفت دميانة تنظر إلى القوارب والحراقات الماخرات في النيل على عرضه وفيها الناس زرافات ووحدانا وقد مدت عليها الموائد للطعام والشراب. وما من حراقة إلا وفيها أوعية الخمر وأطباق الفاكهة. وقد تزاحم الناس رجالا ونساء من أصحاب اللهو وأرباب الملاعب والمخنثين. وعلت ضوضاء المغنيين والمغنيات والراقصين والراقصات وقد خلع بعضهم العذار وفتكوا برقع الحياء. وكانوا يرتكبون في ذلك الاحتفال أنواع القصف ويجاهرون بالمنكرات حتى لتثور الفتن ويقتل الناس ويباع من الخمر خاصة في ذلك اليوم بما ينيف عن مائة ألف درهم أو خمسة آلاف دينار. وقد ذكروا أن واحدا باع في يوم واحد باثني عشر ألف درهم فضة من الخمر. وكان اعتماد فلاحي شبرا دائما في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في عيد الشهيد إذ يجتمع في ذلك الاحتفال عالم عظيم يملأ البر والبحر لا يحصيهم إلا خالقهم، بعضهم في القوارب والحراقات والبعض الآخر في الخيام.
وأخذ ربان الدهبية يزاحم القوارب والحراقات والناس يوسعون لها؛ لأنها لصاحب الخراج حتى دنت من الشاطئ وقد مالت الشمس نحو الأصيل فتسارع البحارة إلى إنزال الركاب.
وتأهبت دميانة للنزول وإذا هي تسمع بعضهم يقول: «هذه سفينة الوالي انظروا انظروا. إنها سفينة ابن طولون؟»
فلما سمعت ذلك أجفلت، والتفتت فرأت بقرب الضفة الأخرى من النيل سفينة فخمة عرفت أنا هي التي يعنونها، لكنها لم تشاهد عليها الراية، وتذكرت علاقة حبيبها سعيد بابن طولون، فقالت في نفسها: «لعله على ظهر هذه السفينة.» وأطالت النظر إليها؛ ترجو أن ترى ما يدلها على ذلك فلم تستطع تمييز شيء، ولكنها سمعت الناس يستغربون مجيء هذه السفينة وهم بين مصوب ومخطئ، ولم تنتبه دميانة إلا والعم زكريا يناديها لتنزل، فنزلت ووقفت تنظر إلى تلك السفينة فرأتها تقترب من الشاطئ ودهبية المارداني تتقهقر إلى الوراء لتخلي لها مكانا لترسو - فرجح عندها أنها سفينة الوالي، ولكنها لم تشاهد علمه عليها، واستطالت الوقوف فاستحيت ومشت نحو الكنيسة فمشى زكريا أمامها وهو يوسع لها الطريق بين الباعة وأهل الشعوذة والغوغاء، فقطعت مسافة طويلة بين الخيام وقد تصاعد الغبار وعلا الضجيج وهي مطرقة لا تلتفت يمينا ولا شمالا حتى وصلت إلى الكنيسة - وقد تزاحم الناس في صحنها وقل بينهم من جاء للزيارة أو للصلاة - فدخلت الكنيسة وما تنسمت رائحة البخور الممزوج بدخان الشموع حتى انتعشت وخشعت فاستفهمت عن الصلاة متى تكون، فقيل لها إنهم يبدءون بها نحو الغروب، ويتولى رياسة القداس أسقف الفسطاط - وكان من كبار الأساقفة - وقد عهد إليه أن يرأس القداس هناك لقربه من شبرا ففرحت دميانة؛ لأن القداس سيكون فخما.
وأحبت أن تغتنم فرصة الانتظار لمشاهدة التابوت الذي فيه أصبع الشهيد فقيل لها إنه موضوع في حجرة مقفلة بجانب الكنيسة، لا يخرجونه إلا في حينه. فاكتفت بالصلاة تشغل بها نفسها حتى يبدأ الأسقف قداسه. فتحولت إلى أيقونة ولادة السيد المسيح، وأخذت تصلي بحرارة تطلب ما تشعر بأنها في حاجة إليه، وهي لا تحتاج إلى شيء مثل حاجتها إلى التخلص من الشراك التي نصبت لها، فتوسلت إلى الله أن ينقذها من إسطفانوس، فقد كان قلبها دليلها على أنه ليس النصيب الذي تريده. •••
كانت دميانة تصلي وتتضرع، ولا يلتفت أحد إليها لاشتغال كل بنفسه، والعم زكريا منتح مكانا في الكنيسة يرى منه دميانة ويشاركها إحساسها، وفيما هي غارقة في تضرعاتها سمعت سعالا أجفلها؛ لأنه وقع في أذنها وقوعا نبه عواطفها ولفت قلبها، فالتفتت بغير قصد إلى جهة السعال فرأت سعيدا مقبلا نحوها فتسارعت دقات قلبها وتولتها الدهشة وتوهمت أنها في حلم؛ لأنها لم تكن تتوقع قدوم سعيد في تلك الساعة. فلما وقع نظرها عليه ابتسمت ووقفت لا تدري ماذا تفعل.
أما هو فمشى نحوها يبتسم ويقول: «أظنني أزعجتك يا دميانة سامحيني.»
قالت: «لم تزعجني يا سعيد، ولكنك أدهشتني بهذا اللقاء على غير انتظار لعلك أتيت لتحضر قداس الأسقف؟»
قال: «أي أسقف؟ كلا إنما جئت لأراك.»
قالت: «جئت لتراني؟ ومن أنبأك أني هنا؟»
فتنهد وقال: «علمته من وقوف سفينة المارداني بقريتكم، ومن دعوة ذلك الشاب إياك لتحضروا الاحتفال بعيد الشهيد.»
فأدركت أن أبا الحسن أخبره بما حدث وعلمت أن سعيدا لم يوافها إلى شبرا إلا غيرة عليها فانبسطت أسرة وجهها، وازداد ميلها إليه فقالت: «وكيف أنت؟ هل تنوي البقاء هنا إلى صباح الغد؟ وأين تقيم وكيف؟» وتلعثم لسانها من شدة الفرح.
فقال: «أتيت في سفينة الوالي أحمد بن طولون.»
قالت: «إن قلبي كان دليلي منذ رأيت تلك السفينة. وهل ابن طولون فيها؟»
فأطرق سعيد وسكت لحظة ثم قال لها همسا: «هو فيها، لكنه لا يريد الظهور للناس وقد أوصاني بأن أكتم مجيئه؛ لأنه جاء بناء على ترغيبي؛ فقد كان دعاني في هذا الصباح ليكلمني بشأن العين والاحتفال بجر الماء إليها، فانتهزت هذه الفرصة المواتية وذكرت له الاحتفال بعيد الشهيد وما يجري فيه من الغرائب ورغبته في مشاهدته ليلا، فرضي وأركبني معه على أن يشاهد ذلك سرا، فلما رست بنا السفينة استأذنته في زيارة الكنيسة ريثما يخيم الظلام ويبدأ الاحتفال، فجئت ومررت بالفسطاط الذي كنت أحسبك فيه، فرأيت أباك وصاحبه في زمرة من الشاربين والمغنيين وعلمت أنك أتيت الكنيسة فجئت.»
فقالت: «إنها منة لا أستحقها. فأنت باق هنا إلى الصباح؟»
قال: «سأبقى في السفينة عن بعد. كيف أنت الآن؟»
فهاج سؤاله أشجانها فأطرقت وتنهدت، وأرسلت دمعتين رآهما سعيد تنحدران على خديها، فأحس بهما كأنهما جذوتان وقعتا على قلبه فقال: «ماذا أرى؟ ما بالك؟ ما الذي يخيفك يا دميانة؟» وأدرك سبب بكائها فاستأنف الكلام قائلا: «لا تخشي أحدا إذا كنت شجاعة كما أعهدك، إن ذلك الغلام سيرجع القهقرى كما رجعت سفينته أمام سفينتي الليلة، إنه لا يستطيع أن يلثم موضعا وطأته قدمي.» قال ذلك وبانت عليه أمارات الأريحية والأنفة.
فأعجبت به ولكنها كانت تخاف أباها، فانقبضت نفسها وتجلدت، فقالت: «أراجع أنت إلى السفينة الآن؟»
قال: «لا بد من ذهابي قبل الغروب إلا إذا أمرتني بالبقاء لأمر تخافينه، فلا أبالي رضي الوالي أم غضب.»
قالت: «أما بقاؤك معي فغاية مرادي.» وتوردت وجنتاها وأتمت الحديث قائلة: «ولكنني لا أريد أن تغضب ابن طولون وهو الذي قدمك ورفع منزلتك ولكنني ...» وسكتت.
قال: «لن يطول افتراقنا؛ فإننا عما قليل نحتفل بجر مياه العين، وبعد ذلك نجتمع ويكون اجتماعنا دائما - إن شاء الله - هذا إذا كنت تريدين.»
فتنهدت وقالت وهي تخفض صوتها لئلا يسمعها أحد: «تسألني إذا كنت أريد؟ هذا أمر لا أجيب عنه سل قلبك يدلك عليه ولكن ماذا أفعل؟» وشرقت بدموعها.
فأدرك غرضها، فقال «فهمت. أما هذا المغرور الذي يتطاول إليك فإنه لن يحصل منك على قلامة ظفر، ومهما يكن من طول باعه عند صاحب الخراج فإن صاحب مصر أطول باعا وأرفع مقاما.» وحانت منها التفاتة فرأت العم زكريا مسرعا نحوها يقول: «إن الرجل آت.» قالت: «أي رجل؟»
قال همسا: «إسطفانوس.»
فلما سمعت اسمه تراجعت وامتقع لونها، ونظرت فرأت إسطفانوس داخلا يتمايل ويزيح الناس بيده ويمشي مختالا، فبغتت حتى كاد الدم يجمد في عروقها.
ولحظ سعيد اضطرابها فهبت فيه الحمية وعزم على التفاني في الدفاع عنها. فتقدم حتى وقف بحيث يعترض إسطفانوس إذا اتجه نحو دميانة، وقد كاد الشرر يتطاير من عينيه. ووصل إسطفانوس يترنح من السكر، فلما وقع نظره على سعيد ثاب إلى رشده وتبخر سكره وثارت الغيرة فيه وأخذته العزة بمنصب أبيه بعد أن رأى الناس يوسعون له ويحترمونه، فأشار إلى سعيد أن يفسح له طريقه فلم يجبه فمد يده وهم بأن يزيحه من الطريق وهو يخاطب العم زكريا وينهره ويقول: «ما هذا الوقوف هنا إلى هذه الساعة؟ إن مولاك ينتظركما وقد غربت الشمس.»
فلما رأى سعيد يد إسطفانوس ممدودة إليه دفعها عنه بعنف فتقهقر إسطفانوس حتى كاد يقع على الأرض وكبر ذلك عليه في مشهد من الناس، فعاد إليه وقد شرع يده كأنه يهدده وقال: «ما هذه القحة؟ أنا لا أخاطبك. امش في سبيلك.»
فدفع سعيد يد إسطفانوس عنه وقال: «امش أنت. عد إلى مكانك حتى تنتهي من سكرك.»
فأكبر إسطفانوس هذه الإهانة، ومد يده إلى جانبه كأنه يحاول أن يستل خنجرا، فابتدره سعيد بلطمة على خده، فدار على نفسه وقلب على ظهره، وكان لوقوعه صوت لفت أنظار الجمهور. فارتبكت دميانة وخافت الفتنة، وأمسكت سعيدا بيده وتوسلت إليه أن يتركه ويمضي لسبيله خوفا من الفضيحة، فقال: «لا خوف عليك ليس للأمر علاقة بك.» وتقدم إسطفانوس وهو يتحفز للقيام وهم بأن يركل بقدمه فتهافت الناس ومنهم من يريد الدفاع عن إسطفانوس لوجاهته عندهم وهم لا يعرفون سعيدا، وأراد بعضهم أن يرده فصاح سعيد: «ارجعوا، والله لولا حرمة هذا المعبد لأرقت دماءكم على بلاطه.»
فتراجعوا وعمدوا إلى اللين وكان إسطفانوس قد نهض ورجع إلى رشده وأدرك عجزه عن مناوأة سعيد، فلجأ إلى الحيلة، فتحول من غضب إلى عتاب، وقال لسعيد: «إني لم أكلمك فلماذا تعتدي علي. إن أبا هذه الفتاة استبطأ غيابها، فكلفني أن أدعوها فكأنك ظننتني أريد بها سوءا، فأخذتك الغيرة عليها لأنك جار أبيها - على ما أذكر - فتعرضت لي؟».
فلما رأى سعيد جبنه واحتياله ازداد احتقارا له، فقال: «مهما يكن السبب فمثلك لا يليق أن يأتي لهذه المهمة وهو يترنح من السكر، فإذا كان أبو الفتاة يطلبها فليأت هو ليأخذها وأنا واقف هنا في خدمتها حتى يصل.»
فضحك إسطفانوس جبنا ورياء وقال: «كأنك لم تصدق قولي. اسأل العم زكريا؛ فإنه يعرفني. ثم إني لم أخاطب السيدة نفسها وإنما خاطبت خادمها.»
فتقدم العم زكريا لفض المشكلة بالحسنى، فخاطب سعيدا قائلا: «أشكرك يا مولاي. والمعلم إسطفانوس يشكرك أيضا على غيرتك وتفضلك، ولعلك تعرف علاقته بسيدي، فإننا جميعا في ضيافته اليوم.» ثم وجه خطابه إلى إسطفانوس قائلا: «وأظنك يا مولاي تعلم أن المهندس سعيدا من أبناء طائفتنا وهو جارنا في المنزل وعزيز على سيدي ولم يتصد لك إلا لأمر أنت ...»
فقطع إسطفانوس كلامه وعمد إلى المداجاة والملاينة قائلا: «قد علمت أنه من طائفتنا وإن كان مقيما مع أبي الحسن. ولكنه لم يمهلني حتى أفهمه مرادي، فنحن إذن أصدقاء.» وضحك.
فأتم العم زكريا كلامه: «وأما سيدتي دميانة فإنها ستبقى هنا لحضور قداس الأسقف الليلة، وأنا معها ولا خوف عليها.»
فقال: «إذا كان الأمر كذلك فقد انقضت مهمتي، وها أنا ذا راجع لأخبر صديقي المعلم مرقس بذلك.» والتفت إلى سعيد، وقال: «أنا ذاهب يا صاحبي، فهل باق أنت هنا؟»
فاستغرب سعيد ما رآه من جبنه وذله وصغر نفسه، وأجابه بلا اكتراث: «نعم أنا باق.»
فخرج إسطفانوس ولسانه يقول: «أستودعك الله.» وقلبه يضمر الحقد وتدبير الأذى لسعيد.
وظل هذا واقفا حتى خرج إسطفانوس ثم هز رأسه والتفت إلى دميانة وقال: «إنه لخلق غريب هذا هو منافسي فيك، وكنت أود البقاء في خدمتك إلى آخر الليل لولا اضطراري إلى العودة للسفينة، وقد غابت الشمس وأخاف أن يغضب الوالي وأنت لا ترضين أن يغضب.»
فوقعت دميانة في حيرة وقد زاد احتقارها إسطفانوس واحترامها سعيدا، وقالت: «لا أريد أن يغضب الوالي، سر في حراسة الله.»
فأدرك من لحن صوتها أنها لم تقل كل ما في خاطرها، فنظر إليها وعيناه تتكلمان وهي تجيبه بعينيها، وكلاهما يحاذر أن يلحظ الناس حاله. ولولا اشتغال الجميع بشئونهم لم تتح لهما فرصة للكلام. فلما رأته دميانة ينظر في عينيها أدركت أنه يستفهمها عن مرادها، فقالت ثانية: «سر في حراسة المولى ورعاية السيد المسيح.»
قال: «فهمت ذلك من قبل ولكنني أحسبك تضمرين شيئا آخر.»
قالت: «لا أضمر شيئا سوى أني ...» ففهم مرادها، وقال: «ولا تبالي شيئا، فما هي إلا بضعة أيام حتى يخلو لنا الجو، فإني عندما انتهي من جر الماء أفوز برضاء الوالي، فلا يبقى لصاحبنا هذا جسارة للكلام معك، ويظهر أنه لم يعد يجسر على ذلك منذ الآن ألم تري جبنه وخوفه؟ اطمئني لا تخافي. أستودعك الله.» ومد يده وودعها وخرج.
أما دميانة فوقفت بعد خروج سعيد جامدة، وقد ندمت على مجيئها إلى الكنيسة؛ لعلمها بأخلاق إسطفانوس. وأدرك العم زكريا قلقها فأخذ يخفف عنها ويحقر أمر إسطفانوس في عينيها ويهون عليها غضبه وأنه لا يستطيع أمرا. ثم علت الضوضاء في الكنيسة وتصاعدت رائحة البخور وتعالت أصوات الترتيل وصلصلة المباخر، فتوجهت الأنظار نحو الأسقف داخلا بأثوابه الكهنوتية تتلألأ وبين يديه الشماسة بالشموع والمباخر، فاشتغلت بسماع القداس عن هواجسها إذ كانت تجد في سماعه لذة عظيمة.
قضت في الصلاة وسماع القداس برهة وهي تفهم كل ما يقال لأن الصلاة كانت لا تزال كلها بالقبطية وهي تفهمها جيدا. وكان الظلام قد أسدل نقابه، فازدادت أنوار الشموع ظهورا وكثر الزحام حتى تضايقت دميانة في موقفها. ولحظ العم زكريا ذلك فاستمهلها وذهب إلى شماس يعرفه، واستأذنه في كرسي ترتاح عليه بحيث تسمع الصلاة بعيدا عن الضوضاء. فأجاب الشماس طلبه ودعاها إلى كرسي بجانب الهيكل بعيد عن الناس. فجلست عليه ووقف العم زكريا بين الحضور وهو يراعيها وينتظر إشارتها.
فلما جلست هناك أشرفت على الجماهير وأكثرهم من أهل القرى والعمال بين مصغ للقداس ومشتغل بالحديث. وفيهم النساء والأطفال والضوضاء غالبة لشدة الزحام. ومع تلذذها بما تسمعه من التراتيل الروحية فإن صورة سعيد لا تزال تعترض تصوراتها فإذا تذكرت ما دار بينهما اختلج قلبها وإذا تذكرت إسطفانوس انقبضت نفسها، وفيما هي في ذلك رأت الجماهير يتفرقون وقد فتحوا في وسطهم طريقا دخله جماعة يحملون تابوتا عليه رسوم كنائسية. حتى إذا توسطوا الكنيسة وضعوه على منضدة قائمة هناك، وخشع الناس لرؤيته ودنا الأسقف منه بالمباخر، وأخذ يتلو الصلوات والأدعية ويتضرع إلى الله أن يقبل احتفالهم ويبارك النيل إذا ألقوا التابوت فيه والناس على دعائه. •••
فرغ الأسقف من الصلاة ، وأخذ الناس ينفضون ويخرجون فنظرت دميانة إلى العم زكريا في المكان الذي عهدته فيه، فلم تجده فارتبكت في أمرها، وأجالت نظرها في الجمع لعلها تجده بينهم، فلم يقع بصرها عليه، فازدادت قلقا إذ خافت أن يخرج الناس كلهم ولا تراه. لكنها ما عتمت أن رأته داخلا مسرعا، فسري عنها ولما دنا منها سألته عن سبب غيابه فقال: «فكرت فيما نعمله بعد انقضاء القداس، وأنا أعلم أنك لا تحبين الذهاب إلى فسطاط إسطفانوس، فذهبت إلى أبيك واستأذنته في أن نعود للمبيت في الدهبية.»
ففرحت لهذه الفكرة وقالت: «وهل أذن لك في ذلك؟»
قال: «نعم هيا بنا إذا شئت.»
فنهضت ومشت في أثره حتى خرجت من الكنيسة، فرأت ما أدهشها من الأنوار الكثيرة في الخيام على الضفتين وفي الجزر وفيها المصابيح والمشاعل وقد تزاحم الناس وعلت ضوضاؤهم بين غناء ونداء وعربدة وقهقهة. ولفت نظرها ما شاهدته هناك من الأنوار السابحة في النيل على الحراقات، فإنها كانت كثيرة وفي كل حراقة جماعة يشربون ويعربدون ويصيحون، وقد اختلط حابلهم بنابلهم رجالا ونساء.
فأضاء العم زكريا مصباحه ومشى بين يدي دميانة في طريق قليل الزحام بعيد عن الشاطئ حتى إذا قابل الدهبية تحول نحوها ودميانة تقتفي أثره وعيناها شائعتان في عرض النيل تتفرس السفن لعلها تميز سفينة ابن طولون فلم تجدها وما زال العم زكريا حتى صعد بها إلى دهبيتهم وما دخلت غرفتها وبدلت ثيابها وجلست للاستراحة حتى جاءها العم زكريا بطعام تناولت بعضه وهي لا تشعر بالنعاس فصعت إلى مجلسها في أعلى السفينة وأعادت نظرها إلى الحراقات والسفن وهي تبحث عن سفينة ابن طولون وتظهر أنها تتفرج على الحراقات، فتحققت غياب السفينة. وكانت قد ضاقت بما تسمعه من ألوان العربدة في السفن حولها فأوت إلى فراشها.
وأفاقت في فجر اليوم التالي على صراخ الناس عند خروج الأسقف والكهنة بالتابوت. وكانوا قد حملوه على قارب وعليه الأزهار والرياحين وقد أخذ الكهنة في الترتيل والأدعية، والقارب يخترق النيل حتى إذا وقف في مكان يعرفونه أنزلوا التابوت في الماء ثم أعادوه، وأخذت جماهير الناس تتفرق برا وبحرا.
ولم تشرق الشمس حتى رأت أباها عائدا مع إسطفانوس في حالة تشمئز منها النفس من السكر، وهما يحاولان إخفاء حالهما حياء من دميانة، وهي تتجاهل ما تراه وتتشاغل بشئونها.
وذهب إسطفانوس توا إلى غرفته وبدل ثيابه، ولبس ثوبا نظيفا وبالغ في التطيب والتعطر، ولكن رائحة الخمر بقيت تتصاعد من فيه.
واغتنم اشتغال مرقس عنه وأتى إلى دميانة وكانت وحدها جالسة على وسادتها، فلما رأته قادما استعاذت بالله وأقبل إسطفانوس عليها وألقى التحية وهو يتضاحك واللؤم باد في وجهه وقال: «حقا إن جاركم رجل شريف غيور.»
فلم تجبه ولكنها تشاغلت بإصلاح خمارها؛ لعلمها أنه يتذرع بما قاله إلى الإيقاع بسعيد، وهي لا تطيق ذلك. فلما رآها ساكتة قال: «لماذا لا تجيبين يا دميانة؟ لعله أوصاك بألا تكلميني!»
فنظرت إليه شزرا وأنكرت هذا التلميح. وبان الإنكار في عينيها. وعمدت إلى تغيير الحديث فقالت: «هل جاء أبي؟ أين هو؟»
قال: «نعم جاء وهل تريدين أن أقص عليه ما جرى بالأمس في الكنيسة؟»
قالت وقد غلبت عليها الأنفة: «كما تشاء افعل ما بدا لك.»
فضحك، وقال: «لا. لا أقول شيئا؛ لأني لا أحتاج إلى نصرته في هذا الأمر. إن إسطفانوس ابن المعلم حنا كاتب المارداني لا يصبر على ما سمعه من ذلك الجار العزيز.»
فلم تستطع صبرا على كذبه وريائه فقالت: «ولماذا صبرت على ذلك بالأمس؟»
قال: «أتريدين أن أبارزه في الكنيسة؟» وكأنه أدرك أنه لا ينبغي له أن يبوح بما عزم عليه فقال: «ذلك حديث مضى. وقد أعجبتني غيرته على جارته. ولكنه أظهر طيشا وحمقا في دفاعه عنها. لا بأس. سامحه الله!» ثم تظاهر بالتلطف والتودد إليها وقال وهو يجلس على الطنفسة بجانبها: «إننا الآن على أهبة الرحيل وقد قابلت الأسقف في هذه الكنيسة قبل مجيئي الآن.» قال ذلك وابتسم.
فلم تفهم مراده، ولم تشأ أن تستوضحه، فسكتت فقال وهو يدنو منها: «ألا تزالين مستسلمة إلى الحياء مني؟ ألم تفهمي حقيقة أمري؟»
فلما كلمها عن قرب فاحت رائحة الخمر من فيه، فتباعدت عنه وأظهرت النفور فحسبها تداعبه فقال: «ما بالك تهربين مني وأنا لم أزد على التكلم معك، فكيف إذا فعلت غير ذلك؟»
فقالت: «إنما هربت من رائحة الخمر؛ فإني لا أطيقها.»
قال: «يا للعجب! هكذا تنفرين من رائحتها. ينبغي لك أن تعتادينها وإلا فيكون عيشنا منغصا.»
فلم تزد عن هز كتفيها وهي تنظر إلى النوتية وهم يشتغلون برفع المرساة وحل الشراع وإدارة الدهبية للإقلاع وسمع إسطفانوس خطوات مرقس فنهض لاستقباله وهو يقول: «أحس بالدهبية تدول بنا هل أقلع الربان؟»
قال: «نعم إننا ذاهبون إلى الفسطاط.» ثم وجه خطابه إلى دميانة فقال: «أرجو أن تكوني سررت بهذا الاحتفال والفضل في ذلك لصديقي إسطفانوس فإنه - والحق يقال - لم يدخر وسعا في سبيل راحتنا. فأقدرنا الله على مكافأته.»
فسكتت هنيهة، ثم قالت: «إلى أين نحن مقلعون يا أبتاه؟»
قال: «إننا ذاهبون إلى مدينة الفسطاط نقضي فيها أياما، أظنك لا تعرفينها.»
قالت: «كنت أحسبك راجعا بنا إلى بيتنا.»
قال: «أراك شديدة الحرص على غرفتك وكنبك وأيقوناتك. وأنت إلى هذا اليوم لم تخرجي من طاء النمل ولا شاهدت شيئا من مدائن مصر. إن الفسطاط مقر الوالي وأجناده المسلمين وفيها من الأبهة والزخارف ما لا تجدين مثله في القرى.»
قالت: «ما لي وللأبهة والزخارف. إن هذا لا يهمني كثيرا.»
قال: «أنا أعلم أنه لا يهمك ولكني أحببت أن أريك شيئا جديدا.»
قالت: «أوثر الرجوع إلى البيت.»
قال: «سترجعين قريبا. ولكن صديقي إسطفانوس دعانا إلى قضاء بضعة أيام في منزل أبيه بمحلة بابلون قرب الفسطاط، فإذا كنت لا تحبين المرور بالفسطاط سرنا توا إلى بابلون.»
ولما سمعت قوله استعاذت بالله وقالت: «أين نحن من دير المعلقة الآن؟»
قال: «هو في طريقنا بين الفسطاط وبابلون.»
قالت: «إذا لم يكن بد من الذهاب إلى غير بيتنا فإني أحب زيارة هذا الدير؛ لأني نذرت أن أزوره متى سنحت لي الفرصة وفي عنقي صليب من صلبانه.»
فسر مرقس لرغبتها في تلك الزيارة فقال : «ننزل في الدير إذا شئت.» •••
وكانت السفينة قد أقلعت ونشرت أشرعتها وأخذت تخترق عباب الماء، ولم تمض بضع ساعات حتى أطلوا على قصر الشمع - ودير المعلقة جزء منه - فمرت السفينة بين الروضة وقصر الشمع حتى رست بباب القصر وهو يومئذ قريب من النيل، فأخذت تنظر إليه وهو أشبه بالحصون منه بالقصور، ووقفت السفينة بجانب بابه الغربي وهو باب عظيم الارتفاع قائم بين برجين عظيمين مستديري الشكل وفوق الباب نقش عليه صورة النسر الروماني. فأراد إسطفانوس مخاطبتها فقال: «إن دير المعلقة يا دميانة في أحد هذه البرجين.»
فسكتت ولم تجبه فلما رست السفينة هناك اشتغل البحارة بوضع السلم للنزول. فنزل مرقس ونزلت دميانة في أثره ودخل بها الباب، ثم صعد إلى الدير وفيه بعض الراهبات، فلما علمن بقدوم الضيوف خرجن للقائهم. ودعا إسطفانوس الرئيسة كي ترحب بدميانة، فخرجت لاستقبالها ورحبت بها وسارت معها إلى الكنيسة وأرتها ما فيها من الأعمدة على اختلاف أشكالها والأيقونات الثمينة، فخشعت دميانة من تلك المشاهد وظهر السرور في وجهها على عكس أبيها. ولكنه أراد مسايرتها ليسهل عليه بقاؤها حتى ينتقل بها إلى بابلون.
ولما استقر بها المقام قال لها: «إني ذاهب لقضاء بعض المهام في الفسطاط وربما بت الليلة وأعود إليك في الصباح.»
فسرها ذلك، وقالت: «افعل ما بدا لك إنني في خير وطمأنينة، ولو مكثت في هذا الدير أشهرا لا أبالي.»
فودعها وخرج إسطفانوس معه وظلت دميانة وزكريا في الدير.
وقضت ردحا من الليل وهي تسمع ما يقصه عليها الراهبات من أحاديث القديسين وعجائبهم، واستأنست كثيرا بالراهبة التي كانت أهدتها الصليب وباتت على الرحب والسعة.
ولما أصبحت في اليوم التالي أسرعت إلى الكنيسة للصلاة، وبعد أن تعبدت أخذتها رئيسة الدير إلى غرفتها وقد أحبتها وعلقت بها. وفيما هما تتحدثان دخلت عليهما راهبة وعلى وجهها أمارات الدهشة والسرور معا فابتدرتها الرئيسة بالسؤال قائلة: «ما وراءك؟ خيرا - إن شاء الله؟»
قالت: «للأسقف ... الأسقف آت لزيارتنا.»
قالت: «وأي أسقف تعنين؟»
قالت: «أسقف الفسطاط.»
فبان البشر على وجه الرئيسة ، ونهضت للحال، وأمرت بأن يتأهب الراهبات لاستقبال الأسقف، وقامت دميانة معهن وسألت راهبة كانت بجانبها: «أرى أن الأسقف لا يزور الدير كثيرا.»
قالت: «يندر أن يزورنا إلا لأمر ذي بال فعسى أن يكون قدومه بشير خير.»
وما لبث الأسقف أن دخل والراهبات يرحبن به. فعرج أولا على الكنيسة حيث صلى فيها صلاة مختصرة، ثم توجه إلى غرفة الرئيسة، فدخلها وفيها الرئيسة ودميانة. وأكبت دميانة على يده فقبلتها والتمست بركته ودعاءه فباركها وجلس على وسادة وأشار إلى دميانة أن تجلس، وقال للرئيسة: «أليست ضيفتكم دميانة بنت المعلم مرقس؟»
قالت الرئيسة: «نعم يا سيدي، هل تعرفها؟»
فسمعت دميانة اسمها وتعجبت وأطرقت حياء وإجلالا، فقال الأسقف «عرفتها بالأمس عندما كانت في كنيسة شبرا بدعوة من ولدنا إسطفانوس بن المعلم حنا كاتب صاحب الخراج، وقد أوصاني بها خيرا، وبالغ في الثناء على أبيها.»
فلما سمعت ذكر إسطفانوس انقلب سرورها كدرا وسكتت لا تبدي. فقال لها الأسقف: «ألم تكوني مساء الأمس في كنيسة شبرا يا ابنتي؟»
قالت - وقد صبغ الحياء وجهها: «نعم يا أبت، كنت هناك وحضرت القداس وتبركت بدعائك.»
قال: «ببركة القديسين والأبرار يا ابنتي. إني مسرور برؤيتك لفرط ما سمعته من الثناء على تعقلك وتقواك. هل تمكثين طويلا هنا؟»
قالت: «لا أدري ولو خيرت لقضيت عمري هنا.»
فتبسم الأسقف تبسما ذا معنى، وقال: «إن الأديار أفضل المنازل للمسيحيين؛ إذ يتفرغ فيها الإنسان لعبادة الخالق والقيام بفروض الدين، ولكنني لا أدري إذا كانوا يأذنون في بقائك هنا طويلا.»
فأشكل عليها مراده، واستغربت تصديه لهذا البحث عند أول مقابلة، ولكنها تجاهلت وقالت: «إذا كان أهل الدير يخرجونني منه فلا حيلة لي.»
قال: «لا أعني ذلك؛ فإن رئيسة الدير وراهباته يرحبن بك كثيرا، ولكنني أعني أباك المعلم مرقس. ما لنا ولهذا الآن دعينا من هذا الحديث حتى يأتي أبوك.»
فأدركت أنه يشير إلى الأمر الذي ترتعد فرائصها من ذكره، ولكنها تجلدت وسكتت فحول الأسقف كلامه إلى الرئيسة وقال: «كيف حال الدير وراهباته. أرجو أن يكن في راحة.»
قالت: «هن في خير ببركة السيد المسيح ودعائكم.»
قال: «يظهر أن هذا الوالي التركي أرفق بالأقباط من أسلافه العرب.»
قالت: «نعم يا سيدي، فإنه منذ تولى أمر مصر في شاغل عنا بشئون دولته، فلا ندري أخيرا يريد بنا؟ أم يريد بنا شرا؟»
قال: «أظنه يفعل ذلك عن رفق وحسن رأي - أدام الله هذه النعمة علينا.»
فقالت الرئيسة: «آمين.»
وفيما هم في ذلك أتت إحدى الراهبات تقول: «إن المعلم مرقس يلتمس الدخول.» فقالت الرئيسة: «يدخل.»
ولم تمض هنيهة حتى أقبل المعلم مرقس، فأكب أولا على يد الأسقف فقبلها وسلم على الرئيسة، وأقبل إلى دميانة يسألها عن حالها، فقالت: «غمرتني الرئيسة بفضلها ولطفها، فأنا شاكرة فرحة.»
فجلس مرقس وأخذ يكرر تحية الأسقف ويطلب دعاءه. ودارت الأحاديث بينهم عن الأحوال الجارية، وذكروا الاحتفال بعيد الشهيد بالأمس، فأطرى مرقس روعته وما يرجونه من البركة في ماء النيل على أثر إلقاء إصبع الشهيد فيه.
ثم نهض الأسقف وخلا إلى مرقس في غرفة وأقفلا بابها، فأوجست دميانة في نفسها خيفة وتشاءمت من هذا الاجتماع.
أما الأسقف فلما خلا إلى مرقس كلمه في شأن دميانة، وأن إسطفانوس راغب في خطبتها وأثنى على الخطيب فأجابه مرقس بأنه يعلم منزلة المعلم حنا كاتب المارداني وقد صادق ابنه إسطفانوس وعاشره ولا يرى مانعا من عقد الخطبة وقال: «إن أمرا سعى فيه سيادة الأسقف نافذ لا محالة وما دميانة إلا ابنتكم المطيعة.»
فأثنى الأسقف عليه وقال: «على أن ولدنا إسطفانوس قد شكا إلي جفاء الفتاة ونفورها، فإذا كنت تعلم أنها تكره الزواج فقل لي؛ تفاديا لمشكلات ما بعد الزواج.»
قال مرقس: «تكره؟ كيف تكره مثل هذا النصيب؟ أحسبها تتردد حياء على عادة البنات في مثل هذه الحال. وهبها ترددت في أول الأمر، فلا بد من قبولها.»
قال الأسقف: «ألا يجوز أن تكون اختارت شابا آخر وقع من نفسها موقعا جميلا، فنفرت من إسطفانوس؟»
فهز مرقس رأسه استخفافا ودفعا لهذه التهمة، وقال: ما أنا ممن يخيرون بناتهم، ليس عندنا بنات تختار ، إن البنت العاقلة هي التي تعمل برأي أبيها وأحر بها أن تعمل برأي سيدنا الأسقف، ونحن كلنا طوع إرادته.
فتبسم الأسقف وأثنى على لطف مرقس ونهض يقول: «متى تضع عربون الخطبة؟»
قال: «في الوقت الذي تعينه سيادتكم.»
فشكر له ومشى فخف مرقس إلى الباب ففتحه له وكان أحد الشماسة ينتظر خروجه، فتقدم إليه بالصولجان، فتناوله وتلفت كأنه يبحث عن الرئيسة ليودعها، فتقدمت وقبلت يده فباركها، وقال لها: «أوصيك خيرا بدميانة سمية القديسة الشهيرة أين هي؟»
قالت: «في الصلاة فإنها لا تفتر عن العبادة حقا إنها من أهل التقوى.»
قال: «صحيح ولكن لا أظنها تنوي الترهب.» وضحك.
قالت: «إلا إذا اختارها السيد المسيح لخدمته.» ولما رأت الأسقف يضحك أدركت أنه يمازحها ويشير إلى قرب خطبتها، فسكتت، فأعاد الوداع وودع مرقس ومضى.
أما دميانة فلم تعتزل في غرفتها للصلاة فقط، ولكنها خافت خلوة الأسقف بأبيها، وتوقعت أن يستقدمها للأمر الذي تخافه وتنفر منه، فتشاغلت بالصلاة وهي لا تفهم ما تقرأه لقلقها وتبلبل بالها. وكانت ترقب حركات أهل الدير لتعلم ساعة خروج الأسقف فلما علمت أنه مضى لسبيله شكرت الله على زوال الخطر وانتظرت أن تجد زكريا بين يديها عساه يطمئنها. وبعد قليل عاد زكريا ففرحت بقدومه وسألته عن سبب غيابه فقال: «ذهبت في أمر سترين ثمرته الآن.»
فلم تفهم مراده فقالت: «وأي أمر تعني؟ ألم تر الأسقف؟ ألم تعلم بخلوته مع أبي؟»
قال: «كيف لا؟ ولولا علمي بذلك ما ذهبت في هذه المهمة.»
فازدادت قلقا، وبان ذلك في عينيها، فابتدرها زكريا قائلا: «لا تقلقي يا سيدتي اسمعي قرع الباب، ألا تسمعينه؟»
قالت: «أسمعه، وما ذلك؟»
قال: «إن القادم هو أبو صاحبنا إسطفانوس.»
قالت: «أبوه؟ المعلم حنا؟» قال: «نعم.»
قالت: «وما الذي جاء به؟ قال: «أنا دعوته.»
قالت: «أنت ذهبت إليه واستقدمته وكيف ذلك؟ قل.»
قال: «لما علمت بمقابلة الأسقف لسيدي وأبيك أيقنت أنه سيكلمه في الأمر الذي يطلبه إسطفانوس، وأنا أعلم أن أباه رجل عاقل يعرف حقيقة ابنه وأنه ليس كفئا لما يطلبه فذهبت وأسررت إليه الأمر فرأيته كما كنت أظن، ووعدني أن يأتي ليرى أباك.»
قالت - والاستغراب باد في أسرتها: «آت لماذا؟»
قال: «ليرجع أباك عن قبول ابنه.»
فتبسمت والدهشة تمتزج بابتسامتها وقالت: «يرجعه؟ أتظنه يستطيع ذلك؟»
وقطع كلامها وقع أقدام المعلم حنا في صحن الدير، فذهبت إلى نافذة تراه منها ولا يراها فرأته رجلا جليل الطلعة وقورا يبدو التعقل في نظراته، ورأت رئيسة الدير كثيرة الاحتفاء به وهو يقول لها: «بلغني أن المعلم مرقس صاحب طاء النمل هنا.»
قالت رئيسة الدير: «نعم يا سيدي وقد كان مع أسقف الفسطاط وخرج الأسقف وأظن المعلم مرقس لا يزال حيث كانا.» قالت ذلك وهي تمشي بين يديه حتى أدخلته الغرفة فتركته مع مرقس وعادت أدراجها.
أما دميانة فكان اضطرابها عظيما، وتقاذفتها الشجون فلا تدري أتستسلم لليأس أم تتمسك بحبل الرجاء؟ وقد طالت الخلوة وهي تتساءل عما عسى أن تكون عاقبتها. وكلما سمعت وقع خطوات أو فتح باب يخفق قلبها وإذا بصوت المعلم حنا يودع أباها بلحن لم يعجبها، فالتفتت فرأت وجه الرجل متغيرا وأبوها يتواضع له ويتقرب إليه عند الوداع بصوت خافت كأنه يعتذر عن خطأ ارتكبه، فمكثت هنيهة كالضائعة، فجاء زكريا ووجهه ينذر بما وقع فابتدرته قائلة: «لم يفلح الرجل على ما أظن.»
قال: «هكذا يظهر. أخبرني من سمع حديثهما أن المعلم حنا نصح لأبيك برفض خطبة إسطفانوس، وأنه ليس أهلا لك. فجاراه أبوك في الكلام، ثم اعتذر له بوعد مسبق منه للأسقف، وزعم الرجوع متعبا. وأنه سيبذل جهده.»
فلما سمعت دميانة قوله وكانت في مكان لا يراها فيه أحد لم تستطع أن تمسك نفسها عن أن تلطم خديها لطمة خفيفة، وتقول: «ويلاه ما هذه التجربة أبوه نفسه يقول إنه ليس أهلا لي.» وأخذت تبكي، ثم اتجهت نحو أيقونة للسيد المسيح معلقة هناك وقرعت صدرها وتنهدت من أعماق قلبها وقالت: «إلهي اصرف عني هذه الكأس. وإذا رأيت أني مخطئة في نفوري من هذا الشاب فحببه إلي واجعلني أرى خطئي.» وأطلقت لنفسها عنان البكاء.
فقال لها زكريا: «كفكفي دمعك يا مولاتي. سيأتي أبوك كفي عن البكاء واصبري ولا تبالي؛ فقد قلت لك إن ذلك الغر لن ينال قلامة ظفرك سايري أباك ولا تبدي له جفاء واتكلي على السيد المسيح وعلي.»
فاطمأن خاطرها وتراجعت ومسحت عينيها، ثم مشت إلى غرفتها فلقيها أبوها، ولعله رأى أثر الدمع في عينيها، لكنه تجاهل فقال لها: «أنا ذاهب وقد أبيت الليلة خارجا أظن هذا يسرك يا دميانة إذ تفرغين للعبادة.» وضحك فسايرته في الابتسام، فخرج وعادت هي إلى همومها وزكريا يؤكد لها النجاة ويستمهلها حتى يمكن لسعيد عند ابن طولون بعد مد الماء في العين، وما هذا ببعيد.
أما مرقس فبعد اجتماعه بالمعلم حنا وعلمه بإنكاره الزواج بدميانة على ابنه. ذهب الكثير في آماله في المصاهرة؛ إذ كان يرجو أن يستفيد من نفوذ كاتب الخراج فضلا عن صداقته لإسطفانوس، ولكنه خامره الأمل في رجوع المعلم حنا عن رأيه حبا لابنه. ولعل هذا الابن يغير مظهره لدى أبيه عندما يتزوج فيبقى عزيزا عليه ثم إنه - من جهة أخرى - تمسك بقوله تنفيذا لكلمته وعملا بسلطته المطلقة على أهل منزله.
وفي اليوم التالي رأت دميانة أهل الدير في حركة ينظفون ويدبرون كأنهم يتأهبون لاستقبال زائر كبير، ورأت بعض الراهبات ينظرن إليها نظرة ذات مغزى، ولا سيما الرئيسة؛ فقد كانت تجاملها وتبتسم لها فتجاهلت، وسألت الرئيسة عن سبب هذا الاستعداد فقالت: إن سيدنا الأسقف قادم لزيارتنا في أصيل هذا اليوم وبما أننا استقبلناه بالأمس على غرة فرأينا أن نستعد لاستقباله اليوم استقبالا يليق بمقامه لأنه أسقف مدينة الفسطاط وله وجاهة وكلمة نافذة، فضلا عن مركزه الديني.»
فلم يعجبها هذا الخبر وأرادت أن تعيد الاستفهام عن سبب مجيئه، فخافت أن تسمع جوابا ينفر منه قلبها، فسكتت ومضت، فلقيها زكريا وقد علم أن الأسقف آت ليضع عربون الخطبة مع أبيها، فأخذ يشجعها ويؤكد لها مساعدته وأن تمنعها لا يجديها نفعا في ذلك الحال إلى أن قال لها: «إن الخطبة عقد يمكن حله وسواء حل هذا العقد أم لا فلا تخافي يا سيدتي. ومع ذلك فقد يكون أبوك قد اقتنع بكلام المعلم حنا فيؤجل الخطبة إلى وقت آخر.»
فقطعت كلامه قائلة: «لا تدع نفسك خادما؛ فإنك أحنى علي من أبي فإذا شئت فادعني ابنتك. وأما ما تقوله فلا يدعو إلى الطمأنينة، ولو كان أبي رجع عن عزمه لما كان ثمة داع إلى قدوم الأسقف.»
قال: «اتركي الأمر لي حتى أقول كلمتي.»
فقالت: «ومتى تقول كلمتك؟ هل تظنها تنفع؟»
قال: «أقولها عند اليأس وإذا لم تنفع فغيرها ينفع.» قال ذلك ومشى خوفا من أن تستزيده إيضاحا وهو حريص على الكتمان.
خطبة دميانة
في أصيل ذلك اليوم جاء مرقس إلى الكنيسة مرتديا أزهى ملابسه ليقابل الأسقف، ودنا من دميانة وهش لها وبش، وأمسك بيدها وأخذها إلى غرفتها، ومد يده وأخرج من جيبه عقدا من الجوهر يتلألأ كالشمس وقدمه إليها وهو يقول: «ما أجمل هذا العقد يا دميانة؟» وتوقع أن تمد يدها لتتناوله. فلما امتنعت استغرب وقال: «لماذا لا تأخذينه؟ إنه لك!» وتقدم نحوها ووضعه في عنقها وهي ساكتة، وحدثتها نفسها بأن تقطعه وتطرحه أرضا ولكنها أمسكت عملا بإشارة زكريا. فظنها أبوها رضيت فأكب على رأسها وقال: «اعلمي يا حبيبتي أن هذا العقد هدية من إسطفانوس، وهو آت مع الأسقف وأنت تعلمين كم يحبه ويجله؛ لأنه ابن المعلم حنا وهو لطيف العشرة. أتعلمين فيما هو آت مع الأسقف؟»
فلما سمعت ذكر إسطفانوس لم تعد تسلك قياد نفسها فقالت: «لا أريد أن أعرف.»
قال وهو يمازحها: «وكيف ذلك وأنت صاحبة الشأن اليوم؟»
قالت وهي تغص الكلام: «لا شأن لي في الأمر ولو كان لي رأي لما ألبستني هذا العقد ولا أتيت إلى هذا الدير.» وشرقت بدموعها.
فقال: «ألا تزالين تؤثرين الإقامة بطاء النمل على الفسطاط قصبة الديار المصرية ومقر رجال الدولة ومحط رحال أعيان القوم؟»
فتنهدت وسكتت مخافة أن يبدو منها شيء تندم عليه.
أما هو فجعل يغالطها ويفسر نفورها على غير الواقع فينسبه إلى الحياء أو إلى الخوف - على عادة البنات في مثل هذه الحال.
ثم وصل الأسقف واهتم أهل الدير لمجيئه فاستقبلوه بالترتيل والصلاة والبخور فدخل الكنيسة أولا وصلى صلاة حضرتها دميانة مع بقية الحضور خاشعة كعادتها أثناء الصلاة وجعلت تتوسل إلى الله أن يلهمها ما فيه الخير وإذا كان قد جعل إسطفانوس نصيبها فليحببه إليها وتضرعت كثيرا وهي تحاذر أن يراها أحد، وفيما هي في ذلك انتبهت فرأت إسطفانوس داخلا الكنيسة وقد لبس أحسن ثيابه وأصلح هندامه ووقف بجانب أبيها فأجفلت عند رؤيته وكاد الدم يجمد في عروقها، وجعلت تناجي نفسها وتسأل قلبها فلا تراه يزداد إلا نفورا، وكلما قارنت إسطفانوس بسعيد جذبتها عواطفها إلى سعيد ونفرت من إسطفانوس فقام في ذهنها أن الله لا يريده لها. ثم عادت فتذكرت أن الله يوصيها بطاعة الوالدين وإكرامهما فوقعت في حيرة.
قضت في حيرتها أكثر وقت الصلاة والأسقف يروح ويجيء داخل الهيكل بثيابه المزركشة والبخور يتصاعد في فضاء الكنيسة مع أصوات الترتيل، وإذا بها تسمعه ينادي: «يا معلم مرقس.»
فالتفتت فرأت أباها يمشي متجها إلى الأسقف، فأسر إليه هذا شيئا فعاد مرقس إلى دميانة وطلب إليها أن ترافقه إلى ما بين يدي الأسقف، فمشت منقادة كما ينقاد الحمل إلى الذبح. ونادى الأسقف إسطفانوس فجاء ووقف هناك فرفع الأسقف يده وبارك وصلى، ثم مدها إلى إسطفانوس وتناول منه خاتما صلى عليه وألبسه لدميانة وهو يتلو ما جرت به العادة، وأعلن أنه قد عقدت خطبة دميانة على إسطفانوس.
كل ذلك ودميانة ساكتة والدمع يتساقط على خديها وخافت أن تخونها قواها فتسقط على الأرض فتجلدت. فلما وضع الخاتم بيدها لم تعد تملك قواها، فوقعت على الأرض، فتراكضت الراهبات إليها ونضحتها بالماء المقدس، ونسبن ذلك إلى تعبها أو حيائها، وأتينها بزيت من مصباح أمام صورة العذراء مسحوا به جبينها، فأفاقت وحملنها إلى غرفتها، ولما أتم الأسقف الصلاة ذهب مع أبيها إلى متوسدها، وأخذ يخفف عنها تارة ويمازحها أخرى وإسطفانوس يعلم أن ما هي فيه سبب فرط تأثرها، وأنها قد غلبت على أمرها رغم حبها لسعيد. واختتم الاحتفال بالخطبة للتوعك الذي أصابها وتفرقوا.
وكان زكريا أشد الحضور تألما مما حدث، وهم بأن يكلم مرقس في الأمر قبل عقد الخطبة، ولكن الأسقف لم يترك له مجالا وبادر إلى إتمامها. فلما رأى ما أصاب دميانة صبر حتى ذهب القوم وطلب مقابلة مرقس، وكان هذا قد هم بالخروج مع إسطفانوس فودعه على أن يلتقيا بعدئذ، ورجع إلى زكريا وقال: «ماذا تريد؟»
قال: «إذا أذن مولاي بخلوة قلت له ما أريد.»
فأظهر تململا من هذا الطلب، ولكنه مشى أمامه إلى غرفة دخلها وجلس على وسادة وقال: «ماذا تريد؟»
فقال زكريا: «لا بد أن ما أصاب سيدتي دميانة قد أثر في نفسك كثيرا.»
فضحك متهكما وقال: «لا لم يؤثر في، وأراه أثر فيك أنت فقط.»
فشق هذا التهكم على زكريا ولكنه تجلد، وقال: «لم أكن أنتظر هذا الجواب يا سيدي، وليس هذا ما أريد أن أقوله.»
قال: «قل ما تريد، إن دميانة لم تركب رأسها إلا بسببك ولولاك لكانت مطيعة راضية.»
فأطرق زكريا وهو يعمل فكرته، ويستشير نفسه: هل يجيب مرقس بما يستحقه أم يصبر عليه. واستبطأ مرقس جوابه فقال: «هل لديك شيء آخر تقوله؟»
فقال: «عندي أشياء كثيرة، ولكنني لا أقولها ما دمت تخاطبني بهذه اللهجة، ولا أرى مسوغا لها كأن سيدي نسي حقيقة مركزي في منزله، فأنكر اختصاصي بخدمة دميانة وإخلاصي لها.»
فأجابه: «لم أنس ذلك، ولكنك بالغت في إغرائها بأبيها حتى كادت تعصي كلمته.»
قال: «بماذا أغريتها يا سيدي؟ أظنك تعني نفورها من خطيب اليوم. أقسم لك بالسيد المسيح أني لم أؤثر في رأيها ولا غيرت شيئا من عزمه، ولكني رأيتها نافرة منه، ولو استعانتني في التخلص منه فإن ضميري وذمتي لا يساعدانني على ردها.»
فابتدره مرقس قائلا: «وتجرؤ على ادعائك أنك لم تغير عزمها؟ ألم تكن راضية به يوم كنا في طاء النمل، فما الذي جرى الآن؟ ولكنها لن تتزوج إلا به رضيت أم لم ترض.» قال ذلك والغضب باد في عينيه.
فأجابه زكريا بصوت منخفض يرتجف غضبا: «إذا أصررت على ذلك ماتت كمدا.»
قال: «لا. لا تموت كمدا إلا إذا ظللت على إغرائها؛ فإنك تقتلها، دعها وشأنها، دعها لأبيها فإنه ولي أمرها.»
فأدرك زكريا تلميحه فقال: «أنت تعلم يا سيدي أني لا أقدر أن أتخلى عنها عملا بالوصية التي أوصيت بها يوم ولادتها، وقد مضى هذا الزمن ولم تر مني ما ساءك، أما الآن فأنا على يقين أنها تكره هذا الشاب، ولو دققت لحمها ولحمه في وعاء لما امتزجا وأنا إنما أريد الخير لها ولك؛ لأنك إذا أصررت على إكراهها تقتلها أو تكرهها على أمور لا ترضيك.»
فقال: «لا تجسر على شيء؛ فهي ابنتي ولا تخرج عن طاعتي ولم تجر العادة بأن يترك البنات وشأنهن في الزواج يقبلن هذا ويرفضن ذلك. أم هي أعلم مني بما ينفعها ويضرها؟»
فقال زكريا بهدوء ورزانة: «ولكن تعلم أيضا أن لدميانة مع أبيها شأنا يختلف عن شئون سائر البنات مع آبائهن.»
فوقع هذا القول على مرقس كالصاعقة رغم أن زكريا خفض من صوته ورغم تلطفه في التعبير وقال: «لا أعرف لها شأنا آخر.»
قال: «إذا كنت لا تعرفه أنت فأنا أعرفه.»
فوقف عند ذلك مرقس كأنه يهم بالخروج، وقال: «لا يهمني ما تعرفه ولكنني أنصح لك أن تخلي بيني وبين ابنتي ولا تغريها بمعصيتي.»
قال: «لو كان ذلك في طاقتي لخليتها ولكنني مؤتمن على أمر يقتضيني أن أحافظ عليها إلى آخر نسمة في حياتي.»
فقال مرقس: «طيب، افعل ما تشاء.» وخرج وقد ازداد عنادا. •••
سار مرقس توا إلى صديقه إسطفانوس، فرآه جالسا إلى المائدة وبين يديه آنية الشراب وقد تناول شيئا منه. وآنس في وجهه عبوسا كأنه يشرب ليذهب غضبه فلم يفته السبب فبعد أن حياه وجلس إليه سأله عن سبب غضبه فأنكر الغضب في بادئ الرأي فقال مرقس: «لا تنكر على ذلك؛ فإني أعرف السبب.»
قال: «لو كان ذلك في طاقتي لخليتها، ولكنني مؤتمن على أمر.»
فقال: «أسألك؛ لأني أحب أن أعرف هل أصاب ظني.»
فقال إسطفانوس: «أنت مصيب إذا كنت تظنني غضبت لما صدر من دميانة، فهل تعرف سبب هذا العمل؟»
فقال: «أظنني أعرفه إن زكريا خادمها هذا النوبي يغريها بالعناد، ولولاه لكانت أطوع لي من بناني، وقد وبخته اليوم وأسمعته ما لا يرضيه.»
فابتسم إسطفانوس على رغم ما كان فيه من الغضب، وقال: «إنك ظلمت زكريا بهذا الحكم ليس هو سبب العناد، أنا أعرف السبب.»
قال: «وما هو؟»
قال: «أتذكر ليلة جاءنا أبو الحسن وطلب دميانة لذلك الشاب المهندس؟»
قال: «أذكر ذلك، ولكننا رددناه وليس له عندنا أرب.»
قال: «هذا ما تقوله أنت، ولكن سعيدا ما زال يتطاول إلى تلك الأمنية.» وهز رأسه حقدا.
فقال مرقس: «بماذا يرجو أن ينالها؟ لا، لا تصدق ذلك.»
قال: «كيف لا أصدق؟ وقد رأيته يكلمها ويدافع عنها وهي تلجأ إليه وتتكل عليه؟ شاهدت ذلك بعيني.»
قال: «ليتك قضيت عليه في تلك الساعة.»
قال: «لم أشأ أن ألوث يدي بدمه ولكنني سأنصب له فخا يكفينا شره ولا يحملنا وزره، لست أنا ممن يفاجئون الأعداء بقوة البدن؛ فإن المقاومة وجها لوجه لا تخلو من خطر. والعاقل من نال من عدوه بالحيلة والمكر، فيرديه وينتقم منه بدون أن يسأله سائل، فالنزال بالأيدي أو الأرجل من طباع البهائم، وإنما يحارب الرجال بالعقل. وسوف يرى هذا الرجل الذي لا يعرف أباه أن إسطفانوس لا يستهان به.» قال ذلك وهو يشمخ بأنفه ويصعر خده ويعد أقواله حججا دامغة. ولعل صديقه مرقس يوافقه عليها وقد يوافقه عليها آخرون فإن القول بأن «الناس تتحارب بالعقول» وجيه لو أنه لا يخفي عزمه على الإيقاع بسعيد غدرا فهو يعد الخيانة والجبن حرب عقول. فاستخف بأمر سعيد وقال إسطفانوس: «ما لنا وله؟ دعه وشأنه فإنه أعجز من أن يصل إلى دميانة ما دمت حيا، ولا أظنه إلا سيقلع عن غيه متى صليت صلاة الإكليل وصارت دميانة زوجة لك.»
ففكر إسطفانوس قليلا، فرأى أن صلاة عقد زواجه قد تسكت دميانة، لكنه بقي خائفا على نفسه من غضب سعيد، وقد رأى أنموذجا من شدته يوم الاحتفال، فعزم على التخلص منه وأسرها في نفسه ولم يبدها لمرقس، فقال: «لا ريب أن المبادرة إلى الإكليل خير وسيلة لقطع ألسنة الحاسدين وكبت أنفاس المبغضين، ولكنني أحب أن يكون ذلك برضا خطيبتي وبما أن سبب جفائها إنما هو اعتزازها بهذا الشاب لمنزلته من صاحب مصر، فأحب أن تدرك خطأها قبل يوم زفافها. إن ما يرجوه هذا الشاب من وراء ما صنعه لابن طولون إنما هو أضغاث أحلام ستظهر عند الاحتفال بفتح العين وسترى ذلك عيانا.»
قال: «متى يكون الاحتفال؟»
قال: «بعد بضعة أيام، وسأدعوكم لمشاهدة موكبه فأجلسكم في مكان مرتفع تشاهدون منه الاحتفال عن بعد كأنه بين أيديكم، وستكون دميانة معكم، وترى مصير ذلك المغرور فترجع إلى صوابها وتذعن ويرتاح بالها.»
فاطمأن قلب مرقس، وإن كان لم يفهم نية إسطفانوس، وتواعدا على الذهاب لمشاهدة موكب ابن طولون يوم الاحتفال فقال مرقس: «أين الاجتماع؟»
قال: «سأستأذن صديقا لي بالديوان في أن يدخلنا قبة الهواء القائمة على سفح المقطم، ويختصنا بمكان يشرف على كل ما هنالك من السهول، فنرى الحفل بين أيدينا.»
فاتفقا على الموعد وافترقا. •••
كانت قبة الهواء بناء أقامه أمراء مصر على سفح المقطم مكان القلعة اليوم، وأول من بناها حاتم بن هرتمة في أواخر القرن الثاني للهجرة، وجعل الأمراء بعده يتخذونها مصيفا أو متنزها. ولما جاء المأمون إلى مصر سنة 217ه جلس فيها حتى إذا أفضت إمارة مصر إلى ابن طولون ابتنى قصره تحتها، وبنى القطائع وراء ذلك بينها وبين الفسطاط. وكان كثيرا ما يقيم بالقبة المذكورة؛ لأنها كانت تشرف على قصره. وهذه القبة بضع غرف مفروشة بأحسن الرياش، عليها الستور الجليلة، ولها فرش لكل فصل. ولما ذهبت دولة بني طولون وخربت قصورهم كانت قبة الهواء في جملة ما خرب.
أما يوم احتفال ابن طولون بجر الماء في العين فقد كانت القبة في إبان عزها. وفي صباح يوم الاحتفال ذهب إسطفانوس إلى دير المعلقة ودعا مرقس ودميانة لمشاهدة موكب ابن طولون منها، فقبلت دميانة ؛ لأن ذلك بغيتها. فسارت راكبة على حمار من حمر الدير، ومشى زكريا في ركابها، وأخذ يحدثها عن الاحتفال، ويمنيها بقرب الفرج حتى نسيت متاعبها وهواجسها وامتلأ صدرها رجاء، وأوشكت أن تقبض على السعادة بيدها.
التقى الكل عند سفح المقطم نحو الضحى، فأسرع إسطفانوس ومشى بين أيديهم صاعدا حتى أتى قبة الهواء، وكان قيمها واقفا في انتظاره، ففتح له بابا دخل فيه ورفاقه إلى شرفة بها أعمدة عليها الستور المزركشة أو المطرزة، تشرف على ما تحت المقطم من الميادين أو الأبنية أو غيرها. وأخذ إسطفانوس يساعد الفراش في تهيئة القاعة اللازمة لمرقس وابنته وله. على أن حديثه كان موجزا ولم يقرب من دميانة كعادته فظنته قد تأدب. ولم تخفه أو تنفر من رؤيته ليس لأنها تعودته أو أخذت تميل إليه، وإنما نظرا لقرب نجاتها منه بعد فوز سعيد. ناهيك بما كان يجول في خاطرها من الآمال الكبيرة بعد حصولها على حبيبها. على أن لهفتها لمشاهدة سعيد في ذلك الموكب بعد بجانب ابن طولون صاحب مصر؛ شغلها عن الاهتمام بشيء آخر.
فبعد أن استقر المقام بهم اعتذر إسطفانوس بأمر يدعو إلى انصرافه على أن يعود بعد قليل فقال له مرقس: «وأنا أيضا ذاهب في مهمة بمكان قريب، فهل تبقى دميانة وحدها؟»
فقالت: «اذهب يا أبي، وهذا زكريا يمكث معي ولا خوف علي. ولا تجعلني عثرة في طريق راحتك.»
فأظهر مرقس أنه لا يضمر حقدا على زكريا، وقال: «حسنا. ها أنا ذا ذاهب.» والتفت إلى زكريا وكان واقفا بقرب الباب وقال له: «لا حاجة بي لأن أوصيك بدميانة.»
فأشار زكريا مطيعا، وظل واقفا حتى خرج مرقس، ثم مشى نحو دميانة فرآها مشرقة الوجه على غير ما تعوده منها في المدة الأخيرة؛ فإنها كانت لا تبرح منقبضة الصدر لا يحلو لها طعام ولا كلام. فوقف بين يديها وهي جالسة على مقعد ثمين يطل الجالس عليه على القطائع والفسطاط فأشارت إليه أن يجلس، وألحت على البساط بين يديها وهو يقول: «قد آن الوقت للتخلص من هذا الغلام.»
قالت: «أتظن هذا اليوم آخر أيام الانتظار ولكن كيف نجتمع بسعيد، ومتى، آه، آه.»
قال: «إني غير غافل عن شيء، فقد لقيت سيدي سعيدا بالأمس، وتواعدنا على أمور سأقصها عليك.»
قالت: «متى يبدأ الاحتفال؟ إني لا أرى أحدا.»
قالت: «لا يلبث أن يبدأ. ستشاهدين عظمة ابن طولون وفخامة ملكه. سترينه في موكبه. انظري إلى هذا البناء الذي هو أقرب سائر الأبنية إلينا في سفح هذا الجبل. إنه قصر ابن طولون، وهو قصر فخم لم ير مثله في هذه الديار إلا ما خلفه الفراعنة من الهياكل. انظري إلى هذا الميدان أمام القصر وتأملي الجماهير المتزاحمة فيه بين راكب وماش رجالا ونساء، إنه الميدان الذي يلعب فيه ورجاله على خيولهم بالصوالجة (الكرة والصولجان). وترين للميدان والقصر سورا فخما له عدة أبواب منها باب الجيش الذي ترين الجند ببابه عليهم الأسلحة، وباب آخر يقال له باب الجبل عدا باب الخاصة وباب الحرم الخاص بدخول نساء القصر أو الخدم. وهذا الباب الذي تشاهدين عليه تمثالي سبعين هو باب السباع، ومنه يخرج ابن طولون ويدخل وأظن الموكب سيخرج منه الآن وهو ذو ثلاث فتحات: يخرج الوالي من الفتحة الوسطى ويخرج رجاله من فتحتي الجانبين. وإن أمر هذا الوالي عجيب لعلو همته. انظري فوق هذا الباب تري مجلسا يشرف على سائر القطائع، وهي الأبنية التي ترينها وراء القصر في جهة الفسطاط. فيجلس ابن طولون في هذا المجلس كل يوم عرض أو احتفال، يراقب حركات رجاله وما يحتاجون إليه.»
فقالت دميانة: «وأين يقيم المهندسون؟»
فضحك زكريا وقال: «لا أعرف مكانا خاصا بهم. ولكني أعرف واحدا منهم فقط، وأعرف أين يقيم ... هل أقول؟»
فقالت: «لا» وبان الخجل في وجهها وغيرت الحديث فقالت: «سمعتك تذكر القطائع، فما المراد بها؟»
قال: «هي يا سيدتي أبنية بناها ابن طولون لسكنى جنده ورجال خاصته، ومتى تم لمولاي سعيد ما يريد وأصبح من خاصته أعطاه قصرا في القطيعة اللائقة بمقامه. وقد سميت هذه الأبنية بالقطائع؛ لأنها مؤلفة من أحياء يعرف كل منها باسم قطيعة. ويسكن كلا منها طائفة من الجند أو الرجال فللنوبة أبناء بلدي قطيعة مفردة تعرف بهم وللروم قطيعة وللفراشين قطيعة تعرف بهم، ولكل صنف من الغلمان قطيعة. أما رجال الدولة كالقواد والخاصة فقد بنى لهم أبنية أرجو أن يكون لسيدي قصر منها. وترين بين هذه القطائع الأسواق والأزقة والطرق بنيت فيها المساجد والطواحين والحمامات والأفران وسميت الأسواق بها فيقال سوق الجزارين وسوق البقالين. ولا أطيل الكلام عليك.»
فقطعت دميانة كلامه وقالت: «إن بناء هذه القطائع يستغرق أموالا طائلة وفي الفسطاط قصور وأسواق كثيرة، فلماذا لم يقم بها؟»
قال: «لأنه يخاف على نفسه من أهلها بعد أن غلبهم على مدينتهم وفيها أحزاب خضعت له كرها، فخطط هذا البلد وبناه أشبه بالحصون منه بالقصور. أما الأموال وإنفاقها فلا تسلي عنها. ألا ترين هذا البناء الشاهق القائم في أطراف هذه القطائع؟ تأمليه.»
قالت: «إني أرى قصرا فخما هل هو من بناء ابن طولون أيضا.»
قال: «نعم ولكنه ليس قصرا، وإنما هو مارستان. أتعرفين ما معنى هذه اللفظة؟»
قالت: «كلا، إني لم أسمعها قبل الآن.»
قال: «صدقت؛ لأن هذا البناء لم يسبق له مثيل في هذه الديار. هو يا مولاتي بيت المرضى يستشفون فيه من أدوائهم.»
قالت: «وهل بناه لهذه الغاية؟»
قال: «نعم، وهو من حسناته في إعانة الفقراء.»
فاستغربت دميانة قوله، وقالت: «إن تشييد هذا البناء يستغرق أموالا طائلة، وقد كنا نرى حكامنا يشكون الفقر ويشقون على الرعية بالضرائب لسد حاجتهم.»
فقال: «إن هذا المارستان لم يبن من مال الرعية؛ فإن ابن طولون ظفر بكنز في هذه الصحراء فيه ألف ألف دينار بنى منها هذا المارستان شكرا لله. وقد عني بتنظيمه وحرص على توفير العلاج به، وخصص له الأطباء وشرط أن إذا جيء بالعليل تنزع ثيابه وتحفظ عند أمين المارستان ثم يلبس ثيابا ويفرش له وتقدم له الأدوية والأغذية حتى يبرأ. وكان ابن طولون يذهب بنفسه في كل يوم جمعة يتفقد خزائن المارستان ومن بها من الأطباء، وينظر إلى المرضى وذوي العلل والمحبوسين من المجانين، ويعرض نفسه لخطر جنونهم وكثيرا ما تعرضوا بالأذى.»
موكب ابن طولون
كانت دميانة تسمع ولا تعي ما يقوله زكريا؛ فإن ذهنها كان مشغولا ولم تحول عينيها عن ميدان القصر عساها ترى الموكب يتأهب للخروج، أو عساها ترى سعيدا واقفا أو ماشيا ثم رأت الأعلام تخفق والرجال يجتمعون فصاح زكريا: «هذا الموكب يتأهب.» وأشار إليها أن تنظر إلى باب السباع فرأت الناس يتزاحمون عنده والحرس يطردونهم لتخلو الأبواب لخروج ابن طولون وموكبه، فتطلعت إلى ما حولها فرأت الناس في الطرق وعلى أسطح المنازل يتدافعون لمشاهدة الموكب. أما هي فلم يكن يهمها من ذلك كله إلا أن ترى حبيبها راكبا بجانب ابن طولون ليفرح قلبها، فثبتت نظرها بالباب وبعد برهة سمعت أصوات الطبول والأبواق تقترب حتى خرج أصحابها من باب السباع مشاة والناس يوسعون لهم الطريق. ثم أطلت أعلام ابن طولون وخرجت من البابين الجانبين يحملها رجال بألبسة خاصة. وظلت هي تحدق ببصرها في الباب الوسط الذي تنتظر أن يخرج ابن طولون منه.
ثم رأت طائفة من الغلمان يخرجون من البابين الجانبيين صفوفا وعليهم أفخر ما يكون من اللباس والعدة، وفيهم جمال باهر وقامات طويلة وبأس شديد وعليهم أقبية ومناطق ثقال وبأيديهم مقارع غلاظ على طرف كل مقرعة مقمعة من فضة ولهم هيبة عظيمة. وكان زكريا يراقب ما يبدو من دميانة عند مشاهدة هؤلاء، فلما رأى دهشتها قال لها: «أتعرفين هؤلاء؟»
قالت: «هممت بأن أسألك. ولكنني خفت أن ألهو بسماع جوابك عن مرور الوالي.»
قال: «لا تخافي لم تأت ساعته بعد. وإذا خرج فإنه أمامنا. إن هؤلاء الغلمان كانوا لابن المدبر صاحب خراج مصر قبل مجيء ابن طولون، ولهم حكاية لطيفة تدل على علو همة هذا الرجل. ذلك أن ابن طولون لما تولى إمارة مصر كان ابن المدبر صاحب الخراج عليها كما هو المارداني الآن. وكان ابن المدبر هذا شديدا على الناس وفيه دهاء، فأحب أن يكتسب ثقة ابن طولون أو يبتاع سكوته عن أعماله. فلما علم بقدومه خرج للقائه ثم بعث إليه هدية قيمتها عشرة آلاف دينار فردها، وكان قد شاهد هؤلاء الغلمان في خدمة ابن المدبر، فطلب إليه أن يعوضه من الدنانير بهؤلاء الغلمان فلم يسعه إلا الامتثال فأرسلهم إليه، وأصبح من ذلك اليوم يخافه.»
وكانت دميانة تسمع لحديث زكريا وعيناها شاخصتان نحو الباب الأوسط، وإذا بالغلمان يتنافرون منه ثم أطل ابن طولون على فرسه وعليه لباس الإمارة وقد تجلت الهيبة في محياه وبان التعقل في حركاته، وهو مع ذلك يلتفت إلى الناس ويبتسم وهم يتراكضون للتبرك بطلعته ولا سيما العامة وأهل الأسواق الذين يندر أن يشاهدوه.
خرج ابن طولون من الباب وحده، فاختلج قلب دميانة تطلعا إلى من يكون بعده. وإذا بفارس فتي عليه لباس فاخر وفي وجهه جمال باهر، تتجلى فيه دلائل الصحة والقوة، تحته فرس من جياد الخيل وفي ركابه غلامان عليهما ألبسة حمراء مزركشة قد شمرا سراويلهما عن ساقيهما، وكانت دميانة تتوقع أن ترى سعيدا وراء ابن طولون فرأت هذا الفارس ولم تعرفه فسألت زكريا عنه فقال: «هذا خمارويه ابن الأمير وهو خير أبنائه وأعزهم ولا يغرنك صغره؛ فإنه شديد البأس ولوع بالصيد ولا سيما صيد السباع فلا يسمع بسبع إلا خرج إليه ومعه رجال عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابة عنوة وهو سليم، ثم يضعونه في أقفاص من خشب محكمة الصنع يسع الواحد منها السبع وهو قائم، فإذا قدم خمارويه من الصيد سار إلى القفص وفيه السبع بين يديه وقد جمع في قصره كثيرا من السباع.»
ولما بلغ زكريا إلى هنا لاحظ دميانة لا تعيره التفاتها؛ لأن عينيها شائعتان نحو الباب. ولا تسل عن لهفتها لما رأت سعيدا مقبلا على جواد تعودت أن تراه مقبلا عليه في طاء النمل وقد جاء بعد خمارويه بنحو مائتي ذراع فلم تتمالك أن قالت: «سعيد؟ هذا هو سعيد!» ثم انتبهت لنفسها والتفتت إلى ما حولها فلم تجد أحدا غير زكريا فاطمأن خاطرها فقال لها زكريا: «هذا هو سيدي البطل.»
فقالت وعيناها تلمعان والفرح يطفح من قلبها: «زكريا هل تجد بين هؤلاء الفرسان أجمل من سعيد أو أقرب منه إلى القلب؟» ثم ندمت على هذه الخفة وتشاغلت بالمشاهدة وتتبعت مسير الموكب نحو المغافر حيث بنيت العين ولحظت بعد أن خرج الموكب من الميدان وسار في الصحراء أن ابن طولون أشار إلى سعيد، فأسرع إليه حتى حاذاه، وأخذا يتحدثان، فكاد قلبها يطير من الفرح، وأحست كأنها قبضت على السعادة بيدها.
وكان زكريا يراقب ما يبدو منها ويفرح لفرحها وقلبه ينعطف إليها ويتمنى لها السعادة ولو بذل نفسه في سبيل ذلك. فلما رأى فرحها شاركها فيه لكنه لم يكن ممن يستسلمون لظواهر الأمور وقد علمته الأيام ألا يفرح بالآمال إلا بعد تحقيقها، ولكنه ساير دميانة ووجه التفاته إلى مسير الموكب نحو العين.
ولم تكن دميانة ترى من ذلك الجمع غير سعيد، تراعي حركاته وسكناته، وتحسب الذين حوله أشباحا لا أجسام لها. ولما تباعد الموكب عنها وقفت ووقف زكريا، وأخذا يتطاولان لمشاهدة مسير القوم، فقالت دميانة: «إلى أين هم سائرون؟ إني أراهم بعدوا كثيرا.»
قال: «إلى العين يا سيدتي.»
قالت: «أين هي؟ إني لا أراها ولا أعرف محلها.»
قال: «ألا ترين المغافر هناك؟»
قالت: «أراها، لكنني لا أثبتها لبهرجة أشعة الشمس على صخورها.»
فتطاول بعنقه وتفرس في المكان، وقال: «ألا ترين تلك البقعة المرصفة بشكل مربع؟ إن الأشعة تتلاعب عليها، وتنعكس عنها.»
قالت: «نعم أرى البقعة وحولها الجماهير من الناس.»
قال: «هؤلاء جماهير العامة ينتظرون وصول الموكب ليروا الماء يجري ويفرحوا به، أو يشاهدوا الموكب وما معه من الأعلام أو لسماع الطبول والأبواق.»
وكان الموكب قد اقترب من المغافر حتى إذا دنا من المصطبة حول العين تراجع الناس وتقدم ابن طولون وحده وترجل عند ذلك سعيد ومشى بين يديه يريه هندسة البناء وكيف يجري فيه الماء فشاعت عينا دميانة لرؤيته وتعب بصرها من التحديق في أشعة الشمس ولكنها كانت ترى ابن طولون يجول بفرسه على المصطبة وسعيد يظهر ويختفي وراء فرس ابن طولون.
وفيما هي في ذلك رأت ابن طولون هوى بجواده وسقط على الأرض، فسقط قلبها معه وصاحت بأعلى صوتها: «باسم المسيح باسم العذراء.» وخافت أن يقع الجواد على سعيد فيؤذيه على أنها ما لبثت أن رأت ابن طولون نهض وقد وقعت قلنسوته ثم أومأ إلى الجند فتسارعوا إلى سعيد وقبضوا عليه وشقوا ثيابه وتناول أحدهم سوطا وأخذ يضربه ضربا متواليا. فأحست دميانة كأن الضرب واقع على رأسها، فلم تتمالك أن وقفت فجأة ولطمت وجهها بكفيها وهي تقول: «ويلاه ماذا يفعلون أيضربون سعيدا آه. آه، ويلاه.» وأخذت فرائصها ترتعد ونسيت موقفها.
وتحقق زكريا أنهم يضربون سعيدا ولا فائدة من التكذيب، فأخذ يخفف عنها ويغالطها وهي تقول: «إني أراهم يضربونه وأشعر كأن ذلك الضرب واقع على قلبي. ويل لهم لماذا يضربونه؟ أهذا جزاء من أحسن عملا؟»
فأمسك زكريا بيدها وأجلسها وقال: «تمهلي يا سيدتي ريثما نرى الحقيقة، ولا بد لذلك من سبب، كوني عاقلة صبورة مثل عهدي بك.»
ورأتهم بعد أن فرغوا من ضرب سعيد يشدون وثاقه ثم يسوقونه إلى المطبق، فكاد الدم يجمد في عروقها. على أنها لما رأته حيا يمشي هدأ روعها وكانت تخاف أن يموت من الضرب وتقدم زكريا إليها وطلب إليها أن تصبر حتى يبحث عن سبب ما حدث. وأكد لها أن الأمل كبير في إنقاذ سعيد. ثم استأذنها في الذهاب فأذنت له ولكنها عادت فتراجعت وقالت: «لا. لا أبقى هنا وحدي فيأتي ذلك النذل. لا. لا. خذني معك. أرجعني إلى الدير. إنه أبقى لي من سائر المساكن.» قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فأحس زكريا كأن سهما اخترق أحشائه، ولكنه أراد تهدئة روعها فقال لها: «لا ينبغي أن يغلب عليك اليأس إلى هذا الحد.»
وفيما هو يهم بفتح الباب للخروج بدميانة سمعا وقع خطوات تقترب فاضطربت دميانة عند سماعها لعلمها أنها خطوات إسطفانوس، وأجفلت وتحولت وهي تود أن تلقي نفسها من نافذة الغرفة حتى لا تراه. ولكنها تجلدت ووقفت جامدة كالصنم وهي تظهر أنها تنظر إلى السماء. وكان زكريا قد فتح الباب فدخل إسطفانوس وعلى وجهه دلائل السرعة والبغتة والبشر يتجلى فوقهما رغم ما حاول إظهاره من الأسف أو الاستغراب. وأحست دميانة عند رؤيته كأنها طعنت في صدرها وقرأت الشماتة والانتقام بوضوح في عينيه وحول شفتيه فحولت وجهها نحو النافذة وأسندت رأسها إلى أحد الأساطين وجعلت تتلقى دموعها بمنديلها وتكتم البكاء.
استقبل زكريا إسطفانوس بالتحية وهو يريد أن يعلم منه شيئا. فتقدم إسطفانوس إلى دميانة متلطفا ودار حتى قابلها وجها لوجه، فلما رآها تبكي استغرب وقال: «ما بال دميانة تبكي؟ خيرا إن شاء الله؟ هل تشعرين بألم؟ هل تشكين من شيء؟ قولي؛ فإني طوع أمرك.»
فلم تزدد إلا بكاء وحرقة؛ لأنها عدت تلطفه نكاية وتشفيا، وظلت ساكتة فتحول إسطفانوس نحو زكريا وقال: «ما بالها؟ قل لي يا زكريا لأن أمرها يهمني - كما تعلم - أين المعلم مرقس؟ ما سبب بكائها؟»
فقال زكريا: «لا أعلم السبب وإنما أعلم أننا ونحن نشاهد الموكب وجماهير الناس رأيتها أطلقت دموعها وسألتها عن السبب فلم تجبني. وكنا عازمين على الذهاب إلى الدير عسانا أن نرتاح من التعب.»
فالتفت إليها وهو يحك عثنونه وقال: «أخشى أن تكوني شاهدت ما أصاب جارك المسكين فتكدرت مراعاة لحق الجوار.»
فلما سمعت كلامه المملوء بالشماتة واللؤم همت بانتهاره وتوبيخه، ولكن رغبتها في الاطلاع على السبب حملها على السكوت فتظاهرت بأنها لم تسمع شيئا. وقال زكريا: «أي مسكين تعني يا سيدي؟»
قال: «أعني جاركم سعيدا المهندس، ألم تشاهدوا ما فعلوه به؟»
قال: «ماذا فعلوا؟»
فضحك وهو يختلس النظر إلى دميانة يراعي ما يبدو منها وهي تتشاغل بمسح دموعها وإصلاح ثوبها، فقال: «بعد أن كان الوالي عازما على مكافأته بالجوائز والهبات أمر بجلده خمسمائة سوط، وساقوه إلى المطبق مقيدا بالأغلال.»
فأظهر زكريا أنه لم ير شيئا من ذلك وقال: «ولماذا؟ ما سبب هذا الغضب.»
قال: «إنهم كشفوا مكيدة دبرها لقتل ابن طولون!»
قال زكريا: «مكيدة؟ وأي مكيدة؟»
قال: «بينما كان ابن طولون راكبا لمشاهدة بناء العين وصل جواده إلى مكان يوهم الناظر إليه مرصوف، فأقبل إليه ووقف عليه فإذا هو قصرية جير فغاصت رجل الجواد فيه لرطوبة الجير، فكبا وسقط ابن طولون في الجير. فعلم أن سعيدا تعمد ذلك لقتله. فأمر به فشقوا ثيابه وضربوه خمسمائة سوط، ثم ساقوه معلولا إلى المطبق. ولا ندري ما يكون أمره في الغد.»
فلما سمعت قوله وعرفت شماتته نظرت إليه، وقالت: «إن سعيدا لا يرتكب مثل هذه الخيانة ولا بد في الأمر من خطأ.»
فرفع إسطفانوس كتفيه وقال: «لا أدري أخطأ أم صواب، وإنما أعلم أن ذلك المسكين السيئ الحظ قد ضرب خمسمائة سوط وسيق إلى المطبق. أصبح الأمل في حياته ضعيفا. حقا إن حالته تدمي القلب! وإذا كنت تبكين لحاله فلا ألومك. مسكين!» قال ذلك وهو يهز رأسه ويظهر الأسف.
فرأت دميانة أنه يتعمد الحط من قدر سعيد بوصفه بالبائس المسكين، فتحول حزنها عليه إلى تحمس له، وقالت: «لا أراه في حاجة إلى هذا التأسف؛ فإن براءته لا تلبث أن تظهر فيعود إلى الحظوة عند صاحب مصر. ولم يفعل ابن طولون ما فعله إلا في سورة غضب طارئ.»
قالت ذلك وهي ترتعد ولم تستطع صبرا على الوقوف، فتحولت نحو الباب وتحول زكريا معها. فقال إسطفانوس: «هل أذهب معك إلى الدير؟ ألا ترين أن الأجدر أن تأتي معي إلى منزلي، وهو أقرب من الدير؟»
فلم تجبه وظلت ماشية، ومشى زكريا في أثرها وإسطفانوس يتبعها قائلا: «أظن دميانة تستطيل الطريق إلى بيتنا وإن كان قصيرا. ولكني أرجو أن يقصر في عينيها وذلك خير لها من أن يكون طويلا فتتعب في سلوكه؛ إذ لا بد لها من الذهاب إليه.» قال ذلك وضحك استخفافا بغضبها ونفورها. فأدركت أنه يشير إلى قرب زواجه بها. فظلت ساكتة وهي تمشي وزكريا معها حتى خرجت من قبة الهواء فلقيت أباها عائدا. فلما رآها تبكي علم سبب بكائها فاستوقفها فوقفت وسلمت عليه وهي تتظاهر بالصداع في رأسها وبأنها تحتاج إلى الراحة فقال: «لا بأس عليك. تعالي ننزل في بيت المعلم حنا إنه أقرب من دير المعلقة.»
فقال زكريا : «إنها ترتاح في الدير لاستئناسها بالراهبات.» فوافقهما مرقص فانصرفا ودخل هو لملاقاة إسطفانوس فقص هذا عليه ما دبره ودسه وأن قصرية الجير إنما وضعت هناك بمساعيه حتى قبض على مناظره وزج به في السجن. فهنأه مرقس بالفوز وأخذا يفكران في الإكليل على أمل أن دميانة لا بد لها من الإذعان لرأي أبيها بعد أن يئست من سعيد.
وحينما وصلت دميانة إلى الدير سارت إلى غرفتها لتبديل ثيابها. ومكث زكريا ينتظر خروجها ليخفف عنها ويفكر معها في وسيلة للنجاة من الفخ، فما إن خرجت حتى سارت توا إلى الكنيسة للصلاة ملجأ الحزانى وتعزية المنكوبين وإذا لم يكن في الصلاة غير التعزية لكفى بها متسعا لآمال المؤمن في ساعة ضيقه وحزنه. وقد صدق جمال الدين الأفغاني إذ قال: «إن الذين يسلبون العامة إيمانهم إنما يحرمونهم من أكبر أسباب سعادتهم.»
ودخلت دميانة الكنيسة وجثت أما أيقونة العذراء وقلبها يذوب أسى مما حل بها من النوائب، وأخذت تصلي بإيمان وثيق وتتضرع إلى صاحبة الأيقونة أن تأخذ بيدها وتنجيها من الحبائل التي تصبو لها.
وكانت تصلي ودموعها تتساقط من مكائد الدساسين، وطلبت أن يلهم أباها الصواب؛ لعله يرجع عن إكراهها على الزواج بإسطفانوس إلى أن قالت: «اللهم إني ضعيفة وهم أقوياء اللهم ألهمني ما فيه مرضاتك، إني لا أحب إسطفانوس فهل في ذلك معصية؟ إذا كنت تراني على خطأ فأرني خطئي. إن سعيدا رجل صالح فإن كنت مخطئة فأرنيه كما هو وأبعده عن قلبي.» وكانت تقول ذلك بحرارة وهي تشرق بدموعها وليس في الكنيسة أحد يسمعها.
وسكتت هنيهة ثم قالت: «ربي وإلهي إني ما أزال أرى سعيدا هو النصيب الذي أعددته لي فإن كان الأمر كذلك فأنقذه مما وقع فيه اللهم كما أنقذت مختاريك غير قلب ابن طولون حتى ينصفه، أتوسل إليك بدم السيد الفادي الذي تجسد من أجلنا، إني فتاة مسكينة مظلومة مقصوصة الجناحين، خذ بيدي ألهمني ما أعمل وكيف أصرف أمري أنر طريقي إني لا أريد معصيتك ولا أبتغي إلا رضاك.» وسكتت تمسح دموعها .
فشعرت بارتياح عظيم كأن هاتفا قال لها: «لا تخافي يا دميانة إن الله لا يتركك.» فنهضت ومسحت دموعها وتحولت إلى باب الكنيسة، فرأت زكريا واقفا وقد أطرق وبان الحزن في وجهه فلما وقع نظرها عليه ابتسمت وأشرق محياها وقد اطمأن بالها وذهبت أحزانها.
فأدرك زكريا أن ذلك كله من أثر الصلاة، فاقترب منها مبتسما وقال لها: «اتكلي على الله يا سيدتي؛ فإنه نصير المظلومين.»
فمشت وهي تقول: «ليس لي غيره فهو نعم الوكيل. إنه لا يتركني ولا يتخلى عني.»
فماشاها زكريا خطوتين وقال لها: «لي ما أسره إليك على انفراد.»
فمشت إلى غرفتها وأدخلت زكريا وقالت: «قل ما تريد.»
قال: «أريد منك أن تثقي بي وأن تعملي ما أقول.»
قالت: «أنت تعلم منزلتك عندي، فليس لي أحد سواك يا زكريا. أنت في مقام الوالد والوالدة والأخ والأخت. إن ما أشاهده من حنوك ومحبتك لي في ضعفي لشاهد صريح على أن الله لم يتخل عني. قل ما تشاء.»
قال: «إن أباك لا يلبث أن يأتي. وأظنه سيستعجل الزواج، فإذا أظهرت له النفور والمقاومة ...»
فقطعت كلامه قائلة: «وهل تريد أن أطيعه؟»
قال: «كلا. ليس هذا ما أريده، ولكنني أريد ألا تصديه بعنف وإنما حديثه باللين. وإذا أصر على موقفه منك فلا تخشي شيئا. وثقي من النجاة بواسطة ما سأشير به عليك.»
وهم بأن يتكلم، ثم أمسك نفسه كأنه تذكر شيئا يمنعه بأن يبوح بضميره، فأدركت تردده وأحبت أن تعرف ما خطر له فقالت: «ما بالك توقفت عن الكلام؟»
قال: «لم أتوقف، ولكن لكل أمر وقتا.»
قالت: «لا صبر لي على الانتظار أخبرني عما خطر لك لعله يخفف عني.»
قال: «نعم إني لم أطلب إليك الصبر إلا ريثما يصل إلينا النصير.»
قالت: «وأي نصير؟ من ينصرنا على هؤلاء؟»
قال: «ينصرنا عليهم أبونا البطريرك. أليس كذلك؟»
ففرحت بهذه الفكرة وقالت: «وأنى لنا الوصول إليه وهو بعيد؟»
قال: «لا نعدم رسولا إليه وقد فعلت ولم أتلق الجواب بعد ولا بد من وصوله عما قريب . فلا ينبغي لك أن تيأسي.»
فأشرق وجهها واطمأن بالها، وقالت: «سأفعل كل ما تشير علي به.»
قال: «هل تطيعيني، وتذهبين معي إلى حيث أريد؟»
قالت: «نعم.»
وفيما هما في ذلك سمعا وقع أقدام عرفت دميانة أنها خطوات أبيها ثم سمعا سعاله فتركها زكريا في الغرفة وحدها وانصرف.
جلست دميانة تنتظر أباها، فطال انتظارها ولم تعد تسمع صوته فهمت بالنهوض وإذا بالرئيسة قادمة نحوها، فوقفت لها وحيتها فقالت الرئيسة: «إن المعلم مرقس وسيدنا الأسقف أتيا وسألاني عنك. هنيئا لك ما أكبر حظك من سيدنا فإنه يحبك ويرعاك.»
فظهر الامتعاض في وجهها، وحدثتها نفسها بأن تتجنب المقابلة. ثم تذكرت نصيحة زكريا فسكتت ولم تجب. فعادت الرئيسة إلى الكلام قائلة: «أراك لم تسري بالبشرى كأن لا تريدين أن تكلمي أحدا منهما، فهل تأذنين لي في كلمة أقولها؟»
قالت: «قولي.»
قالت: «لاحظت أمرا فيك لم أكن أتوقعه من فتاة عاقلة تقية قد فهمت كتاب الله وعرفت واجبات المسيحيين.»
فاستغربت دميانة ما تسمعه منها ولم تفهم مرادها فقالت: «أرشديني يا أماه إلى الصواب.»
قالت: «الصواب يا دميانة في ألا تغضبي أباك؛ لأن الله يوصينا بإكرام الوالدين.»
فكان لكلام الرئيسة وقع شديد في نفسها لعظم تقواها، فقالت: «إني لم أغضب أبي، وبماذا أغضبه؟»
قالت: «علمت شيئا من قرائن الأحوال. علمت أن أباك يريد زواجك بأحد أبناء الخاصة وأنت ترفضين.»
قالت: «أتحسبين الفتاة التي ترفض الزواج عاصية؟»
فقالت الرئيسة: «نعم، تكون عاصية إلا إذا كانت تريد أن تنذر العفة وتنقطع عن العالم.»
قالت: «وما أدراك أني لا أنوي ذلك؟ لا يبعد أن أنويه عن قريب.» ثم تذكرت قول زكريا فاستدركت وقالت: «ومع ذلك فإن هذه الأمور لا تكون إلا بإلهام من الله والسيد المسيح، فإذا أراد الله أمرا فلا مفر من إرادته.»
فتوسمت الرئيسة من كلامها ميلا إلى الخضوع، فأكبت عليها وقبلتها، وقالت: «بارك الله فيك هذا عهدي بتقواك وطيب عنصرك والآن قد أتى أبوك ومعه سيدنا الأسقف، وهما في انتظارك بغرفتي، فقومي معي لتقبلي يد الأسقف ويد أبيك.»
قالت ذلك وأمسكتها بيدها، فأطاعتها ومشت والرئيسة تحسب نفسها أقنعتها.
فلما دخلت عليهما تقدمت توا إلى يد الأسقف فقبلتها، ثم قبلت يد أبيها فقبلها مرقس ورحب بها وبالغ في إكرامها ودعاها إلى جانبه وقد اطمأن خاطره، وقال: «اقعدي هنا يا دميانة يا ولدي.»
فقعدت على الطنفسة بجانبه مطرقة وقد صبغ الحياء وجهها فضلا عن احمرار عينيها من البكاء، ولذلك كانت تحجبهما بالإطراق. ولما جلست خاطبها الأسقف قائلا: «لقد سرني يا ولدي ما عقدتم النية عليه، وفي صباح الغد نأتي - إن شاء الله - لعقد الإكليل.»
فأجفلت دميانة لهذه المفاجأة ولم تكن تتوقع أن تسمع هذه العبارة فبالغت في الإطراق وبان فيها الحياء ولم تجب، فاستأنف الكلام قائلا: «إني تعودت هذا السكوت من العرائس فإنهم لا يجبن عن كلامنا إلا بالصمت. على أني لا أنتظر منك غير القبول ولو بالسكوت؛ فإن من كانت في مثل ما أنت عليه من التقوى وحسن التربية لا تمانع في أمر يريده أبوها ويتوسط فيه رئيس كنيستها ولكني أجل قدرك وأحب أن تكوني مسرورة بالنصيب الذي اخترناه لك ويكفي أن تظهري رضاك بالسكوت.»
وكانت دميانة تسمع كلامه وهي تكاد تتميز من الغيظ، وأرادت أن تستمهل الإكليل كما أشار عليها زكريا، فلم تجرؤ على الكلام حياء وخوفا، وحدثتها نفسها بأن ترفض بتاتا وتكاشف أباها بذلك صراحة، فغلب عليها الخوف والحياء؛ لأنه لم يكن يشجعها على أن تفضي إليه برأي أو رغبة، وشعرت بأن كلامها لا يفيد شيئا، فأمسكت وظلت ساكتة فاتخذ أبوها سكوتها دليلا على القبول، وظن أن مصير سعيد وقطعها الأمل منه جعلاها ترضى بإسطفانوس، فقال مخاطبا الأسقف: «لم أكن أشك في طاعة دميانة لأبيها ولحضرة الأسقف، ولكن بعض الناس كان يزين لها الباطل وهذه هي قد رجعت إلى الصواب، وكل ذلك بتدبير العناية.»
فقال الأسقف: «قد تفضل دميانة أن تقام الأفراح في بيت أبيها، وستقام لها هناك أيضا وإنما أردنا عقد الإكليل في الكنيسة الآن؛ لما لها من الكرامة وأحب أن أتولى عقد ذلك بنفسي ؛ تقديرا لمقام العريس وأرجو أن يكون عملنا مباركا.»
قال ذلك ووقف فوقف مرقس احتفاء به ووقفت دميانة فقال لها أبوها: «قبلي يد الأسقف واشكريه على عنايته.»
فقبلت يده فقبل رأسها وخرج وخرجت الرئيسة لوداعه مع مرقس ثم عادت وهي تضحك ضحك الفوز بما كانت تتمناه وضمت دميانة إلى صدرها وقالت: «ويظهر أن كلامي أثمر فيك.»
وكان مرقس قد عاد من وداع الأسقف فقال لدميانة: «بورك فيك يا بنية ذلك عهدي بك من أول الأمر، وسأذهب لتجهيز معدات الاحتفال وفي صباح الغد أعود إليك ونفرح معا.» قال ذلك وخرج.
فرار دميانة
أخذت دميانة تفكر فيما سمعته، وكانت تتوقع أن ترى زكريا لتقص عليه ما جرى، فلم تجده فقضت بقية يومها في انتظاره.
أما مرقس فسار توا إلى إسطفانوس وأخبره بقبول دميانة فقام في ذهنه أنها لم تقبله إلا بعد يأسها من سعيد فعزم على الانتقام منها لاستخفافها به، وهذا هين عليه بعد أن تصبح في عصمته وليس ما يثنيه عن إتيانه مروءة أو أريحية، فإن هذه السجايا لا معنى لها عنده. واشترك مع مرقس في إعداد معدات الفرح من الشموع والزهور وغيرها، وأرسلاها إلى الدير.
وأخذت رئيسة الدير في تهيئة ما يلزم لتزيين العروس في الصباح، وبات أهل الدير على أن يصبحوا في اليوم التالي فيحضروا الإكليل ويسمعوا الترانيم.
وكانت الرئيسة أكثر رغبة في ذلك؛ لأنها كانت تحب دميانة خصوصا بعد أن أسدت إليها نصحها، وظنت أنها أصغت لقولها فعدت ذلك احتراما لها. فلما طلع النهار مشت إلى غرفة دميانة لتدعوها إلى الاستعداد وتريها ما حملوه إليها من مواد الزينة، فرأت باب الغرفة مغلقا فقرعته فلم يجب أحد فظنتها نائمة، فرجعت مؤثرة تركها حتى تستيقظ، ثم رأت أن الوقت لا يسمح بذلك فعادت وقرعت الباب ثانية فلم يجبها أحد فوقفت تفكر وإذا بالمعلم مرقس قد جاء فسألها عن دميانة فقالت: «ما تزال نائمة.»
فتقدم إلى الباب وفتحه ودخل والرئيسة معه فلم يجدا في الغرفة أحدا ولم يجدا في الفراش ما يدل على أن دميانة نامت فيه ليلتها.
فقال مرقس: «يظهر أنها لم تنم هنا فلعلها نامت في غرفة أخرى.»
فقالت الرئيسة: «هذه غرفتها تنام فيها منذ آنستنا. فهل غيرتها الليلة؟» قالت ذلك ومشت إلى غرفة أخرى كانت تجلس فيها في بعض النهار فلم تجدها. فأخذت تسأل عنها الراهبات وهن يفتشن معها حتى أعياهن البحث دون الوقوف على أي أثر لها. وسألوا الخدم عن زكريا فذكروا أنهم لم يروه منذ مساء الأمس، فاستقدموا البواب وسألوه فقال: «إن السيدة دميانة خرجت مساء أمس إلى كنيسة أبي سرجة؛ لأن عليها نذرا لها قد آن وفاؤه وقد خرج معها خادمها.»
فصدقت الرئيسة ذلك لسلامة نيتها، وظنت النذر يتعلق بزواجها ولم تبق فرصة لتأجيل وفائه. أما مرقس فلما سمع ذلك رجع إلى الغرفة وفتش في ثياب ابنته وأشيائها، فرآها قد أخذت ما خف حمله وتركت ما تستغني عنه فقال: «لقد هربت مع النوبي اللعين. ولا شك في أنه عاد فأغراها بالفرار. ولكن إلى أين يفران؟ إن الفسطاط وبابلون والقطائع في قبضة إسطفانوس وأبيه.»
فقالت الرئيسة: «لا تتعجل يا سيدي لعلها ذهبت إلى كنيسة أبي سرجة حقيقة. وهي على مسافة قصيرة من هنا.»
قال: «اسألي إذا شئت. ولكنني على يقين من فرارها. فلو أنها ذهبت لزيارة أو نذر لما أخذت معها ثيابها وحليها، وهل تبيت هناك وتبقى حتى الآن وقد دخلنا في الضحى؟ إن ذلك النوبي اللعين أغراها بالفرار. ولكن ...» قال ذلك وهو يهز رأسه ويتوعد وخرج لساعته يقصد إسطفانوس. فألقاه لدى الباب وكان قادما للاشتراك في معدات العرس فقص عليه ما جرى وختم قوله متوعدا زكريا؛ لأنه أغراها. فأجاب إسطفانوس: «لا تحمل الذنب ذلك النوبي. إنها كما أعهدها. وسأريها من هو إسطفانوس وخادمها الأسود معها أيضا - دعني أذهب لأتدبر ذلك.»
وخرج مرقس معه فسارا توا إلى القطائع واشتكيا إلى صاحب الشرطة من أن خادما سرق ابنة المعلم مرقس وفر بها وطلبا منه أن يرسل من يبحث عنها في الأديرة والكنائس وغيرها.
وخف صاحب الشرطة إلى إجابة الطلب مراعاة لمنزلة المعلم حنا، فبث الرجال في أنحاء الفسطاط ولا سيما في أحياء النصارى؛ لاعتقادهم أن دميانة وزكريا لا يجدان ملجأ في غير الأديرة أو الكنائس أو بعض مساكن القبط من الأهل أو الأصدقاء.
فأصبح الأقباط في ذلك اليوم وهم يرون الجند وغير الجند يدخلون منازلهم للتفتيش، وأكثرهم يتخذون تلك الحجة ذريعة لدخول المنازل أو الكنائس أو الأديرة لينهبوا ما تصل إليه أيديهم من المال أو الأثاث، فضج الناس وعلا الصياح وأخذ القوم يتساءلون: «هل عاد زمن الظلم والاضطهاد والنهب والقتل.» وكانوا يحسبون أن ابن طولون قد كفاهم مئونة ذلك ونشر الراحة والطمأنينة في ربوعهم وأمنهم على أرواحهم وأموالهم ولم يقنعهم ما كان يقوله الشرطة من أنهم يفتشون عن سارق هرب واختبأ، فإنهم كثيرا ما كانوا يقاسون الاضطهاد والنهب بهذه الحجة.
وكان مرقس وإسطفانوس يرافقان الشرطة إلى بعض الأماكن القريبة التي يظنان أن دميانة لجأت إليها ويحرضان الجند على التفتيش وهؤلاء لا يبالون إلا النهب فقاسى الأقباط في الفسطاط وبابلون وضواحيها من العذاب والاضطهاد والخوف ما لم يقاسوه من عهد بعيد. فوقع الرعب في قلوب الناس وركب بعض وجوههم إلى ابن طولون يشكون إليه ما أصابهم فغضب وبعث إلى صاحب الشرطة أن يرجع رجاله عن التعدي ففعل ولم يقفوا على أثر لدميانة وخادمها. •••
كانت دميانة قد فرت مع زكريا إلى مكان أعده لها أثناء غيابه عنها في أصيل اليوم السابق؛ وذلك أنه لما رأى أباها والأسقف قد أخذا في مخاطبتها علم أنهما أتيا لإتمام الإكليل، فذهب إلى صديق حميم له من أهل بلدته كان قد اعتنق الإسلام وأقام بجوار المسجد الذي بناه ابن طولون على المقطم قبل بناء مسجده المشهور. وإنما اختار هذا المكان؛ لبعده ولعلمه أن الشرطة لا تبحث عنهما في المسجد وعاد إلى دميانة في المساء وأخبرها أن لا بد من الفرار، فأخذت أعز ما لديها وخرجا في العشاء من الدير بحجة زيارة كنيسة أبي سرجة - كما تقدم - وكان زكريا قد أعد جوادا لدميانة وركب هو حمارا حتى إذا خرجا من المحلة ألبسها عباءة وجعل على رأسها غطاء يشبه العمامة مما جعلها تظهر بمظهر الرجال. وساق حماره أمامها حتى نزلا المكان المعهود، فتلقاهما صاحبه بالترحاب.
وباتا ليلتهما وفي الصباح لبثا ينتظران ما يكون فما لبثا أن سمعا بمجيء الجند ودخولهم منازل النصارى لنهبها بحجة التفتيش عن ضائع أو هارب. وأطل زكريا على الطرق فرأى الجند يدخلون البيوت بالقوة فخاف أن يصل أحد إلى مقره، فرأى من الحكمة الانتقال إلى مكان آخر.
وكان له صديق عربي في حلوان اسمه «قعدان» أصله من أهل البادية ويقيم بمنزل وهبه عبد العزيز بن مروان لأجداده منذ وجه عنايته إلى تعمير تلك البلدة في أثناء إمارته على مصر. وانتقل ذلك المنزل في أعقابه إلى رجل عرفه زكريا من سنين عديدة وله معه صداقة وثيقة العرى، فرأى أن يلجأ إليه؛ ولا سيما لأنه يقيم مع عائلة فيها أمه وامرأته فتستأنس دميانة بهما، فإذا غاب عنها في مهمة كان مطمئنا عليها، فودع صاحبه وركب مع دميانة إلى حلوان عبر الصحراء، وقالت له دميانة: «تراني يا زكريا قد سلمت قيادي إليك أذهب معك حيث تريد لا أسألك عن السبب.»
قال: «كوني على يقين يا سيدتي أني أتفانى في سبيل راحتك، ولا تجزعي؛ فأنا ساع في كل ما يرضيك.»
قالت: «إلى أين نحن ذاهبون الآن؟»
قال: «إلى حلوان، وهو بلد طيب الهواء بعيد عن مظان الباحثين، وسترين هناك عائلة تستأنسين بها وترتاحين إليها؛ فإنها عربية بدوية.»
قالت: «وبعد ذلك؟»
قال: «بعد ذلك؟» وأطرق ثم قال: «إن الفرج سيأتينا ولا بد من انتظاره ولا بد لي - على كل حال - من الغياب عنك يوما أو يومين لأمر لا بد لي من قضائه، ثم أعود إليك، وعسى أن أبشرك بالفرج بعد قليل.»
قالت: «تتركني وتغيب عني يومين؟»
قال: «لا مندوحة لي عن ذلك؛ لأني ذاهب في مهمة يتوقف عليها نجاحنا وبها نتغلب على أعدائنا، ولا بأس عليك عند أصحابنا في حلوان.»
فسكتت، وبعد قليل أطلوا على حلوان ولم يكن فيها إلا بيوت قليلة فيما مضربا على أكمة وله حديقة، فترجل زكريا ومشى إلى الخيمة وقبل وصوله شعر صاحبه بقدومه من نباح الكلاب، فخرج إليه ولما تبينه بالغ في الترحيب به، فقال له: «نحن مسافرون إلى الصعيد وأحببنا التعريج عليكم؛ لشوقي إليك ومعي سيدة أنا ذاهب في خدمتها، فنبيت عندكم الليلة ثم ننصرف.»
فصاح الرجل بأولاده أن ينزلوا الضيفين، وقال: «بل تقيمان عندنا أياما.»
ونزلت دميانة فرحبت بها امرأة الرجل وحيتها واستأنست بها، ولا تسل عن ضيافة العرب وحسن وفادتهم، وكانوا يكلمونها بالعربية وتكلمهم بها عن ضعف، وفي اليوم التالي قال زكريا لمضيفهما: «إني عازم على الذهاب في مهمة عاجلة.» وأوصاه بدميانة فأجابه: «نفديها بأرواحنا فهي الآن ربة المنزل ونحن أضيافها.»
وقبل ذهابه خلا بدميانة وأخبرها أنه ذاهب في مهمة لا بد منها ويعود بعد يومين وسألها: «هل استأنست بأهل المنزل؟» فقالت: «لم أكن أظن العرب على هذه الأخلاق؛ إذ لم أكن أسمع إلا انتقادا لأعمالهم فإذا بهم أهل كرم ولطف.»
فقال: «إن العربي يا مولاتي إذا نزلت بداره حق عليه - بحكم العادة المتبعة - أن يدافع عنك بنفسه وأهله ويفديك بروحه وهو ما يسمونه في اصطلاحهم حق الجوار. فإذا أتى جند ابن طولون كلهم لا يقدرون أن يأخذوك أو يأخذوني من عنده وهو حي؟ إنه يقاتل دوننا حتى يموت أو ينقذنا، أقول ذلك لأزيدك طمأنينة، فأنت في هذا الخباء آمن منك في حصن حصين، فاسمحي لي بالذهاب وسأعود قريبا.»
وبرغم ما سمعته من بواعث الطمأنينة انقبضت نفسها عندما تحققت عزمه على الذهاب، فأخذ يشجعها ويعتذر من اضطراره إلى الذهاب إلى أن قال: «وعلى غيابي هذا تتوقف سعادتك في المستقبل وبه نغلب أعدائنا.»
فقالت: «إذا لم يكن بد من ذلك فافعل اطلب من الله أن يكون معك والسيد المسيح يحرسك ويوفقك.»
فودعها وخرج. وأحست بعد خروجه بوحشة الوحدة وتذكرت أباها وبيتها وكيف أصبحت طريدة شريدة بعد أن كانت ربة منزلها في طاء النمل وحولها الخدم والحشم ولم تكن تعلم هل تعود إلى الدار أم لا؟ على أن «قعدان» وأهل بيته لم يتركوا لها فرصة للاستيحاش، فكانوا يبذلون وسعهم في سبيل راحتها - صغيرهم وكبيرهم.
أما زكريا فتنكر وركب حمارا حتى إذا بعد عن الفسطاط ركب زورقا قصد به إلى «طاء النمل»، وإنما اختار الزورق لسرعة جريه مع تيار النيل. فلما أشرف على القرية لبس ثيابه واتجه إلى بيت المعلم مرقس كأنه قادم من قبله في مهمة خاصة. وكان إذا دخل المنزل لا يجسر أحد من أهله أن يسأله عما يريد لانطلاق يده في شئون البيت. فلقيه الخدم والنساء، فسألوه عن المعلم مرقس فأخبرهم بأنه مقيم بالفسطاط يقضي مع دميانة أياما، ثم دخل غرفة يعرفها وأغلق بابها وفتح صندوقا أخرج منه أنبوبا من الفضة مختوما هزه حتى تحقق مما في داخله ثم خبأه في جيبه وخرج.
ومر بيت أبي الحسن، فوجده خارجا من منزله ليتمشى في الحديقة على جاري عادته. وآنس في وجهه انقباضا فعلم سبب انقباضه، ولم يكن يشك أنه كان في جملة الذين شهدوا الاحتفال بالأمس، وأنه شاهد ما أصاب سعيد وهو يعلم أنه بمنزلة ولده، فتقدم نحوه فلما رآه أبو الحسن تحول إليه، فتقدم زكريا وهم بتقبيل يده فمنعه ورحب به وسأله إذا كان مولاه قد أتى معه، فقال: «كلا يا سيدي إنه لا يزال في الفسطاط أظنك كنت هناك.»
فهز أبو الحسن رأسه بمرارة، وقال: «نعم كنت هناك وقد رجعت أمس.»
قال: «هل شاهدت ما أصاب سعيدا؟»
قال: «نعم شاهدت ذلك المنظر المؤلم. ولكنهم سوف يندمون.»
ففرح زكريا بتلك البشرى؛ لعلمه أن أبا الحسن لا يلقي القول جزافا فقال: «صحيح؟ بشرك الله بالخير.»
قال: «نعم إنهم سيندمون؛ لأنهم لا يجدون من يغنيهم عن سعيد؛ إذ ليس في هذه البلاد من يضارعه معرفة بالهندسة.»
قال: «ولكنهم ساقوه إلى السجن.»
قال: «ليس السجن عارا على الرجال إنهم لا يلبثون أن يخرجوه معززا مكرما.»
قال: «وكيف ذلك، ومتى؟»
فتقدم نحوه وقال: «إن ابن طولون عازم على بناء جامع كبير في القطائع ، ولن يجد من يحسن هندسته غير سعيد.»
فقال: «وهل يعرف ابن طولون ذلك؟»
قال: «لا يلبث أن يعرفه متى احتاج إليه.»
فأطرق زكريا كأنما فتح عليه باب الفرج، ثم ودع أبو الحسن وانصرف، فركب جوادا من جياد مرقس وطلب الفسطاط. فلما أطل عليها ترك الجواد في خان وحدثته نفسه بأن يسير توا إلى حلوان؛ لمشاهدة دميانة، لكنه أحب أن يتمم ما جال في خاطره أولا، ثم يعود إليها بالبشارة.
صدقات ابن طولون
تنكر زكريا بلباس الفقراء المتسولين، ومشى إلى القطائع، واتفق وصوله إلى قصر ابن طولون في ساعة تفريق الصدقات.
وكان لابن طولون في الإحسان يوم مشهور، يعرف بيوم الصدقة تفتح فيه أبواب القصر كلها لا يمنع داخل ولا يرد سائل. وكانت صدقاته على أهل الستر والفقراء وأهل التجمل متواترة. وكان راتبه لذلك في كل شهر ألفي دينار سوى ما يطرأ عليه من النذور وصدقات الشكر على تجديد النعم، وسوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم للصدقات في داره وغيرها، يذبح فيها البقر والكباش ويغرف للناس في القدور من الفخار والقصاع على كل قدر أو قصعة لكل مسكين أربعة أرغفة، في اثنين منها فالوذج والاثنان الآخران على القدر.
وكانت تعمل في داره وينادى: «من أحب أن يحضر طعام الأمير فليحضر.» وتفتح الأبواب فيدخل الناس الميدان وابن طولون في مجلسه الذي يشرف منه عليهم، فينظر إلى المساكين ويتأمل فرحهم بما يأكلون أو يحملون فيسره ذلك، ويحمد الله على نعمته.
ولقد قال له مرة إبراهيم بن قراطغان - وكان على صدقاته: «أيد الله الأمير إنا نقف في المواضع التي تفرق فيها الصدقة فتخرج لنا الكف الناعمة المخضوبة نقشا والمعصم الرائع فيه الحديدة والكف فيها الخاتم.» فقال: «يا هذا كل من مد يده إليك فأعطه؛ فهذه هي الطبقة المستورة التي ذكرها الله - سبحانه وتعالى - في كتابه، فقال: «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.» فاحذر أن ترد يدا امتدت إليك، وأعط كل من يطلب منك.»
فلما وصل زكريا إلى القصر رأى ابن طولون جالسا في مقعده وعليه قلنسوته وقباؤه وقد تهلل وجهه سرورا بما يشاهد من آثار نعمته على الناس. وكان زكريا قد عزم أن يطلب مقابلته ليخاطبه رأسا، فعلم ألا سبيل إلى ذلك في تلك الساعة، فأجل الأمر إلى الغد. وخوفا من وقوع الشبهة عليه تقدم في جملة طلاب الصدقة، فمد يده فنال حظه فأكل وهو كيفما تحرك يفتقد الأنبوبة، وكان قد علقها بحبل في عنقه ودسها داخل أثوابه تحت ذراعه.
وفيما هو في ذلك رأى الناس يومئون إلى مجلس الوالي، ويشيرون إلى رجل دخل عليه، فعرف من لباسه وقيافته أنه المعلم حنا كاتب المارداني. ورأى بيده درجا ملفوفا بمنديل من الحرير. ورأى ابن طولون قد انصرف بكليته إليه، وأمره أن يقعد على وسادة بجانبه فقعد متأدبا واستأذن في اطلاعه على ما في الدرج ثم حله وبسطه وأخذا يتحادثان ويتنافسان فيما يحويه الدرج. ولحظ زكريا أن المعلم يحاول إقناع ابن طولون بشيء محطوط في الدرج وهو لا يقتنع. وما لبث حتى حول وجهه عنه، وأخذ في مشاهدة الجماهير ولسان حاله يقول: «هذا لا يعجبني والسلام.»
ولم يعلم زكريا شيئا عما في ذلك الدرج، ثم رأى الناس يوسعون لخارج من القصر فتنحى والتفت، فرأى المعلم حنا خارجا وبجانبه ابنه إسطفانوس متأبطا اللفافة، فسار خلفهما من حيث لا يشعران. لعله سمع شيئا حتى إذا أتيا مفترقا من الطريق قال المعلم حنا لابنه: «ماذا تعمل له؟ ما أظن في الدنيا أحدا يستطيع إجابة طلبه. جامع بلا أعمدة؟ هذا أمر غريب؟»
فسأله إسطفانوس: «أتريد أن يبني جامعا بلا أساطين؟»
قال: «نعم. قد استشرت أمهر المهندسين في الفسطاط، ومنهم من تعلم في القسطنطينية أو تخرج في بغداد. وقد شهد الناس لهم بالمهارة، وهذه الخريطة عليها رسم جامع من أجمل ما بلغ إليه إمكانهم. فلم يعجبه؛ لأنه يريد بلا أساطين.»
فقال إسطفانوس: «ولماذا لا يفعل كما فعل عمرو بن العاص في بناء جامعه؟»
فقطع حنا كلامه قائلا: «إن أميرنا عمد إلى هذا الطراز حتى يتجنب ما وقع فيه عمرو.»
فهز إسطفانوس رأسه وظل ماشيا في طريقه. أما زكريا فبعد أن سمع ما سمعه من الرجلين عاد إلى موقفه وقد فتح له باب الفرج ورأى الطريق الذي يمكنه من الوصول إلى إنقاذ سعيد وعاد إلى الأمر الذي جاء له. وتذكر دميانة ولهفتها على رجوعه فافتقد الأنبوب فوجده في مكانه فاطمأن؛ لعلمه أنه مهما يبلغ من قلق دميانة واضطرابها ففي هذا الأنبوب ما يخفف عنها.
حتى إذا انقضى وقت الصدقة وقد آذنت الشمس بالمغيب أغلقت الأبواب ونهض ابن طولون عن مجلسه فانصرف الناس وذهب زكريا إلى خان بات فيه. وفي الصباح التالي تنكر بلباس نوبي قادم من سفر يشكو من فكه الأسفل فربطه رباطا كالخمار يحجب معظم رأسه والتف بشملة من نسيج القطن الأبيض المعروف بالدمور ومشى حافيا مشية غريبة يدهشه كل شيء مبالغة في التنكر حتى لا يعرفه إسطفانوس لو رآه، فلما أتى باب القصر سأل الحراس الواقفين به عن الوالي أين يكون فقال له أحدهم: «إنه ينظر اليوم في المظالم.»
ولم يكن زكريا يعرف تلك العادة؛ لأن ابن طولون أول من نظر في المظالم من أمراء مصر، ولم يكن يفهم المراد من المظالم والنظر فيها، فاستفهم الحرسي قائلا: «وما معنى هذا عندكم؟»
فقال الحارس: «يظهر من لباسك وقيافتك أنك غريب عن الديار فاعلم يا صاحبي أن مولانا الأمير، لرغبته في راحة رعيته وخوفا من أن يعتدي أحد من عماله أو كتابه أو رجال حكومته على أحد الناس فيظلمه أو يؤذيه، قد خصص - حفظه الله - يومين في الأسبوع لسماع شكوى المتظلمين بنفسه وإنصافهم.»
فدهش زكريا لسماع ذلك ولم يكن سمع بمثله في مصر ولا غيرها، وكان الحارس يخاطبه وينظر إليه فلما رأى دهشته استطرد الكلام قائلا: «أراك تستغرب هذه المنقبة في أميرنا ولا عجب؛ لأنكم لا تعرفون مثلها في بلادكم، فهذه من حسنات الإسلام حتى لا يظلم أحد استظل به.»
ففطن زكريا لأن إسطفانوس وما أوقعه من الأذى بدميانة فقال في نفسه: «هل أشكوه لابن طولون؟». لكنه خاف وتردد ورجع إلى ما جاء له. فعزم على أن يدخل على الأمير في جملة المتظلمين ثم يحتال في مخاطبته في شأن سعيد وبناء الجامع.
فسأل الحرسي عن المكان الذي يجلس فيه الوالي للنظر في المظالم، فأومأ إلى باب عليه الحجاب، وقد تكأكأ الناس حولهم وهم يدخلونهم الواحد بعد الآخر، فتقدم زكريا ووقف في جملة الواقفين وصبر حتى انصرف أكثر الناس، فدخل وعليه قيافة أهل البادية فأطل على مجلس ابن طولون في قاعة مفروشة بالطنافس، وفي صدرها كرسي كبير جلس عليه ابن طولون وبجانبه قاضيه بكار بن قتيبة وبين يديه قصص المتظلمين (العرائض) وقد تصفحها ابن طولون ودفعها إلى قاضيه ليحكم فيها أو ينفذها.
فلما دخل زكريا سأله الحاجب عن قصته ليدفعها إلى الوالي لينظر فيها فقال: «لم أكتب شيئا وإنما أريد أن أرفع ظلامتي شفاها للوالي رأسا بعد أن ينظر في قصص المتظلمين.»
فرفع الحاجب ذلك إلى ابن طولون فقال: «أجلسه حتى نفرغ له.»
فقعد زكريا وهو ينظر ويعجب من إجراء العدل والإنصاف حتى إذا فرغ ابن طولون من تصفح القصص صاح بزكريا: «ما هي ظلامتك يا أخا النوبة؟»
فوقف زكريا وقال: «لا أقولها إلا في خلوة مع مولاي.»
وكان زكريا يتكلم كمن لا يعرف العربية إلا قليلا ولو تكلمها جيدا لما صدقوا أنه آت من النوبة؛ لأن المسلمين لم يكونوا قد انتشروا في النوبة ولا دخلها الإسلام فكان يحشر في كلامه بعض الألفاظ من لغة النوبة، ولكنه كان يحسن التعبير بحيث يفهم ابن طولون مراده.
فلما سمعه ابن طولون أشار إلى القاضي فخرج ولبث وحده، فتقدم زكريا ووقف بين يديه متأدبا، فأشار إليه أن يقعد، فقعد وأزاح الخمار عن رأسه فلم يظهر فيها عاهة كما يظن من يراه مخمرا، وابن طولون ينظر إليه وينتظر ما يقوله، واستبطأه، فقال: «ممن تتظلم يا رجل؟»
فقال: «أقول ولا بأس علي؟»
قال: «قل، إنك على بساط الوالي ولي أمير المؤمنين، ومهما يكن من ظلامتك فإنك تنصف. قل ممن تتظلم؟»
قال: «من أحمد ابن طولون ولي أمير المؤمنين ونائبه على مصر!»
فدهش ابن طولون وقال: «مني أنا؟»
قال: «نعم يا مولاي، فإذا كنت قد تجاوزت حدي بالتظلم منك فأنا بين يديك افعل بي ما تشاء.»
قال: «لك أن تتظلم ممن شئت فما هو ذنبي لديك؟»
قال: «رب ذنب لا يعرفه صاحبه.»
قال: «قل وأفصح، ما هي ظلامتك؛ فإني لا أعرفك ولا أذكر أني رأيتك قبل الآن.»
قال: «ولا أنا أتظلم لنفسي وإنما جئت لمولاي الأمير أرفع إليه ظلامة رجل لم يعهد إلي في أن أتظلم عنه، وإنما أقدمت رغبة في خدمة صاحب هذا البلد.»
قال: «لا أفهم مرادك، فأفصح، من تعني؟»
قال: «أعني: الرجل الذي حكمت عليه بالجلد والحبس بعد أن بنى لك العين، وأجرى فيها الماء.»
قال: «الفرغاني؟ الذي أوشك أن يقتلني بجهالته؟»
قال: «وهل تعني أنه يجهل هندسة البناء؟»
قال: «لا ريب فإن سقوطي عن جوادي إنما كان من الخلل الذي سببه جهله بالهندسة.»
قال: «ليس في هذا البلد من يقاربه في هذا الفن يا مولاي. وأما قصرية الجير التي وقع فيها جوادك فإنما تركت هناك لسوء حظه أو لعل لها سببا آخر، فقد يكون بعض أعدائه وشوا به إليك، فأغروك به وإنما أنا أتكلم الآن عن مهارته الهندسية، ليس في هذا البلد من يقاربه فيها حتى الروم الآتون من القسطنطينية والفرس وغيرهم.»
فاستغرب ابن طولون دفاع هذا النوبي عن ذلك القبطي ولم يعتد به.
فقال: «وما الذي حملك على التبرع برفع هذه الظلامة إلينا؟»
قال: «حملني على ذلك رغبتي في إنقاذ مولانا من مشكلة وقع فيها ولم يستطيع أحد أن ينقذه منها.»
فانتبه ابن طولون إلى أنه يعني الجامع الذي يريد بناءه، ولكنه تجاهل وقال: «وأي مشكلة تعني؟»
قال: «أعني البناء الذي أنت عازم على إقامته ولم تجد من يستطيعه على الشكل الذي تريده.»
قال: «وهل يستطيع صاحبك أن يفعل ذلك؟ إنه لا يستطيعه.»
قال: «لا أظنه يعجز عنه فما هو طلبك يا مولاي؟»
قال: «إني أريد أن أبني جامعا بلا أساطين. هل يستطيع ذلك ؟»
قال : «لم أسأله، ولكني أحسبه يستطيع.» واستدرك زكريا قوله مخافة ألا يكون سعيد قادرا فيعود الغضب على كليهما، فأراد أن يثني ابن طولون عن عزمه فاستأنف الكلام قائلا: «وهل خلوه من الأساطين شرط لازم. كأن مولاي لا يرى في الأساطين جمالا، قياسا على التي وضعوها في جامع عمرو. فإذا كان هذا فأنا أضمن أن سعيدا يضعها على شكل بديع.»
فأشار ابن طولون بسبابته منظرا وقال:
ليس هذا هو السبب في رغبتي عن الأساطين. وقد رأيت فيك فطنة وغيرة فأقول لك أن ما دفعني إلى ذلك هو رفقي بأهل الذمة من سكان هذا البلد؛ لأني لما عزمت على بنائه سألت المهندسين عما يحتاج إليه من الأعمدة، فقدروا له ثلاثمائة عمود، ولا سبيل إليها إلا بأخذها من الكنائس فأستنفد أعمدتها في الأرياف والضياع، وهذا ظلم لا أرضاه وأحسبه لا يرضي الله. وأنا أحب أن أبني مسجدا لا يشوب بناءه ظلم، ولا وسيلة لذلك إلا بأن يكون الجامع بلا أعمدة فلم أجد في مصر من يستطيع هذا.
فتبسم زكريا وقال: «هل سألت سعيدا السجين في المطبق؟»
قال: «كلا، إنه ذهب من فكري، هل تظنه يقدر على هذا الأمر؟»
قال: «أظنه يقدر. وما على مولاي إلا أن يأمر بإحضاره ويرى ما يقول.»
فصفق ابن طولون، فدخل غلام فقال له: «قل لصاحب المطبق أن يأتيني بالمهندس النصراني من السجن وأدخلوه علي لساعته.» •••
وقع زكريا في حيرة وقال في نفسه: «إذا أخلف سعيد ظني فلم أستطع إنقاذه من هذا السبيل أعود فأتهم إسطفانوس بأنه هو الذي وضع قصرية الجير وأن سجن سعيد ظلم.»
وكان ابن طولون أثناء الانتظار مطرقا، يفكر فيما سمعه ويتمنى أن يصح قول النوبي في سعيد؛ لأنه كان شديد الحرص على تنفيذ مشروعه، وإذا بالحاجب يقول: «إن السجين النصراني بالباب.»
فقال الأمير: «أدخلوه.»
فدخل سعيد وقد تغيرت سحنته فطال شعره وتبعثر على وجهه وقد أضنته فرقة الشمس وملازمة السجن، فتأثر زكريا من حاله وصار يرتعش لشدة قلقه وخوفه أن يعجز عما يندب إليه . أما سعيد فدخل ولم ينتبه لزكريا، وإنما كان همه أن يجيب الدعوة، فوقف متأدبا فقال له ابن طولون: «كيف ترى نفسك؟»
قال: «أراني كما كنت.»
قال: «لا يسلم أحد من الخطأ.» فقال: «ولكنني لم أسأل عن خطأي لأتحققه أو أتبرأ منه، وإنما تعجل سيدي في عقابي بلا سؤال.»
قال: «ألا تعد قصرية الجير ووقوعي عن جوادي بسببها ذنبا؟ على أني لم أدعك لهذا، وإنما أردت أن أسألك في أمر، فإذا كنت مهندسا ماهرا وأخرجته لي اغتفرت لك ما سلف.»
قال: «ما هو يا سيدي؟»
قال: «عزمت على بناء جامع كبير على جبل يشكر في أطراف القطائع، وأشترط ألا يكون فيه أعمدة، فهل تستطيع بناءه على هذا الشرط؟»
فأطرق سعيد وأخذ يفكر وتناول خيزرانة كانت ملقاة بجانب الحائط، وأخذ يمررها على البساط كأنه يرسم بها خطوطا ومربعات وابن طولون يراعيه وقلب زكريا يخفق خوفا من الفشل. وأخيرا رفع سعيد رأسه وقال: «إني أفعل ما أمر به مولاي، ولكنني أستأذنه في أن يكون للجامع عمودان فقط هما عمودا القبلة.»
قال: «عمودان فقط؟»
قال: «نعم اثنان.»
فقال ابن طولون وقد بان البشر في محياه: وهل تقدر أن تبني الجامع على أن لا يكون فيه غير عمودي القبلة؟
قال: «نعم.»
قال: «أخاف أن يكون شكله مشوها أو منظره قبيحا.»
قال: «كلا، سيكون من أجمل الجوامع ليس مثله إلا المسجد الذي بناه أمير المؤمنين المعتصم في سامرا.»
قال: «قبل ذلك أرني صورته.»
قال: «ائتوني بالجلود، فأصوره لكم كما يكون بعد الفراغ من بنائه.»
فكاد قلب زكريا يطير من الفرح، ولكنه ظل ساكتا ليتحقق الأمر بعد الرسم.
وأمر ابن طولون بالجلود فأتوه بها، فأخذ سعيد يصور عليها رسم الجامع بجدرانه وقبلته وصحنه ومئذنته وكل مرافقه. فلما فرغ من الرسم دفعه إلى ابن طولون ففرح به كثيرا وأمر أن يطلق سراحه وأن يخلع عليه وقال له: «سأطلق يدك في النفقة على البناء ومتى انتهيت منه كافأتك أحسن مكافأة.»
فحنى سعيد رأسه شاكرا.
أما زكريا فلم يستطع كتمان فرحه ، فتقدم حتى وقف إلى جانب سعيد، فلفت انتباه ابن طولون وظنه يتصدر لينال الجائزة، فقال: «والفضل فيما نلت من توفيق لهذا النوبي الشيخ - بارك الله فيه.»
فالتفت سعيد إلى زكريا، فرآه ينظر إليه ويضحك، فعرفه وخفق قلبه لذكرى دميانة وبانت البغتة في محياه، وخاف أن يلحظها ابن طولون فاستأذنه في الخروج فقال له: «تخرج إلى دار الأضياف وسنأمر لك بقصر تقيم به ولا يؤذن في خروجك من القطائع؛ لأن وجودك بها يهمنا كثيرا وإذا شئت أن تأتي بأهلك فيقيمون معك فافعل.» والتفت إلى زكريا وقال: «إنك صاحب فضل يا عم. بورك فيك. سل ما تشاء.»
قال: «لا أسأل إلا أن يكون مولاي موفقا. وقد انشرح صدري لظهور الحق ويكفيني ذلك.»
فقال: «ولكنه لا يكفينا نحن.» وصفق، فجاء الغلام فأمر له بجائزة، فدعا له وخرج وهو يعلم أن سعيدا يود مقابلته قبل الانصراف، فانتظره حتى خرج.
فلما رآه سعيد أسرع إليه وسأله عن حال دميانة، فقص عليه ما جرى لها وما قاسته من عناد أبيها وما كان من أمر إسطفانوس وأنها الآن في حلوان تنتظر رجوعه.
وكان سعيد يسمع حديثه وهو يكاد يتميز من الغيظ، فقال: «تبا لذلك الخائن النذل كأنه يثأر لنفسه بعد اللطمة التي نالها ليلة عيد الشهيد، وكان يحسن به أن يظهر نفسه ولكنه لئيم جبان، وقد واطأه مرقس على ابنته وهو جاهل لا يعرف ما ينفعه ولا ما يضره، فالحمد لله على رد كيدهم إلى نحورهم فاذهب إلى دميانة وبشرها بالفرج. وقل لها: إن ذلك الغر سينال جزاء فعلته قريبا، وكم أود أن أذهب معك لأراها. ولكن ابن طولون لا يأذن في خروجي من قصره كما سمعت على أنني سأسعى لزيارتها في وقت آخر وآتي بها تقيم معي بالقصر الذي وهبه لي الوالي بعد أن أعده لاستقبالها ونقيم فروض الإكليل.»
فودعه زكريا وهم بالذهاب فرأى غلام ابن طولون واقفا ينتظره ليأخذه إلى الكاتب ليعطيه رفده، ولم يخط خطوتين نحو باب القصر حتى رأى إسطفانوس قد برز له من وراء الباب ووقف وجعل ينظر إلى زكريا ويتفرس فيه ولسان حاله يقول «قد عرفتك.» ولم يره مع سعيد بعد أن علم برضا ابن طولون عنه وإكرامه إياه لأسرع إلى القبض عليه يتهمه بالسرقة لكنه خاف سعيدا وتذكر ليلة عيد الشهيد فكظم غيظه.
ونظر إليه زكريا نظرة المعتز بالفوز ومشى لا يبالي، ولولا رغبته في الإسراع إلى دميانة لشكاه إلى ابن طولون رغم نفوذ أبيه. فاكتفى بأن نظر إليه شزرا وتحول يقصد حلوان وقد مالت الشمس عن خط الهاجرة وهو يسرع تلهفا لرؤية دميانة وتبشيرها بما ناله من الفوز والفرح.
ولم يكد يتوسط الطريق إلى «طره» حتى رأى الناس يهرعون ركضا إلى القطائع وفيهم النساء والأطفال كأنهم فارون من قتال. فسأل بعضهم عن هذا الفرار فقالوا: «إن البجة سطوا على حلوان ونهبوها.»
فقال: «ومتى كان ذلك؟»
قالوا: «نزلوا عليها في هذا الصباح، وفتكوا بأهلها ونهبوا بيوتها.»
فأجفل زكريا، وخفق قلبه ووقف لحظة وقد جمد الدم في عروقه خوفا على دميانة، فرآه الراكضون واقفا فقالوا له: «ارجع يا عماه وإلا فإنك تذهب فريسة البجة لعنهم الله، فهم كالأبالسة ووجههم كوجوه الشياطين.»
فلم يبال ما سمع، ولم يزده ذلك التحذير إلا رغبة في المسير إلى حلوان ليرى ما جرى لدميانة، وتمنى لو ذهب إلى الفسطاط قبل مجيئه وركب جوادا يسرع به، ولكنه وجد نفسه أقرب إلى حلوان منه إلى الفسطاط فظل مسرعا يعدو والناس يركضون فرارا من القتل والنهب وقد استقر في ذهنه أن دميانة في أمان؛ لأنها في جوار صديقه قعدان العربي.
فلما أطل على حلوان اتجه إلى منزل الرجل وما أشرف عليه من بعيد حتى رأى الخباء منصوبا فاطمأن ولكنه لم ير أحدا حوله، فلما دنا منه رأى الخراب مخيما عليه ولفت نظره وجود جثة ملقاة على الأرض بباب الحديقة عرف أنها جثة غلام صاحبه، فتقدم نحوها فرأى الدم ما زال يسيل منها، فاضطربت جوارحه ولكن لهفته على دميانة أنسته الخوف ومشى في الحديقة فرأى آثار حوافر الخيل بين الأغراس وقد تكسرت وتهشمت، فأسرع حتى أقبل على الخباء فسمع أنينا وتقدم فرأى رجلا مطروحا أرضا فلما وقع نظره عليه عرف أنه صاحبه قعدان فأجفل وصاح: «قعدان! قعدان!» وأكب عليه وأمسك بيده ليجلسه ويفحصه.
فأدار قعدان وجهه إليه والدم يسيل من جرح عميق في كتفه ولم يستطع أن يتكلم. فقال له زكريا: «لا بأس عليك يا أخي ما الذي أصابك.»
فقال بصوت مرتعش متقطع من شدة الضعف: «عفوا يا زكريا، إني لم أستطع الاحتفاظ بدميانة؛ فقد أخذوها مني أخذها لصوص البجة. ويعلم الله أني بذلت جهدي في حمايتها حتى قتل ولدي ورجالي وها أنا ذا كما ترى. فعفوك يا أخي. إني لم أقم بحق الجوار.»
وكان ينطق بصعوبة وزكريا ينظر إليه ويكاد قلبه ينفطر لما رأى من آلامه ولما سمع اعتذاره وكيف أنه ضحى بأهله وبنفسه دفاعا عن جاره أكبر أنفة العرب ونخوتهم وحزن لذهابه قتيلا وفهم من خلال كلامه أنه لم يستطع حماية دميانة فأحب أن يعرف ما جرى لها فقال: «لا بأس عليك يا أخا العرب إنك - والله - قد وفيت حق الجوار وأحييت سنة العرب وهل للإنسان من شيء يبذله في سبيل جاره أعز من أهله ونفسه - شفاك الله وعافاك.» وكان لا يزال قابضا على يده، فهم بإنهاضه وقال: «انهض، اجلس، هل آتيك بما تشربه؟ قم لأغسل جراحك.»
فقال: «لا فائدة من هذا ولا ذاك؛ فإني ميت لا محالة، واعلم يا أخا النوبة أن دميانة حية قد سباها البجة، وأظنهم أخذوا أيضا ابنتي وسائر أهلي.» قال ذلك وتململ وبان التألم في وجهه وصرخ «آه لو كنت أستطيع القيام للحقت به.» واختلج وشهق وأسلم الروح.
فلم يتمالك زكريا عن البكاء رغم اشتغال خاطره بدميانة، وأسف لموت هذا الصديق الذي يندر مثاله، ولكنه لم يجد حيلة ينفعه بها وقد قضى نحبه سوى أن يواريه التراب ولم يجد أحدا يستعين به؛ لأن أهل حلوان كانوا قد هجروها كما هجرها البجة أيضا بعد أن نهبوها خوفا من رجال الحكومة. فاحتفر حفرة دفن قعدان فيها ورجع إلى نفسه وأخذ يفكر فيما يجب عمله للاهتداء إلى دميانة، واسترجع في ذهنه ما سمعه من قعدان، ففهم من مجمله أن البجة سطوا على حلوان، فنهبوها وسبوا نساءها، وكان زكريا قد عرف البجة وعاشر بعضهم، وهم يقيمون بالصحراء الشرقية، يعيشون على الغزو والنهب، وكلهم أشداء أهل بادية وخشونة. فلما تصور دميانة معهم اقشعر بدنه؛ لعلمه أنهم لا يعرفون حراما ولا رادع لهم من دين؛ فقد كانوا لا يزالون في الوثنية. •••
كان زكريا يفكر فيما حدث وهو يمشي على غير هدى نحو الجهة التي حسب البجة نزلوا منها أو عادوا إليها لعله يقف لهم على أثر يرى من يرشده إليهم. وصعد في طريقه أكمة أشرف منها على الصحراء من بعيد، ونظر فلم ير أحدا، ولكنه عرف من آثار الحوافر أن القوم كانوا هناك وذهبوا، فحدثته نفسه أن يقصهم وحده متشوقا للعثور على دميانة، ثم عاد إلى رشده فرأى أنه يجهل مقرهم وأنه يعجز عن إنقاذ دميانة منهم لو عرفه. فوقف محتارا، ثم انتبه إلى الأنبوب، فافتقده فإذا هو لا يزال تحت ذراعه، فتذكر دميانة وما قاسته من البلاء والعذاب حتى إذا دنت منها ساعة الهناء ساقها سوء الطالع إلى السبي. فقال في نفسه: «ليكن اسم الله مباركا كأن هذه الفتاة على تقواها وطيب عنصرها وما توافر لها من أسباب السعادة خلقت لتشقى! أين أنت الآن يا دميانة؟ ماذا أقول لخطيبك إذا سألني عنك؟ أأقول له سباها البجة؟ وهم قوم لا يرعون زماما ولا يوفرون عرضا؟» وغلب عليه الحزن واليأس فبكى وأغرب في البكاء وهو وحده لا سميع له ولا مجيب.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فلما رأى الظلال تستطيل انتبه واستوحش وعاد إلى صوابه فقال في نفسه: «لا يفيد البكاء في مثل هذه الحال. وعلي أن أعمل عملا وأن أسعى في إنقاذ دميانة. ولكن كيف أنقذها؟ أأذهب إلى سعيد أخبره بما أصابها وأستنجده؟ وماذا ينفع استنجاده؟ إنه لا يستطيع شيئا حتى ابن طولون نفسه لو أراد أن ينجدني وجرد جيشا على البجة لما جاءني بنفع فإن هؤلاء الأفاقين خارجون على الحكومة من عهد بعيد ولم تقو دولة على إخضاعهم؛ إذ اتخذوا من الصحراء مأوى لا يستطيع أحد الوصول إليهم فيه!»
ومر في ذهنه ماضي أيامه إبان شبابه في بلدة النوبة، وتذكر ما لملك النوبة من السطوة المهابة في قلوب البجة فقال: «لا ينجدني في هذا الأمر إلا ملك النوبة، ولكن أين هو وأين أنا منه؟ إن بيننا مراحل عديدة، ثم هو يعرفني ولا ينجدني!»
وكان يناجي نفسه وهو راجع عن تلك الأكمة نحو حلوان، فلم يجد خيرا من أن يعود إلى الفسطاط إلى الخان وفيه ثيابه وفرسه، ثم يرى ماذا يعمل. فمشى وهو لا يبالي التعب وقد أظلمت الدنيا، فجعل طريقه على ضفة النيل ولا شيء يلهيه عن التفكير في إنقاذ دميانة من مخالب أولئك اللصوص.
خرج من حلوان وهو في لباس بدو النوبة كما كان عند خروجه من القطائع، ومشى مشتت الأفكار، فوقع بصره على أنوار عند سفح المقطم على أنها في قبة الهواء. فتذكر موقفه مع دميانة وتذكر - للحال - صديقه في المسجد القائم هناك وكان قد مر به قبل ذهابه إلى حلوان وهو يعرف فيه الاطلاع على أحوال البجة وسائر أهل الصحراء، فخطر له أن يذهب إليه ويستشيره في الأمر لعل له وسيلة قريبة تنيله مراده. فعرج على المقطم. وما صعد حتى أتى المسجد، فلاقاه صديقه وأنكره لأول وهلة، ثم تعارفا فدعاه إلى الجلوس، فجلسا لدى باب المسجد، فسأله صاحبه عن حاله فأخبره أنه ترك دميانة عند صديقه العربي في حلوان، وجاء الفسطاط في مهمة ولما رجع رأى البجة قد سطوا على البلد وقتلوا من قتلوه وفر الباقون، وأنهم أخذوا دميانة سبية إلى أن قال: «هل تعرف شيئا عن هؤلاء البجة وأين يقيمون ومن هو زعيمهم؟»
قال: «إن زعيمهم اليوم رجل يقال له أبو حرملة.»
فصرخ زكريا: «أبو حرملة؟ فرج النوبي ابن بلدنا؟»
قال: «كلا. ليس هو الرجل الذي تعنيه، ولكنه تسمى باسمه تشبها بالشجعان ولف حوله عصابة من قومه وجعل ديدنه السطو على أطراف مصر ينهب ويقتل، ولم يسبق له أن سطا على حلوان قبل الآن.»
فتنهد زكريا وقال: «لعله فعل ذلك لسوء طالع تلك الفتاة التقية. وأين تظنهم يقيمون الآن؟»
قال: «يقيمون؟ لا أعرف لهم مقاما؛ لأنهم قوم رحل يعيشون على الغزو والسطو.»
قال: «وما رأيك الآن. كيف العمل يا صاحبي؟ إني أراني في حيرة. كيف يمكنني إنقاذ هذه الفتاة، فقد اؤتمنت عليها وعاهدت نفسي أن أقوم بخدمتها ورعايتها. وقد أخذت أثناء غيابي ويا ليتني كنت حاضرا ساعة السطو؛ فكنت أنقذها أو أقتل في سبيل ذلك فأذهب مرتاح الضمير.» قال ذلك وغص بريقه وأجهش في البكاء.
فلما رآه صاحبه يبكي وهو شيخ عطف عليه ودفعته الأريحية فقال «خفف عنك يا زكريا واشكر الله على أنك كنت غائبا في تلك الساعة وإلا لكنت مقتولا لا محالة ولا تبق حيلة لإنقاذ الفتاة أما وأنت حي فلا تعدم وسيلة لإنقاذها.»
قال: «ما هي الوسيلة؟ هل تعلم مقر هؤلاء فأذهب إليهم بنفسي وأكلم أبا حرملة وأستعطفه لعله يشفق على الفتاة وأفتديها بما يريد من المال.»
قال: «أما مقر هؤلاء فلا سبيل إلى معرفته ولا فائدة ترجى من الاستعطاف، وأما الفداء فلو كان الأسير رجلا أو غلاما أو امرأة طاعنة في السن؛ فربما أفاد أما وهي فتاة جميلة فلا أظنهم يقبلون افتداءها، وأرجح أن أبا حرملة يجعلها في جملة نسائه فقد سمعت أنه رغاب في النساء!»
فقطع زكريا كلامه قائلا: «تعني أنه يتزوجها؟»
قال: «يتزوجها أو يتسراها لا أدري.»
فصاح زكريا: «أعوذ بالله.» وأطرق هنيهة ثم قال: «لا أخاف عليها منه ما دامت حية وإن كان جبارا ولكن ...» وبلع ريقه وأخذ ينكت بالأرض بإصبعه ويفكر.
فابتدره صاحبه قائلا: «لا فائدة من التفكير إننا لا نعرف مقرهم وإذا عرفنا لا قدرة لنا على مناوأتهم.»
فعاد إلى ذكر سعيد ومنزلته عند ابن طولون فقال: «وما قولك إذا استنجدنا أمير مصر؟»
فابتدره قائلا: «لا ترجى نجدة من الأمير؛ فإنه لا يعرض رجاله للموت في الصحراء ولو كان يستطيع إخضاعهم لفعل ذلك من قبل. فإن البجاويين لم ينفكوا عن السطو على حدود البلاد من أزمان متطاولة والدولة عاجزة عن ردهم، فكيف يتعقبهم إلى منازلهم ومنازلهم على ظهورهم؟»
فأيقن زكريا ألا خير يرجى من استنصاره سعيدا، فعزم على كتمان هذا الأمر عنه، وقال له صاحبه: «ما بالك لا تفكر في مولانا ملك النوبة وأنت تعلم نفوذه على البجة؛ فإنهم لا يخافون أحدا سواه؟»
قال: «أعلم ذلك وقد خطر لي أن أستنجده، ولكنه لا يعرفني، وبلده بعيد، وأخاف أن أضيع الوقت بالسفر إليه في أطراف النوبة ثم أفشل ويذهب سعيي عبثا.»
فقال: «ألست نصرانيا؟»
قال: «بلى.»
قال: «ألا تعلم مقدار تمسك ملكنا بالنصرانية وغيرته عليها؟»
قال: «أعلم.» وتنبه لرأي أشرق له وجهه وقال: «فطنت لوسيلة تضمن النجاح. فطنت لما تريد أن تقوله. سأستنجد أحد أساقفتنا ليتوسط لي لدى ملك النوبة وإنني أقدر أن أوسط البطريرك نفسه.»
فصاح الرجل عند ذلك قائلا: «بورك فيك، هذا هو الرأي الصواب وإذا اتبعته نلت ما تريد. إذا استطعت أن تأخذ كتابا، مر البطريرك إلى ملك النوبة يوصيه بك خيرا؛ فإنه لا شك يقضي لك أمرك.»
فقام زكريا لساعته ومد يده، فودع صديقه، وقال: «لقد استصوبت رأيك وسأعمل به. والوقت ثمين.»
قال: «ألا تنام هنا وتسافر في الصباح؟»
قال: «دعني أذهب لإعداد ما يلزم.» قال ذلك وتوجه قاصدا إلى الفسطاط من جهة الشاطئ.
ولما أطل على حصن بابل ووقع بصره على دير المعلقة عرفه من نور معلق بباب الحصن، فتذكر دميانة والأسقف ومرقس كما تذكر البطريرك ميخائيل يقيم بدير أبي مقار بالصحراء الغربية في وادي النطرون والطريق إليه شاق، ولا بد من التأهب للمسير فيه.
ووصل إلى الفسطاط وقد أغلقت أبوابها، فبات في مكان خارجها، ولما فتحت الأبواب دخلها متنكرا حتى أتى الخان، وأخذ يتأهب للسفر إلى دير أبي مقار عبر النيل والصحراء الغربية.
ورأى - لتمام الحيلة - أن يتنكر بلباس الرهبان وحدثته نفسه أن يركب جواد مرقس الذي أتى به من طاء النمل، ولكنه خاف أن ينم عليه فيذهب تنكره عبثا، فباعه لصاحب الخان واشترى هجينا خفيفا وضع عليه رحلا ونزل السوق فاشترى ثياب الرهبنة وأهمها الرداء الأسود الخاص بالرهبان والقبعة الخاصة برهبان دير أبي مقار، وقضى في ذلك يوما كاملا وفي المساء أعد كل شيء على أن يسافر في صباح الغد.
ولما عزم على السفر تذكر سعيدا وقال في نفسه: «كيف أتركه وأسافر بدون أن يعلم مصيري وما حدث لدميانة، فقد يذهب إلى حلوان فلا يقف على خبرها، فيظنني خدعته، أو ربما تولاه اليأس أو غير ذلك.»
قضى ليلته يفكر في سعيد ولم ينم إلا قليلا، وتعاظم الأمر عليه أثناء رقاده؛ لأن المرء إذا فكر في أمر يهمه وكان تفكيره في الظلام وهو راقد مغمض الأجفان تعاظم عليه الوهم، فرأى أن يطلع سعيدا على ما جرى فلما أصبح تنكر بغير لباس البادية الذي جاء يوم مقابلة سعيد وخرج إلى القطائع، وأخذ يسأل عن المهندس النصراني؛ إذ كان معروفا بهذا الاسم فلم يهتد إليه. ولكنه اهتدى إلى القصر الذي أعدوه له، وسأل حاجبه فقال له: «خرج مساء الأمس ولم يعد بعد.»
فأخذ يفكر فيما عسى أن يكون حاله، وكيف يخرج وإلى أين وابن طولون قد منعه من الخروج وخاف أن يكثر من السؤال فيشتبه الحاجب فيه فرجع. وخطر له أثناء رجوعه أن سعيدا قد يكون ذهب إلى حلوان بعد أن بلغه سطو البجة عليها؛ لأن خبر تلك الغزوة ذاع في أنحاء المدينة. فترجح لديه أنه ذهب إلى هناك، فاتجه إلى ذلك الطريق؛ لعله يلاقي سعيدا، وما مشى طويلا حتى شاهد فارسا قادما من طريق حلوان، وعرف من قيافته أنه سعيد، وما عتم أن وصل الفارس فإذا به هو بعينه فناداه زكريا فوقف، ولما عرفه أسرع إليه وترجل وسأله: «أين دميانة؟ لقد ذهبت إلى حلوان فلم أجدها ولا وقفت لها على خبر، هل كنت تقول الصدق؟»
قال: «نعم يا سيدي قلت لك الصدق. ألم تسمع بما أصاب حلوان؟»
قال: «سمعت أن بعض البجة سطوا عليها ونهبوها، فهل أخذوا دميانة في جملة السبي؟» قال ذلك وهو يتلعثم وقد جف حلقه.
قال: «يظهر أنهم أخذوها وكنت ذاهبا للتفتيش عنها دون أن أخبرك؛ لئلا أكدرك عبثا فأنت مقيد في منصبك، ولا سيما الآن، ولكني رجعت أمس، فرأيت الأفضل أن أراك قبل سفري.»
قال: «وماذا جرى؟»
فقص عليه حديثه منذ فارقه وسار إلى حلوان، ثم قال: «ولم أجد وسيلة لإنقاذ دميانة غير توسيط البطريرك لدى ملك النوبة، وسأذهب في الغد إلى دير أبي مقار.»
وكان سعيد يسمع كلامه ويكاد يتميز من الغيظ، فقال له: «لماذا لا نذهب إلى البجة رأسا ونحمل عليهم برجالنا ونأخذ دميانة قهرا، إني لا أرجع عنهم حتى آخذها.» قال ذلك والغضب يقيمه ويقعده.
فقال زكريا: «لا يعلم أحد مقرا لهم بهذه الصحراء، ثم إنك إذا طلبت من ابن طولون أن ينجدك بالرجال لم يجب طلبك؛ خشية على رجاله.»
قال: «مالي ولابن طولون؟ سأذهب بنفسي.» قال ذلك مدفوعا بالحماسة والغيرة.
فقال له زكريا: «إذا كنت ترى وسيلة لاسترداد دميانة بالقوة كما تقول؛ فافعل وأما أنا فلا أمل لي إلا في الطريق الذي ذكرته لك، دعني أذهب في هذه المهمة ولا أضيع الوقت سدى، هل تأذن في ذهابي؟»
فتنهد سعيد والدموع تكاد تترقرق في عينيه لتصوره حال دميانة في قبضة أناس وثنيين لا آداب تردعهم ولا دين يردهم ولا شفقة في قلوبهم، وقال: «اذهب أنت وسأبحث أنا عن وسيلة قريبة، فإذا وفقت إليها فبها ونعمت وإلا فأنا سائر في عملك. وإذا جد شيء فأخبرني به وأنا مقيم بالقطائع، هل عرفت منزلي؟»
قال: «نعم عرفته، أستودعك الله؛ فأنا ذاهب لساعتي والاتكال على السيد المسيح وأرجو ببركة سيدتنا مريم العذراء أن تتوصل إلى الهدف المطلوب.»
فدعا له سعيد بالتوفيق وافترقا.
في دير أبي مقار
سار زكريا توا إلى الخان، فأعد كل معدات سفره، ثم ركب هجينه وخرج من الفسطاط فقطع النيل على جسر جزيرة الروضة، وقطع جسرا آخر إلى بر الجيزة، فلما صار في البر الغربي من النيل انتهز فرصة بدل فيها ثيابه ولبس ثياب الرهبنة وهو نوبي اللون والملامح، فأصبح كأنه راهب من رهبان النوبة، ثم اتجه انتباهه إلى الأسطوانة التي وضع فيها آماله وآمال دميانة، فجعلها في كيس في عنقه تحت إبطه، بحيث لا تظهر ولا ينتبه لها أحد، وبات ليلته وأصبح فركب هجينه وسار شمالا يطلب بعض المحطات التي يسار منها إلى وادي النطرون وفيه دير أبي مقار.
ويقع وادي النطرون في صحراء ليبيا غربي الدلتا، على مسافة ثلاثة أيام منها يقطعها المسافر في رمال وصخور لا أثر للعمارة فيها، ولا يلقى أنيسا إلا القوافل الذاهبة إلى ذلك الوادي لتحمل الملك أو النطرون إلى الدلتا أو الراجعة بالمؤن والأطعمة للرهبان بالأديار القائمة في تلك البادية الموحشة.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن هذا الوادي كان فيه نحو خمسين ديرا وقال آخرون: إنها أقل من ذلك. والموجود منها الآن لا يتجاوز عدد أصابع اليد أهمها: دير أبي مقار ودير الأنبا بشاي ودير البراموس. وأولها أقربها إلى الدلتا، ثم تتباعد حسب ترتيب ذكرها. وهي قديمة البناء ربما اتصل تأسيسها بالقرن الرابع للميلاد؛ أي عند شيوع الرهبنة في النصرانية مما لا محل لتفصيله هنا.
والذاهب إلى وادي النطرون لا يأمن الذهاب وحده في تلك البادية؛ خوف الضلال في الطريق وحذرا من أهل السطو، ولذلك لم يكن الناس يسافرون إلا مع القوافل جماعات، ولم يكن زكريا يجهل ما يعترضه من الخطر في السفر، فلما وصل إلى المحطة التي يبدأ منها الدخول في الصحراء غربا إلى وادي النطرون أخذ يبحث عن قافلة يسير برفقتها، فعلم أن ركبا يتأهب للمسير في الغد يحمل المئونة من الزيت والحنطة وغيرها إلى دير أبي مقار، ففرح لهذه الفرصة المواتية، وانخرط في سلكهم وكان معهم راهبان من رهبان الدير، فسألاه عن أمره فاضطر إلى أن يجعل قوله مطابقا لملابسه فقال: «إنني راهب من رهبان النوبة.» فقال الراهب: «أظنك قادما في مهمة إلى البطريرك ميخائيل؟» وتنحنح. فقال: «أطلب تقبيل يديه.»
فلما قال ذلك التفت أحد الراهبين إلى زميله وتبسم كأنه يلفته إلى شيء لحظه. فلما رأى زكريا تبسمه وإيماءه خاف أن يكون قد كشف أمره - ويكاد المريب يقول خذوني - لكنه تجلد والتفت إلى الراهب الذي ضحك وقال: «ما بالك تضحك أيها الأخ ألم تصدق قولي؟»
قال: «العفو يا أخي. ليس هذا غرضي معاذ الله أن أشك في قولك ولكنني ضحكت لأمر تذكرته وقع من عهد غير بعيد، وإذا كنت قادما من النوبة الآن فأنت جدير بمعرفته.»
وخشي زكريا أن ينكشف أمر تنكره فابتسم وأغضى كأنه يعرف السر ويود السكوت عنه، واكتفى بأن تحقق وجود البطريرك ميخائيل هناك. وسكت الراهبان وقضوا ذلك اليوم في الاستعداد، وأقلعوا في صباح اليوم التالي ومعهم الخدم لسوق الجمال أو البغال وكلها للدير وهي تحمل جرارا من الزيت وأكياسا من الحنطة والعدس والفول وبعض الأقمشة وغير ما عليها من الأقوات والماء للطريق.
وما تبطنوا الصحراء حتى أصبحوا في قفر يكتنفهم الرمل والصخور من كل ناحية كما يكتنف الماء المسافرين في البحار من كل الجهات. والمسافر في البادية إذا أوغل فيها لا يرى حوله إلا رمالا ومن أجمل مناظر الصحراء في النهار منظر السراب أو الآل الذي يتراءى للناظر عن بعد كأنه ماء يجري في نهر أو بحر ويرى ظلال الشجر أو الصخور في أسفل الماء كما تنعكس عن شواطئ البحور فيراها المقبل عليها من بعد.
ولم تكن هذه المناظر غريبة على زكريا؛ فقد طوى البادية مرارا، ورأى السراب وقاسى العذاب في شبابه، ولكنه لم يكن قد زار دير أبي مقار قبل ذلك الحين ولا عرف الطريق إليه فكان معوله على رفاقه، ورآهم في قلة من الرجال فقال لهم وهم يسوقون هجنهم ضحى ذلك اليوم لا يسمع لها خطو على الرمال: «أراكم في قلة وعهدي بالقافلة إذا لم تكن قوية أن يخشى عليها من قاطعي الطريق.»
فقال أحد الراهبين: «كان ذلك قبل إمارة ابن طولون؛ فإنه أحسن الظن بالأقباط ومنع التعدي عنهم، فأصبح الواحد - أو الاثنان - يسافران منفردين ولا خوف عليهم .»
فقال زكريا: «صدقت، إن حال مصر في ظل هذا الأمير لم يسبق لها مثيل منذ أول الفتح.»
استراح أهل القافلة عند الأصيل قليلا، ثم استأنفوا المسير حتى أقبل المساء، فنصبوا خيمة خفيفة للمبيت فيها وجلسوا للطعام وقد دنت الشمس من الأفق وأخذت تستطيل حتى صارت كمثرية الشكل واحمر لونها وأحاطت بها هالات من الشفق باهرة الألوان مما يسحر العقول. ولو كان أهل القافلة من الشعراء لوقفوا مبهوتين لهيبة الطبيعة ولخيل إليهم أنهم يسمعون خطيبا يعظم أمر الخليقة ويستعظم سرها. ولا يخطر للإنسان عظمة هذا الكون وكبر شأنه إلا إذا خلا في موقف طبيعي مثل هذا. أما في المدن فتشغله الجواذب والدوافع ويلهو بملذاته ومطامعه. ولكن أصحابنا الرهبان لم يكونوا من الشعراء ولا لفت ذلك المنظر انتباههم وإنما شغلهم تعبهم عن كل شاغل فلجئوا إلى الرقاد على أن يقلعوا في الغد فيصلوا إلى دير أبي مقار قبل غروب الشمس.
وكان زكريا أكثرهم رغبة في الوصول؛ فقد كانت الصحراء تذكره بدميانة وأنها أخذت إلى مثلها وألحت عليه هواجسه لكي يحث هجينه للوصول إلى الدير، لكنه لم يشأ أن يترك رفاقه؛ لأن جمال الحمل تبطئ بخلاف الهجن، فخطر له أن يستأذن رفاقه صباح اليوم التالي ليسبقهم، فأنكروا عليه انفراده فوافقهم، ثم شدوا رحالهم في الصباح وساروا يقطعون منخفضات ومرتفعات ليست بالأودية وبالجبال وإنما هي تعاريج لا يبرح المسافر كيفما توجه يجد نفسه محاطا بالتلال الصخرية أو بروابي الرمل.
وعند الأصيل أطلوا من حافة السهل على واد عظيم فيه آثار من الأبنية المتفرقة وبعض الأشجار المبعثرة، وأول بناء كبير وقع نظرهم عليه من بعيد دير أبي مقار بقرب فتحة الوادي. وحالما أطلوا عليه أشرقت وجوههم، وقال أحدهم: «هذا هو الدير.»
فقال زكريا: «لا بد من الوصول إليه الليلة.» وكانت رغبته في الوصول تجعله يردد ما يجول في ذهنه خوف تباطؤ القافلة، فقال له أحد الراهبين: «أظننا نصل الليلة أو صباح الغد، وإذا كانت الليلة مقمرة نواصل السير ليلا حتى نصل؛ إذ يظهر أنك مستعجل في مهمتك يا أخ.» وضحك فعلم زكريا أنه يمزح؛ لأن الليلة مظلمة والقمر في أواخر أيامه، فلم يجبهم، وتشاغل بإصلاح رحل جمله تحته. وبينما هم سائرون وعينا زكريا نحو الدير وقع نظره عند أول الوادي على أشباح راكبين على هجن، ولم يستطع تمييزهم لبعد المسافة، فقال لأقرب الراهبين إليه: «كأني أرى أناسا ودواب؟»
فنظر الراهب إلى الوادي وتفرس قليلا، ثم قال: «ألا تراهم خارجين من الوادي؟ إنهم من التجار يحملون أحمال الملح والنطرون، أو ربما حملوا القش الذي يصنعون منه الحصر؛ فإنه كثير هنا.»
فقال: «لا أرى معهم أحمالا مما ذكرت. وإذا كانت معهم أحمال فينبغي أن تكون أقل من ذلك كثيرا.»
وكان الراهب الآخر يتفرس في الأشباح فلما سمع جواب زكريا قال: «صدقت أحسبهم من تجار الزجاج لأن في هذا الوادي معملا يصنعون فيه الزجاج بنفقة أقل من نفقته في الفسطاط فيبتاع التجار من هنا كميات كبيرة يحملونها إلى الأسواق.»
فقال زكريا: «لم أكن أعلم أن الزجاج يصنع في هذه الأرض المنقطعة.»
فقال الراهب: «كان يصنع هنا من عهد دولة الروم، ولا يزال.»
فسكت زكريا وبعد هنيهة توارت تلك الأشباح وراء التلال ولم يعودوا يرونها، وطفقوا سائرين في طريقهم وعيونهم نحو الدير، ولا سيما زكريا فإنه كان أكثرهم رغبة في الوصول وزاد قلقه لما شاهد الشمس تقترب من الأفق خوفا من تخييم الظلام قبل الوصول.
وفيما هم في ذلك رأوا هجانا من وراء رابية وعليه العباءة والكوفية، ثم وقف هجينه لحظة وأشار إشارة وتقدم فظهر وراءه بضعة جمال على كل منها راكب وكلهم مسلحون بالرماح، ورآهم زكريا يتقدمون فخاف غدرهم إذ لم ير معهم أحمالا. فالتفت إلى رفيقيه الراهبين فرآهما قد تغير وجهاهما فقال: «يظهر أن هؤلاء ليسوا تجارا، وأظنهم من الأعداء؛ فإن ألبستهم عربية.»
ولم يتم كلامه حتى رأى القوم يسوقون هجنهم نحوهم وقد أشرعوا الأسنة، فتحقق أنهم من الأعداء، فأخذ يتأهب للفرار وإذا بهجان منهم ملثم تقدمهم وأشار بيده كأنه يقول لهم: «قفوا عندكم.»
فقال زكريا : «ماذا تريدون؟ من أنتم؟»
وكان الهجان قد وصل إليهم، فتفرس في زكريا ولما تبينه قال له باللغة القبطية: «ألست قادما من النوبة؟ قف ولا تتحرك.»
فرآه زكريا يتكلم القبطية كأنه من أهلها مع أن لباسه عربي فأشكل أمره عليه وقال في نفسه: «لا يمكن أن يكون هذا عربيا، فلعله جاسوس من الأقباط يعين العرب عليهم.» وزاده تلثم الرجل شكا فيه. لكنه شغل بالخوف منه عن البحث في شأنه.
فتحقق الركب عند ذلك أنهم مأخوذون، وعلم زكريا أن رفاقه لا يستطيعون الفرار لثقل أحمالهم، أما هو فحمله خفيف وليس عليه ما يمنعه من الإسراع فتهيأ للفرار. بينما تقدم الراهبان وأرادا الاستفهام من الهجان عما يريده، فقال أحدهما له: «ما الذي تبغونه منا؟»
قال: «اتركوا الأحمال وانجوا بأنفسكم.»
قال: «إننا نحمل طعاما للدير، ولم نعهد أن يتعرض لنا أحد؛ لأننا أصدقاء الأمير صاحب مصر.»
قال: «لم نتعرض لكم قبلا، أما الآن فأنتم أعداؤنا. وإذا لم تتخلوا عن الأحمال قتلناكم فانجوا بأنفسكم.»
فتحقق الراهبان وزكريا أنهم مغلوبون على أمرهم، فقد كان المغيرون أكثر من عشرة بالسلاح الكامل وهم لا سلاح معهم، فضلا عن قلة عددهم، فأخذوا يتوسلون إليهم أن يتخلوا عنهم مستغربين هذه المعاملة التي لم يسبق لها مثيل منذ عدة أعوام، فقال كبير القوم: «لا تسألونا عن السبب بل اسألوا بطريركم، وهو يخبركم.» قالوا ذلك وهم يهددونهم بالقتل إذا لم يتخلوا عن الأحمال وينصرفوا.
فتقدم زكريا يريد أن يستعطفهم، وقال: «إن هذه الأحمال طعام لرهبان يقيمون بهذا الدير، وقد أوصى نبيكم بهم خيرا.»
فانتهره الهجان وقال له: «كانوا كذلك، ولكن أفسدتموهم يا معشر النوبة وسترون عاقبة بغيكم قريبا وإذا فهت بكلمة أخرى أخرجنا ما تخفيه بين أثوابك من الرسائل.»
فخاف زكريا إن هو أصر على الإنكار أن يبحثوا بين أثوابه فيفقد الأسطوانة التي يخفيها تحت إبطه وتذهب آماله عبثا. ولم يعد يعلم ماذا يعمل لينجو قبل أن يقبضوا عليه، وهم إذا أرادوا قتله لا يمنعهم مانع، فتغابى وقال: «فتشوا. إني لا أحمل شيئا وإنما جئت لأفي نذرا لهذا الدير، وأنا أشير على رفاقي أن يتخلوا لكم عما معهم ويتبعوني قبل أن يشتد الظلام فيضلوا طريقهم.» قال ذلك وأشار إلى الراهبين أن يتبعاه ووخز جمله فطار به وكانت الشمس قد غابت وتكاثفت الظلال، فزاد القوم رغبة في القبض على زكريا لما آنسوه من رغبته في الفرار، فصاحوا به: «قف عندك.»
ولكنه كان قد أطلق لهجينه العنان، فاقتفى أثره اثنان منهم وكان قد تمرس بركوب الجمال في شبابه وكاد ينساه، لكن رغبته في النجاة وخوفه من وقوع ذلك الأنبوب بأيدي القوم جدد نشاطه وشبابه، فثبت على الرحل ثبات الطود. ولكن مطارديه كانوا من أهل البادية الذين شبوا على ظهور الجمال، فلم يطارداه إلا قليلا حتى كادا يدركانه، وكان الليل قد أسدل نقابه وأصبح على مقربة من دير أبي مقار، وعرف ذلك من مصباح موقد هناك لهداية القادمين، فلما أيقن بالهلاك ضاع رشده وارتبك في أمره وعثر الهجين برابية من الرمال فاختل توازنه فهوى عن ظهره، وأراد أن يتمسك برقبته فخانته يداه فسقط إلى الأرض فوق الرمال والهجين يجمح في عرض الصحراء. ولما وجد زكريا نفسه على الرمال سليما استرجع رشده وركض منحرفا عن الطريق وأخذ يبحث عن مكان يختبئ فيه حتى يمر الهجانان فوجد حفرة نزل فيها وهو يتلمس جوانبها.
أما الهجانان فكان أحدهما قد تعب وتباطأ وظل الآخر يستحث هجينه في أثر زكريا وقد أشرع الرمح، وزكريا تارة يتوارى عنه وراء التلال وطورا يظهر له وربما اقترب منه حتى كاد يدركه فيعيقه عنه عائق من وعورة الطريق أو غيرها فيسبقه. ولما سقط زكريا عن الجمل كان قد بعد عن مطارده وتوارى في ظل أكمته ولم يقف هجينه بل زاد عدوا؛ لأنه أجفل من سقوط راكبه وأحس بخفة محمله ولم ير الهجان المطارد سقوط زكريا فظل في أثر الهجين الهارب يعدو وحده. وبعد أن تجاوز مكان السقوط بمسافة طويلة أيقن أن زكريا سقط وقتل وأصبح همه منصرفا إلى تعقب الهجين لأخذه.
أما زكريا فتربص في الحفرة وعيناه تتعقبان الشبح الذي كان يطارده، فرآه تجاوزه جريا في أثر الهجين، فاطمأن على حياته، وأخذ يتحسس أعضاءه؛ لئلا يكون قد تعطل شيء منها، فوجدها سليمة فشكر الله وعد ذلك من كرامات مار مقاريوس صاحب الدير. وافتقد الأسطوانة فوجدها في مكانها تحت إبطه، فأخرج طرفها وقبله سرورا ببقائها وأعادها إلى مخبئها، ولبث ينتظر ما يكون من أمر رفاقه هل ينجون بأنفسهم أم لا، ولما مضت مدة لم يعد يسمع فيها صوتا خرج من الحفرة والظلام شديد، وتسلق رابية وأخذ يتلمس ويتفرس فيما حوله؛ لعله يرى شبحا أو يسمع صوتا، فلم ير غير نور الدير وقد أصبح قريبا، فمشى نحوه وقد أحس بالألم في ساقيه لكن فرحه بالنجاة من القتل أنساه كل شيء.
وما كاد يمشى قليلا حتى سمع صوتا وقف له شعره وارتعدت فرائصه، إذ كان صوت حفيف ثعبان ينساب على مقربة منه. ثم سمع فحيحه فجمد الدم في عروقه ووقف وقوف الصنم؛ لأنه كان يسمع عن الثعابين السامة في تلك البادية. وكان الظلام قد حال بينه وبين ما حوله، فلم يعرف كيف يتقي الأذى فأخذ يرسم علامة الصليب على وجهه ويستغيث بمريم العذراء ومار مقاريوس صاحب الدير وبسائر القديسين متمتما، ولو أراد رفع صوته لم يستطعه لجفاف حلقه من الخوف.
ظل واقفا بضع دقائق حسبها ساعات حتى بعد الحفيف عنه، فتحقق أنه نجا لكنه ما زال يخاف من طارق آخر فاستعان بالله واستجار بقديسيه ومشى نحو النور الذي يراه في دير أبي مقار.
مشى زكريا على الرمال يتحسس طريقه. فتارة تغوص قدمه في الرمل فيخاف أن تلدغها عقرب وطورا تصدم بصخر أو تعثر بحصى فيجفله صوتها. وكان محتذيا نعالا من القش كانت شائعة في وادي النيل ينسجها بعض أهل الريف من ألياف البردي أو القنب أو الغار. وكان يخطو وهو يتعثر بثوبه وافتقد قبعته، فلم يجدها، وكانت قد سقطت في أثناء الفرار ولم يشعر فلم يهمه أمرها وإنما أهمه الوصول إلى الدير.
أقبل على الدير فوجده مربع الشكل يكتنفه سور عال أشبه بأسوار قلاع الحصار طول كل ضلع من أضلاعه 140 مترا. ولم يكن زكريا جاء ذلك المكان من قبل، ولكنه سمع أن القادم إلى الدير يقرع جرسا فوق الباب فيفتح له، فأخذ يفتش عن الباب فدار حول السور فلم يجده فاتهم عينيه بالخطأ؛ لاعتقاده أن الأديار لا يمكن أن تكون بلا أبواب، فأعاد التفتيش بدقة، فوصل إلى مكان من السور وجد عنده حجري رحى كبيرين قطر الواحد منهما ثلاثة أذرع، فتفرس فيها فرأى وراءهما بابا لا يزيد علوه على ذراعين وإذا فتح لا يدخله الإنسان إلا ساجدا، فمد يده إلى الباب وجسه بأنامله فرآه مصفحا بالحديد الضخم بحيث يستحيل كسره وهو لم يكن يريد كسره وإنما يريد أن يعلن أهل الدير بوصوله ليفتحوا له فقال في نفسه: «إذا كان هذا هو الباب فلا بد من الجرس عليه أو وراءه.» فتسلق أحد الحجرين وتلمس الحائط فوجد عليه حبلا جذبه فسمع صوت الجرس وكان له دوي في ذلك الليل الموحش، وعلا نباح الكلاب من الداخل ووقف ينتظر ما يكون.
وبعد هنيهة رأى أشعة نور مرسلة في الفضاء داخل السور تقترب نحوه، وأخيرا رأى النور فوق السور يحمله راهب أطل من أعلى السور يتطاول بعنقه والمصباح في يده وقد مد عينيه نحو زكريا كأنه يستكشف حاله ووقت أشعة المصباح على وجه الراهب، فأبان عن شيخ هرم قد تجعد وجهه وشاب شعره، وحالما وقع بصره على زكريا قال بالقبطية: «من أنت؟»
قال: «غريب قاصد زيارتكم لتقبيل أنامل البطريرك والتبرك بصاحب هذا الدير.»
قال: «هل أنت وحدك؟»
قال: «نعم يا أخي، ألا تفتح لي؟»
قال: «إن فتح الباب يقتضينا مشقة كبيرة لإزاحة الحجرين من الخارج والأحجار التي وراءه من الداخل، فالأوفق - على ما أرى - أن ندلي لك حبلا ونرفعك بالبكرة.»
قال: «كما تشاء.»
فمضى الراهب ثم عاد وأدلى له حبلا تشبث به، فأدار الراهب بكرة كبكرة البئر، فصعد زكريا حتى بلغ أعلى السور، فسلم على الراهب ونزلا من وراء الباب وقد تغطى معظمه بالحجار الضخمة التي دعموا الباب بها، وربما زاد وزنها على عشرات القناطير. فاستغرب زكريا ذلك الحذر؛ لأن ثقل هذه الأثقال يقتضي وقتا ومشقة، فقال: «أراكم قد أكثرتم من الدعائم للباب كأنكم في حصار.»
قال: «لم نفعل ذلك إلا في هذين اليومين لأسباب ستعلمها. تعال الآن إلى غرفة الأضياف وغدا نعرض أمرك على الرئيس.»
ومشى الراهب أمامه بالمصباح بين نخلات تناطح السحاب حتى أدخله غرفة معدة للأضياف وقد أخذ التعب منه مأخذا عظيما فصلى فرضه ونام.
ودير أبي مقار مكون من السور الذي ذكرناه، ومن خمسة أبنية: ثلاث كنائس وبناء لسكن الرهبان وقضاء حوائجهم؛ من إعداد الطعام وتناوله، وبرج عال يقال له القصر وفيه ذخائر الدير من الكتب أو الآنية القديمة، ويتخلل هذه الأبنية نخيل وبعض المغروسات التي يحتاجون إليها في إصلاح الطعام.
والكنائس المشار إليها هي: كنيسة أبي مقار على اسم صاحب الدير وكنيسة الشيوخ وكنيسة أبسخرون. أما البناء الذي فيه مساكن الرهبان ففيه دار واسعة، تحيط بها غرف بعضها للنوم وفيها غرفة مستطيلة للطعام وحجرة كبيرة للطحن وأخرى للخبز وأخرى للطبخ. أما القصر فإنه مؤلف من طبقتين: السفلى أقبية معقودة فيها خزائن الكتب أو غيرها من الذخائر الثمينة كالألبسة أو التيجان أو الصلبان ونحوها ومخازن المئونة للزيت والحنطة، وفيها منافذ سرية يلجأ إليها الرهبان عند الخطر العظيم إذا أخذ ديرهم.
وفي الطبقة العليا من هذا القصر ثلاثة معابد، أحدها على اسم مار سواح والآخر لمار أنطونيوس والثالث باسم مار ميخائيل، وفي هذا المعبد الأخير نجد البطاركة الذين ماتوا هناك محنطين في توابيت والقصر حصين قد احتاطوا لمنع الأذى عنه بأن جعلوا بابه في الطبقة العليا لا يمكن الصعود إليه إلا على سلم أو جسر مدرج واصطنعوا له سلما مستقلا ضخم الشكل ثقيل الحمل ينصب عليه عند الحاجة فإذا أنزل عنه لا يمكن رفعه إلا بالآلات الرافعة، أو يتعاون في نصبه عدة رجال.
وأفاق زكريا في صباح اليوم التالي على صوت الناقوس للصلاة باكرا، فنهض وأسرع مع سائر الرهبان لحضور القداس في كنيسة أبي مقار، وهي أفخم تلك الكنائس وأجملها، وفيها ثلاثة هياكل: أكبرها الهيكل الأوسط ومساحته 25 قدما في 20، وعليه قبة مبنية من القرميد على طراز جميل وعلى جدرانها صور بعض القديسين وفي وسطها مذبح من الحجر وراءه مقاعد كالمنبر.
فاصطف الرهبان لسماع الصلاة وعددهم بضع عشرات بينهم عدة قسوس يتقدمهم البطريرك بلباس الصلاة ورئيس الدير. وكان زكريا يعرف البطريرك من قبل، وقد شاهده مرارا في كنائس مصر لكنه رآه الآن قد تغيرت ملامحه وبانت الشيخوخة في جبينه ولحظ عليه انقباضا لم يعهد فيه مثله، فقال في نفسه: «لأمر ما تغير في البطريرك؟» وازدادت رغبته في ملاقاته، فأقيمت الصلاة بالقبطية على جاري العادة وليس في الجمع غريب غير زكريا فلفت وجوده انتباههم، وأصبحوا ينتظرون الفراغ من القداس لسماع حديثه.
أما هو فحالما انقضت الصلاة وخرج البطريرك والرهبان ذهب إلى الراهب الذي استقبله بالأمس، وطلب إليه أن يقدمه إلى البطريرك، فاستمهله إلى ما بعد الفطور ودعاه إلى الطعام في غرفة مستطيلة في وسطها مائدة طويلة من الحجر، إلى جانبها مقاعد يجلس عليها الرهبان في صفين فأجلسوه معهم وجيء بالطعام، وهو غاية في البساطة لا لحم فيه ولا فاكهة، فأخذوا يأكلون بعد صلاة مختصرة إلا راهبا منهم تولى قراءة فصول من الكتاب المقدس في أثناء الطعام.
وكان زكريا يأكل وذهنه مشتغل بما سيدور بينه وبين البطريرك من الشئون التي جاء من أجلها أو اتفقت له في طريقه وتثبت من ضياع المئونة المحمولة إلى الدير مع الذين حملوها إذ لم ير واحدا رجع منهم حتى تلك الساعة. وكان الرعيان يتحادثون ويشركون زكريا في حديثهم وهم يحسبونه راهبا مثلهم.
فلما فرغوا من الطعام نهض الراهب الشيخ ومضى بزكريا إلى غرفة رئيس الدير، فقدمه إليه فأسرع زكريا إلى تقبيل يده، فرحب به وسأله عن حاله وغرضه فقال: «جئت لمقابلة أبينا البطريرك.»
قال: «لعلك من رهبان النوبة؟»
فوجم هنيهة ولم يجب فرارا من الكذب، ثم قال: «كلا يا سيدي وإنما لبست هذا الثوب لسبب سأعرضه على أبينا البطريرك.»
قال: «حسنا، ولكن صاحب الغبطة مشغول الآن، وقد لا يرضى بأن يرى أحدا.»
فأطرق زكريا وهو لا يستطيع صبرا، ثم قال: «أود مقابلته الساعة، وأرجو منك أن تستأذنه لعله يسمح بمقابلتي؛ فإني قادم لأمر ذي بال.»
قال: «أحسبك قادما من بلاد النوبة.»
قال: «كلا.»
ففهم الرئيس أنه يكتم شيئا لا يريد التصريح به فاستمهله ريثما يبعث إلى البطريرك. فمكث زكريا حتى عاد الرسول وقال: «إن غبطة البطريرك ليس في غرفته.»
فقال الرئيس: «كيف ذلك؟ ألم يتناول الفطور؟»
قال: «لم يأكل اليوم.»
فهز الرئيس رأسه أسفا وقال: «لم أر غبطته في قلق مثل هذا القلق منذ عرفته، سامح الله من سببه له.» قال ذلك وندم على ما قال. ثم ابتدر الرسول قائلا: «ابحث عن غبطته في القصر لعله هناك؛ فقد رأيته يكثر التردد على كنيسة مار ميخائيل هذين اليومين.»
فذهب الراهب الرسول وعاد يقول: «نعم إنه في القصر، وقد سألت الشماس كاتم أسراره، فأخبرني أنه في شاغل عن مقابلة الناس.»
فرأى زكريا أن يتولى أمره بيده، فوقف وقال للرئيس: «أنا ذاهب بنفسي أطلب المقابلة، فدع الشماس يهدني إلى الطريق.»
فأشار الرئيس إلى الراهب أن يمشي مع زكريا، ففعل، وخرجا من الدار، وأطلا على القصر الذي ذكرناه وهو أشبه بالأبراج منه بالقصور، وكان السلم منصوبا عليه فصعد الراهب وزكريا في أثره حتى وصلا إلى الطبقة العليا، فاستقبلهما الشماس وتصدى لهما ولسان حاله يقول: «ألم أقل إن غبطته مشغول؟»
فلما رآه زكريا عرفه وتذكر أنه التقى به مرارا في الفسطاط من قبل فتقدم إليه وحياه فلما سمع صوته عرفه فقال: «زكريا؟»
قال: «نعم يا سيدي.»
قال: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
قال: «جئت لألثم أنامل البطريرك.»
فتنهد وقال: «إنه يصلي في معبد مار ميخائيل، لا يدخل عليه أحد.»
قال: «ولا أنا؟ فقد قطعت السهل والجبل، وتحملت المشقة من طاء النمل إلى هنا ألا يؤذن لي في مشاهدته؟»
لما سمع ذكر طاء النمل تذكر اجتماعه بصاحبها مرقس هناك، فقال: «وأين المعلم مرقس؟»
قال: «في الفسطاط استأذن لي البطريرك في الدخول.»
قال: «ماذا أقول له؟»
قال: «قل له ولدك زكريا خادم دميانة يطلب لثم يديك.»
قال: «وهل يكفي هذا لتعريفك.»
قال: «يكفي.»
فدخل الشماس وعاد مشرق الوجه وقال: «ادخل.» ومشى بين يديه حتى أقبل على معبد مار ميخائيل وأشار إليه أن يتقدم وقفل هو راجعا.
أطل زكريا على الكنيسة الصغيرة وهي غرفة واحدة قسمت إلى هيكل. وخورس بحاجز من خشب لا يبلغ السقف، قائم على خمسة أعمدة، عليها بعض النقوش والصور، وكان يتوقع أن يرى البطريرك واقفا أمام المذبح للصلاة في وسط الهيكل فلم ير غير قلنسوته هناك، فوقف لعله يراه قادما أو يسمع صوته يناديه فإذا به أطل من وراء الحاجز، فأجفل زكريا عند رؤيته؛ لما في وجهه من التغير، وهو حاسر الرأس وقد تدلى شعره على قفاه وخديه وتجمدت لحيته واحمرت عيناه كأنه آت من وراء موقد تكاثف دخانه.
ولما وقع بصره على زكريا دار من وراء الحاجز حتى خرج إليه وهو يقول: «من أين أنت آت؟»
فتهيب عند سماع صوت البطريرك مع ما شاهده في وجهه من آثار الانفعال، وأكب على يده ليقبلها، فمنعه فوقف مطرقا وقد أحنى رأسه وقال: «إني آت من الفسطاط يا سيدي.»
قال: «كيف فارقت أسقفها؟» وتشاغل بإصلاح شعره وفي إلقائه السؤال ما يشعر بأنه يضمر شيئا.
فأدرك أنه يشير إلى كتاب كان قد كتبه إليه يستنجده على الأسقف فأنجده ولم تنفع نجدته، فخاف زكريا أن يكون قد ساءه ذلك، فقال: «فارقته في خير.»
فأمسك البطريرك بيد زكريا ودعاه إلى الجلوس بين يديه، وجلس على كرسي، فتباطأ زكريا في الجلوس إجلالا لمقام البطريرك، فألح عليه، فقعد على الأرض مطرقا متأدبا، فقال البطريرك: «فارقت أسقف الفسطاط في خير وكيف فارقت تلك الفتاة المظلومة؟»
قال: «إنما جئت في شأنها يا سيدي.» وتنهد وقال: «إن هذه المسكينة قد توالت عليها النوائب والمحن. وإذا سألتني عنها قصصت حديثها عليك. غير أنى ألتمس من مولاي البطريرك قبل ذلك أن يأذن في سؤال أرجو ألا يضن بالجواب عليه.» فتنهد البطريرك تنهدا ختمه بزفير طويل، ثم قال: «ستسألني عن أمور استغربتها في، ستسألني عن حالي أليس كذلك؟»
قال: «بلى يا سيدي كنت قادما إليك في مهمة أستنجدك فيها. فشغلت عنها بما أراه فيك من الانقباض والقلق، وعهدي أننا في زمن صاحب مصر الحالي ابن طولون في أمان وسكينة، فهل طرأ تغيير لا أعلمه؟»
قال: «طرأت أشياء كثيرة، أساء ابن طولون بها إلينا وبالغ في اضطهادنا بما لم يسبق إلى مثله سلفاؤه الذين كنا نسمع بظلمهم ونشكو جورهم، ولكنه لم يفعل ذلك من تلقاء نفسه، إن الشر جاء من عندنا، جاء من أبنائنا، هم الذين ساقوا هذا البلاء علينا.» قال ذلك ولحيته ترقص غضبا وحنقا.
فتهيب زكريا ولم يجسر على الاستيضاح، فاستأنف البطريرك الكلام قائلا كأنه يريد تغيير الموضوع: «كيف أتيت إلى هذا المكان؟ هل أتيت وحدك؟»
قال: «نعم يا سيدي.» وتذكر ما جرى له وما أصاب الراهبين وأحمالهما، فتحقق أن لحادثتهما علاقة بما يشير البطريرك إليه، فقال: «اصطحبت ركبا كانوا قادمين بأحمال المئونة إلى الدير.»
فقطع البطريرك كلامه قائلا: «وماذا جرى لهم؟ أين هم؟»
فقص عليه حديثهم، ولما ذكر كلام الهجان عن تغير ابن طولون على الأقباط قطع البطريرك كلامه قائلا: «ويلاه، آه، يا ربي ومخلصي، لماذا غيرت قلوب حكامنا علينا؟»
فازداد زكريا رغبة في معرفة الحقيقة، فقال: «وما الذي جرى يا سيدي، لقد بلبلت بالي.»
قال: «ماذا أقول لك وقد بعث إلي ابن طولون بالأمس يطلب مالا، ذكر أنه في حاجة إليه ليرسله إلى الخليفة في بغداد.» ومد البطريرك يده إلى جيبه وأخرج درجا فتحه وقال: «هل تقرأ القبطية؟»
قال: «نعم يا سيدي أقرأها.»
فدفع الدرج إليه وقال: «اقرأ.»
فتناوله زكريا، وقرأ فيه ما ترجمته: «إنك تعلم أن علينا تأدية أموال الجزية إلى خزانة الخليفة ببغداد صاحب هذه الديار، وقد اشتدت حاجته الآن إلى المال ليقوم بنفقات الحرب التي هو فيها، فمن كان في مركزك أيها البطريرك لا يحتاج إلى أكثر من نفقات الطعام واللباس. وقد علمت أنك ذو ثروة طائلة موفورة، من نقود وآنية وأنواع الأقمشة الحريرية، فكتبت هذا إليك لتبعث إلينا بما نرسله إلى الخليفة فتحظى مني ومنه بسنة جزيلة.»
فلما فرغ زكريا من القراءة دفع الدرج إلى البطريرك وقال له: «من أين تأتي بهذه المطالب؟»
قال: «لا أدري وقد كتبت إليه أشكو عذري وفقر الأديرة، فلم يصغ، وفي عزمي أن أوسط كاتب المارداني في ذلك.»
فلما سمع زكريا اسم كاتب المارداني تذكر إسطفانوس، فأطرق وتغيرت سحنته، فقال له البطريرك: «ما بالك يا بني؟ ما الذي غيرك؟»
قال: «تذكرت أمرا جرى لنا في الفسطاط، فقرنته إلى الحديث الذي سمعته منك، فلاح لي أن سبب التعدي ليس من ابن طولون.»
قال: «ألم أقل لك ذلك؟ إنه من أبنائنا.» وتنهد وقال: «لقد أطلت الكلام وأطلقت لنفسي العنان معك ولم أخاطب أحدا سواك في هذا الأمر، لا أدري كيف وجدت راحة في الحديث معك هل تعرف سبب هذا الغضب؟»
فتململ زكريا وبالغ في التأدب، وقال: «لا أجهل ضعتي وتنازل غبطة البطريرك في محادثتي؛ فإن مثلي لا يحلم بهذا الإكرام.»
فقطع البطريرك كلامه قائلا: «كلا ليس هذا مرادي، وليس في النصرانية تفاضل بين أبنائها وما البطريرك إلا والد والرعايا أولاده، لا فرق بين خادمهم ومخدومهم، وإني أستلذ الحديث معك وأرتاح لمباسطتك، وأحب أن أطلع على ما عندك، هل تعرف سبب هذا الغضب؟»
قال: «إذا سمحت لي قلت ما يخطر ببالي.»
قال: «قل.»
قال: «أتذكر يا سيدي يوم كتبت إليك أستنجدك على أسقف الفسطاط؟»
قال: «نعم أذكر وقد كتبت إليه أوصيه بالفتاة خيرا.»
قال: «أظن كتابك ساءه، ولا يبعد أن يكون حمله على الوشاية.»
فقال البطريرك: «ربما ساقه ذلك إلى النكاية بي، ولكنني أعرف سببا آخر كان له تأثير أعظم، ومنه يتبين لك أننا - نحن معشر المسيحيين - نحمل حكامنا المسلمين على ظلمنا، وما ذلك إلا من فساد نياتنا وكثرة خطايانا.»
فتطاول زكريا لسماع ما سيقوله البطريرك.
فقال هذا: «السبب الآخر الذي أعرفه أني دعيت مع رهط من الأساقفة لتكريس كنيسة جديدة في جهة دنشور من أبرشية سخا. فتأخر أسقف هذه الأبرشية عن الحضور. فبدأت بالصلاة قبل حضوره فلما جاء غضب وهجم علي وأنا أقدم القربان المقدس وخطفه من يدي وألقاه على الأرض وخرج فقعدت مجمعا حكم بفصله فأضمر لي السوء ودس لي عند ابن طولون زاعما أن عندي أموالا كثيرة. فبعث ابن طولون إلي بهذا الكتاب. إن الله لا ينصر الظالمين والسيد المسيح لا يتخلى عن رعيته.»
ووقف البطريرك فجأة، فوقف زكريا وتحفز للخروج، فوضع البطريرك يده على كتفه وقال: «تعال معي.» ومشى به نحو الحاجز الذي كان البطريرك وراءه، فأدخله الهيكل، ولم يقع بصر زكريا على ما هناك حتى أجفل وتراجع والتفت إلى البطريرك مأخوذا وعيناه شاخصتان من الرعب، فقال له البطريرك: «لا تخف يا بني، إن هذه الجثث التي تراها أمامك هي جثث آبائنا الأبرار، أسلافنا البطاركة الذين تقدموني في الإشراف على هذه الأديار، وقد حفظت محنطة هنا. ولما اشتد بي القلق في الليل الغابر بكرت في هذا الصباح، ففتحت هذه التوابيت وجعلت أتفرس في وجوههم؛ لأقترب بتصوراتي من العالم الثاني وأعملت الفكرة عسى أن يفتح علي برأي ينقذني وينقذ أولادي الأقباط من هذه الورطة، وشعرت وأنا منفرد بهذه الرمم كأني في مجلس شورى مجرد عن العالم، وكم تمنيت لو نطقت الجثث ولكني استرشدت بأرواحها.»
وكان زكريا واقفا مأخوذا يرتجف من رهبة ما رأى؛ فإنه يعلم أنهم يحفظون جثث البطاركة هناك على هذه الصورة، وتفرس، فرآها لا تزال محفوظة كما تحفظ محنطات الفراعنة، ثم رأى البطريرك قد تنازل قلنسوته، وكان قد وضعها على المذبح، فلبسها وأشرق وجهه وذهب انقباضه. فلما رآه زكريا منبسط الأسارير سري عنه.
أما البطريرك فتحول للخروج من المعبد، وقال: «لقد آن لك أن تقص علينا خبرك يا زكريا.»
فاستبشر وقال: «هل أقول الآن؟»
قال: «قل، ولكنني لم أسألك عن هذا الثوب الذي تلبسه، ومتى دخلت الرهبنة؟» قال ذلك ومشى فتبعه زكريا متأخرا متأدبا وقال: «لم أترهب يا سيدي ، ولكنني تنكرت بهذا اللباس أثناء الطريق، وقد أخذ اللصوص كل ثيابي فلم أستطع تبديله.»
قال: «أتعلم أن هذا التنكر بعث على زيادة النقمة عليك.»
فانتبه زكريا لما سمعه من الهجان فقال: «علمت ذلك من كلمة قالها أحد اللصوص ولكنني لم أفهم السبب.»
فقال: «أتحب أن تعرف السبب؟» وصفق فجاء شماسه مهرولا فقال له: «انزل بنا إلى الطبقة السفلى لنرى الكتاب الذي جاءنا بالأمس من ملك النوبة.»
فمشى الشماس أمامهما ونزل بهما في سلم سري داخل القصر حتى بلغ إلى حجرة رأيا فيها كتبا متراكمة وفي جملتها صندوق فيه أدراج كثيرة تناول الشماس كتابا منها دفعه إلى البطريرك، ففتحه وقال: «هذا كتاب ملك النوبة أرسله إلينا يدعو فيه إلى خلع طاعة المسلمين والاتحاد معهم عليهم باسم دولة الروم. وقد علمت من فحواه أنه أرسل كتابا قبله لم يصل إلينا. ولعله قد وقع في أيدي المسلمين واطلعوا عليه. وقد فهمت من رسول ابن طولون أنهم عارفون بهذه المراسلات، فظنوني موافقا هذا الملك على غرضه وأنا بريء من هذا؛ لأني لا أرى خيرا يرجى منه. فلما رأوك بهذا اللباس وأنت نوبي ظنوك رسولا إلي من ملك النوبة.»
فتنبه زكريا لهذا السبب وقال: «صدقت يا سيدي إن محاولتنا التخلص من سلطة المسلمين لا فائدة منها، ولا سيما بعد أن تولى ابن طولون فإنه ...»
فقطع البطريرك كلامه قائلا: «إنه لا بأس به، ورغم ما ذكرته لك من أمره معي؛ فإني لا أحمله تبعة عمله، وإنما التبعة علينا نحن، فإننا نحرض حكامنا على ظلمنا بسوء عملنا وفساد نياتنا.» قال ذلك وهو يكاد يغص بريقه. وكأنه أكبر أن يظهر هذا الضعف فعمد إلى تغيير الحديث فقال لزكريا: «لقد شغلناك عما جئتنا من أجله، وامتد بنا الحديث فقل. ماذا تريد منا؟»
وكانا قد خرجا من القصر واقتربا من غرفة البطريرك، فدخل البطريرك وجلس وأشار إلى زكريا أن يجلس ويقول ما يريده، فجلس وأخذ يقص حديث دميانة وما قاسته من معاملة أبيها وخطيبها حتى يوم فرارها إلى حلوان ، وكيف سطا البجة على هذا البلد ونهبوه وسبوا أهله وهي معهم وأنه جاء ليوسطه لدى ملك النوبة لإنقاذها.
وكان البطريرك يسمع الحديث وهو مطرق يهز رأسه حينا بعد حين استنكافا من تصرف مرقس وإسطفانوس، فلما سمع خبر أسر دميانة قال: «دميانة أسرت؟ إنها لا تستحق ذلك؛ لأنها تقية ورعة كأن فيها بركة من تسميتها القديسة دميانة - عليها السلام - ولكن الله يجرب خائفيه. وقد سمعتك تطلب وساطتي لدى ملك النوبة؟»
قال: «نعم يا سيدي إن حسن في عينيك هذا.»
قال: «هذا فرض علي لعدة أسباب: أولها أني إنما قبلت هذا المنصب حتى أقوم على خدمة شعبي وأبذل ما في وسعي لراحتهم وسعادتهم، وكذلك لأني أحن إلى هذه الفتاة وأحبها لتقواها وورعها. فضلا عن أني أحب أن أجيب ملك النوبة على كتابه، ولا أثق بمن يوصل كتابي إليه وربما أنك ولدنا وتعرف البلاد، فسأكتب له أجيبه على ما دعاني إليه من القيام على الدولة، فأقبح رأيه وأدعوه إلى الطاعة، وأذيل الكتاب بالتوصية اللازمة حتى يساعدك فيما تريده.»
فطأطأ زكريا رأسه إذعانا وارتياحا وسكت، فصفق البطريرك، فجاء الشماس قال له: «اكتب إلى ملك النوبة كتابا فحواه كذا وكذا (وذكر الفحوى) وذيله بالوصاية بولدنا زكريا ليساعده في إنقاذ بنتنا التقية دميانة.»
فأشار مطيعا وخرج، ثم عاد وبيده صحيفة من القباطي وقد كتب عليها بالقبطية شرحا طويلا، فتناولها البطريرك وقرأها ووقع عليها وأعادها إلى الشماس، فطواها ولفها بمنديل وختم المنديل ودفعه إلى زكريا، فتناوله هذا وقبله وأكب على يد البطريرك فقال له: «يظهر لي أنك تستعجل الذهاب؟»
قال: «ألا ترى يا مولاي أن أعجل بالوصول إلى بلاد النوبة لإنقاذ دميانة؟ فإني لا أعلم حالها.»
قال: «صدقت، وليكن الله معك والسيد المسيح ينصرك ويأخذ بيدك.» وباركه ثم التفت إلى الشماس وقال له: «قل للرئيس أن يزود ولدنا زكريا بما يحتاج إليه في طريقه.» والتفت إلى زكريا وقال: «ما هو طريقك؟»
قال: «أرى أن أسير في الطريق الذي أتيت منه في الصحراء إلى النيل، ثم ألازم ضفة النيل الغربية إلى الجيزة، ومنها في طريق الصحراء مع بعض القوافل إلى دنقلة.»
قال: «رافقتك السلامة ببركة سيدتنا البتول وسائر القديسين.»
أكب زكريا على يد البطريرك فقبلها ثانية وودعه وخرج. وأعمد الشماس له عدة السفر وكانت الشمس قد مالت عن خط الهاجرة فقال له وهو يودعه: «ليس عندنا ركائب نعطيك منها، ولكنك عندما تخرج من الدير تجد قوافل مارة من وادي النطرون إلى النيل، فرافق واحدة منها.»
فشكر له نصيحته وظل واقفا وعلى كتفه كيس فيه الزاد للطريق، فاستغرب الشماس وقوفه وقال له: «لعلك تحتاج إلى شيء آخر؟»
قال: «كلا، ولكنني تذكرت ما أصابني في مجيئي، فينبغي لي أن أحتاط في رجوعي وأبدل بثوب الرهبنة الذي أرتديه ثوبا آخر حتى لا يعرفني أحد ممن اعتدوا على القافلة التي أقبلت فيها.»
فقال الشماس: «لقد أصبت، فتمهل ريثما أعود إليك.» ومضى ثم عاد ومعه صرة فتحها فإذا فيها قفطان وعباءة وقلنسوة وعمامة أعطاه إياها وقال: «هذه أثواب بعض الجنود وقعت لنا صدفة وعسى أن تنفعك.»
ففرح بها زكريا ولبسها وطلب مرآة يرى فيها وجهه فأعطاه فنظر فيها فإذا هو قد تغيرت قيافته وإن بقي وجهه ينم عليه - عند التفرس - على أنه قنع لما كان وودع الشماس فرافقه هذا إلى باب الدير وفتحه له فخرج ومضى في سبيله.
ولما رأى نفسه في الصحراء أكبر أمره وتخيل وحدته بها في الظلام لا يدري أين يبيت ولا أين يلتجئ، فوقف حائرا وكاد يقلع عن السفر وحده، ثم تذكر نصيحة الشماس فاتجه في طريق وادي النطرون وهو على مقربة منه. وقبل أن يشرف عليه سمع أنينا فوقف وتلفت ثم مشى إلى جهة الصوت فلما اقترب منه رأى رجلا ملقى على الأرض ويداه ورجلاه مشدودة بحبال وهو يستغيث وما كاد يرى زكريا حتى قال له بالقبطية: «انجدني أيها الجندي بحرمة الذي تعبده.»
فعلم زكريا أنه ظنه جنديا لما رأى لباس الجند عليه، فأسرع إليه فإذا هو شاب قمحي اللون، عليه ثياب التجار فأخذ في حل الحبال فلما أفلت الرجل هم بيدي زكريا يقبلهما وهو يقول: «جزاك الله خيرا يا سيدي.»
فقال زكريا: «من أنت وما خطبك؟»
قال: «أنا تاجر أحمل الملح والنطرون من هذا الوادي ولي قافلة تعودت أن أسيرها بأمان، فجئت هذه المرة مع القافلة وحملنا الأحمال وخرجنا من الوادي في الصباح وإذا بجماعة سطوا علينا، فساقوا القافلة برمتها وتركوني مقيدا كما ترى.»
وكان يتكلم وهو يكاد يبكي من الحزن والجزع. فرق زكريا لحاله وازداد خوفا على نفسه من الخطر، فقال: «لا بأس عليك يا صاحبي والحمد لله إذا سلمت. والآن ماذا تريد أن تفعل؟»
قال: «لا أريد شيئا؛ فإن أموالي وأحمالي ضاعت وأظن اللصوص سيقتلون رجالي ولا آسف على شيء ما دمت حيا. وإني أشكر الله على أن لقيت جنديا نبيلا مثلك. فهل تتمم جميلك وتعدني أن ترفع أمري إلى صاحب مصر؟»
فاعتقد زكريا أن تنكره غر الرجل، فوعده أن يبلغ أمره إلى أمير مصر متى وصل إلى الفسطاط ثم أحب أن يستعينه على أمر الرجوع فقال: «وكيف السبيل إلى الرجوع الآن؛ فقد كان معي جمل ضل مني وأصبحت راجلا - كما ترى.»
فأطرق الرجل هنيهة ثم قال: «أظنني أقدر أن أدلك على جمل في مكان قريب وراء هذه الأكمة كنت قد ربطته هناك قبل هجوم اللصوص ولعلهم لم يعرفوا مكانه، فتركبه إذا وجدناه.»
ففرح زكريا وقال: «امكث هنا، وأنا أذهب للتفتيش عن الجمل.»
قال ذلك وأسرع وقلبه يخفق فرحا بهذه الصدفة. فلما دنا من الأكمة سمع جعجعة الجمل فضحك فرحا، ووثب حتى قبض على زمامه وحل عقاله وساقه إلى الرجل، فوجده في انتظاره، فقال له: «إن الله أرسلك لإنقاذي من العذاب في هذه الصحراء.»
فقاطعه الرجل وقال: «بل أنت الذي أرسلك الله لإنقاذي؛ إذ لولاك لمت في قيودي، فأنا مدين لك بحياتي ولا أقدر أن أكافئك إلا بأن تركب الجمل وأنا أقوده.»
فقال زكريا: «حاش لله أن أقبل ذلك. بل أردفك والجمل يحمل ثلاثة أو أربعة كما تعلم.»
قال: «كما تشاء.» وأخذا في معالجة الجمل حتى يتسع لهما، وغلق زكريا كيس زاده عليه. وركبا وسارا على حذر إلى المساء، فباتا ليلتهما وزكريا لا يرى من الرجل إلا الأنس والمجاملة، فشكر الله على أن هيأ له معرفته وشعر بتأنيب ضميره لكتمانه أمره عنه وهم بأن يبوح له بحقيقة أمره لكنه توقف خجلا من الاعتراف بالكذب وأجل ذلك حتى آخر الطريق وكانا يخافان أن يدهمها اللصوص، ولكنهما لم يلتقيا بأحد.
ويعد يومين وصلا إلى ضفة النيل، فقال التاجر: «هل لك أن تسافر إلى الفسطاط على النيل.»
قال: «ما لنا وركوب الماء؟ دعنا نواصل السير على هذا الجمل؛ فقد استحسنت خطواته.»
قال: «كما تشاء، وما دام جملي قد وقع عندك موقع الاستحسان فهو لك عندما نصل إلى الفسطاط.»
فسر زكريا لهذه الهدية؛ لشدة احتياجه إليها، وتوهم أن الرجل يبالغ في إكرامه طمعا في مساعدته عند ابن طولون، وكان يتألم من ذلك، فقد كان طيب السريرة حي الضمير يأنف أن يرى الناس فيه ما ليس على حقيقته. وما زالا راكبين يسير بهما الجمل على ضفة النيل الغربية يقتربان من النيل ساعة ويبتعدان أخرى وزكريا يزداد استئناسا بالرجل وامتنانا له حتى أطلا على الأهرام فلم يبق لزكريا عذر في السكوت وقد بلغ الجمل محاذاة الهرم الكبير ولم يبق إلا أن يتحولا نحو الجيزة ويعبرا الجسر إلى جزيرة الروضة ومنها بجسر آخر إلى الفسطاط.
وصلا إلى الهرم عند الأصيل والرجل يحث الجمل حتى يدرك الفسطاط قبل الظلام فقال زكريا: «ما أفخم هذه الأهرام، وما أجمل الجلوس عندها والإشراف على البساتين تتخللها المياه.» ففهم رفيقه أنه يريد النزول فقال: «ننزل هنا.» وأناخ الجمل وزكريا يعمل فكره ويكد قريحته؛ ليستنبط حيلة يستبقي بها الجمل معه هناك وفيما هو في ذلك قال رفيقه: «حقا إن المبيت هنا جميل فإذا وافقتني قضينا هذا المساء هنا وفي الصباح نمضي إلى الفسطاط.»
فاستحسن رأيه وقال: «لا أخفي عليك أني لا أستطيع الذهاب معك إلى الفسطاط فإن علي أن أقضي أمرا فيما وراء الجيزة.»
فابتدره قائلا: «حدثتني نفسي بأنك تريد شيئا وتكتمه عني، فنحن أخوان، لا ينبغي أن تكتمني أمرا تطلبه وقد قلت لك إن حياتي منة منك، وأنا إنما أرغبك في الذهاب معي إلى الفسطاط لأكافئك على صنيعتك؛ فالمال متوافر عندي فإذا كنت تؤثر البقاء هنا فامكث وأذن لي أن أغيب عنك ساعة ثم أعود إليك بهذا الجمل وأزودك بما يدل على اعترافي بجميلك.»
فازداد زكريا فرحا بالرجل وبصداقته ولم يعد يعرف كيف يشكره فقال: «لا فضل لي في شيء فعلته والفضل فضلك إذ أتيت بي من تلك الصحراء على جملك.»
فقال الرجل: «بل هو جملك، أستأذنك في ركوبه إلى الفسطاط وأعود به فهل أجدك هنا؟»
قال: «تجدني عند قاعدة الهرم الكبير.» فودعه ومضى. •••
افتقد زكريا بعد أن بقي وحده الأسطوانة والكتاب تحت أثوابه، فلما وجدهما في موضعهما بالكيس المعلق إلى عنقه. اطمأن وأخذ يتمشى حول الهرم حتى تجاوزه إلى تمثال أبي الهول، فوقف يتأمله حينا ثم عاد أدراجه ورأى الشمس تنحدر وتكاد تغيب، فاستوحش لانفراده بين تلك الرمال. ثم غربت الشمس وأخذ الظلام يتكاثف، فاستبطأ صاحبه وندم لأنه لم يسأله عن اسمه ومسكنه. على أن أكثر اهتمامه كان موجها إلى الجمل لشدة حاجته إليه بعد أن فقد ما كان يملكه من المال في بادية النطرون قبل دخوله الدير وأصبح لا يملك ما يستأجر به دابة تحمله إلى بلاد النوبة.
ومل زكريا الانتظار وتعب بصره من التشوف عن بعد لعله يرى صاحبه قادما، ثم صعد بعض درجات الهرم الكبير حتى وصل إلى مدخله، فوقف ببابه وعيناه شائعتان نحو الجيزة لعله يرى شبحا أو يؤانس نورا ويده لا تكاد تفارق إبطه يتحسس الكيس الذي به الأسطوانة والكتاب. وسرحت أفكاره في عالم الخيال فخيل إليه أن إسطفانوس علم بأمره فأرسل من يقبض عليه فلما تصور ذلك اختلج قلبه في صدره؛ لأنه أعزل ولا طاقة له بالدفاع، وجل همه ألا تذهب الأسطوانة منه، فمد يده وأخرج الكيس من تحت إبطه وتفقد ما فيه جيدا مخافة أن يكون قد خدع باللمس ، فرأى الأسطوانة والكتاب. وبينما هو يهم بأن يعيد الكيس إلى عنقه سمع خربشة، فاقشعر بدنه خوفا من وحشة المكان وكثرة الأفاعي والحشرات في تلك الخرائب، فأصاخ بسمعه والكيس لا يزال في يده وقد جمد الدم في عروقه، فسمع وقع أقدام وهمسا فانزوى في مدخل الهرم يحاول الاختباء ووجد المدخل ضيقا وعميقا كأنه قناة مربعة لا يتسع لدخوله إلا جالسا أو ممدا. فتربع هناك وانتظر منصتا وهو يحدق ببصره في جهة الصوت، فرأى بضعة رجال متزملين بعباءاتهم يتقدمهم رجل يخاطبهم همسا ويقول: «تركته هنا ولا نلبث أن نجده فلعله نائم.»
ولم يكد زكريا يسمع الصوت حتى عرف أنه صوت صاحبه التاجر. فخالجه الشك في ذلك الرفيق وبالغ في الانزواء فانبطح في المدخل مستقبلا أرضه بصدره بحيث يطل رأسه إلى الخارج والمدخل مائل إلى الداخل بانحدار، فخاف إذا تراخى أن ينزلق إلى جوف الهرم وهو لا يعرف قراره والناس يتحدثون بأن الجن تسكنه. ولامست ساقه أرض المدخل فاقشعر بدنه من برده، وخيل إليه أنه لمس حشرة ولولا قلقه مما سمعه من تهامس القادمين ما استطاع المكث هناك لحظة. كل ذلك وهو قابض على الكيس بيده. وكان القوم قد اقتربوا منه وهم يجيلون نظرهم فيما حولهم، ولم يخطر لأحد منهم أن الرجل الذي يبحثون عنه في واجهة الهرم وأنه مختف في مدخله ولا هم يعرفون له مدخلا يختفي فيه الرجل والرجلان. فلما رآهم على مقربة منه أمسك نفسه وأصاخ بسمعه فسمع أحدهم يقول: «أين هو؟ إننا لا نرى بشرا ... كأنك خدعت المعلم، وقد لا يكون هو الرجل أو أنه خدعك.»
فقال: «لا ريب أنه هو بعينه وقد رأيت الأسطوانة في عنقه، سترونه وترنها.»
ثم رفع بصره إلى أعلى كأنه ينظر إلى المدخل، فاستولى الخوف علي زكريا؛ لعلمه أنه لا يقوى على الدفاع ولا الفرار خصوصا بعد أن تبين القوم وتحقق أنهم مدججون بالسلاح ولم يبق عنده شك في أن رفيقه بالأمس جاسوس استمهله وذهب ليشي به إلى المعلم مرقس، فبعث من يقبض عليه . وعلم أن المعلم مرقس لا يهمه من أمره إلا الحصول على الأسطوانة التي أخذها من منزله؛ لأن كل آماله فيها فأخذ يفكر فيما يصنعه بها. وإذا ببعضهم يتسلق الأحجار كأنه يهم بالصعود إلى باب الهرم، فازداد قلق زكريا وضاق نفسه حتى كاد يغمى عليه وعلم أنه غير ناج من ذلك الشرك فأخذ على نفسه إذا ظفروا به أن لا يظفروا بالأسطوانة؛ وذلك لعلمه بأن مرقس إن ظفر بها معه فسيقتله لا محالة، وأما إذا قبض عليه ولم يجدها معه فإنه يستبقيه ليساعده في البحث عنها. فتلمس الحائط بجانبه فوجد حفرة متسعة بين الأحجار فأدخل الكيس فيها وغطاها بحجر، فلم تعد تظهر لأحد. ثم تجمع حتى جلس القرفصاء بباب الهرم كأنه يتحفز للوثوب. وكان الرجل الصاعد قد تسلق درجتين أو ثلاثا، ثم وقف على حجر مرتفع ونظر إلى ما حوله ثم خاطب دليلهم قائلا: «إن اليهود لم يصدقوا عمرهم حتى يصدقوا اليوم. ها أنا ذا عند الهرم، فأين الرجل المطلوب؟ ووالله إن لم نجده لتذوقن العذاب.»
فعلم زكريا أن صاحبه يهودي احتال عليه. فارتعد فرقا وأمسك أنفاسه مخافة أن يدهمه عطاس أو سعال فينكشف أمره وإذا بالقوم قد تحولوا من هناك وهم يقولون: «إنه ليس هنا، فلنبحث عنه في مكان آخر.» ومشوا نحو الهرم الثاني فما صدق زكريا أن رآهم انصرفوا حتى خرج من المدخل وتنفس الصعداء وهبط متلصصا حتى صار على الأرض أمام الهرم الكبير فتربص حينا وهو قاعد حتى ظن القوم بعدوا فنهض ومشى يطلب الفرار ميمما وجهه شطر البساتين ليختبئ فيها. وفي الصباح يعود لأخذ الكيس.
ولم يكد يمشي خطوات قليلة حتى سمع مناديا يقول له: «قف عندك وإلا قتلت.»
فلم يجبه وظل ماشيا كأنه يتجاهل وركبتاه ترتعدان وإذا بالرجال أسرعوا إليه وحدثته نفسه بالفرار ولكنه يعلم عجزه عن ذلك لتعبه وضعفه، فرأى أن يقف وقوف المتجلد فالتفت إلى جهة الصوت وقال: «من تعني؟»
فتقدم إليه أربعة رجال علم من قيافتهم لما اقتربوا أنهم من الجند المصري ومعهم ذلك اليهودي وهو يقول: «هذا هو، أمسكوه.»
فنظر زكريا إليه وقال: «تبا لك من خائن!» ثم التفت إلى الرجال وقال: «لا حاجة بكم إلى القبض علي؛ فإني أسير بين أيديكم وأنا أعزل.»
فتقدم أحدهم وبيده حبل وبجانبه رجل آخر وأخذا يشدان وثاقه ويقولان: «قد أمرنا أن نأتي بك موثقا.»
فلما شدوا وثاقه ساقوه بين أيديهم إلى مكان آخر وراء الهرم كانوا قد خبئوا فيه جيادهم فأركبوه أحدها وهم حوله يخفرونه وساروا يطلبون الفسطاط.
ووصلوا إلى الفسطاط في الهزيع الأخير من الليل، فأدخلوا زكريا غرفة منفردة وقاموا بحراسته إلى الصباح. أما هو فمع خوفه على حياته كان يجد تعزية في إنقاذ الأسطوانة من يدي مرقس، فبات بقية تلك الليلة وهو يفكر فيما مر به وكيف وقع في هذه الشراك بعد أن أوشك أن ينجو. وعلم أن المكيدة كلها من ذلك اليهودي وأدرك أنه مرسل من قبل مرقس أو إسطفانوس ليتعقبه واستغرب كيف انطلت عليه حيلته حتى وقع في الأسر، ولكنه شكر الله على نجاة الأسطوانة.
وفي الصباح سمع الباب يفتح ودخل عليه رجل لم يقع بصره عليه حتى أجفل؛ لأنه المعلم مرقس. ولكنه تجلد ولم يبد حراكا، فقال له مرقس: «أهذا جزاء التربية والخبز والملح؟ تفسد علي ابنتي وتفر بها حتى أضاعت مستقبلها وأصبحت شريدة طريدة؟»
فظل زكريا صامتا مطرقا، فحسبه مرقس ندم على عمله، فازداد جرأة عليه فقال: «بماذا أجازيك على هذا العمل إن القتل قليل لجانب ذنبك.»
فرفع زكريا بصره إليه وقال: «إن القتل لا يخيفني ولا أنت تستطيعه، ومن كان مثلك لا يخشى بأسه.»
فغضب مرقس وقال: «أتخاطبني بهذه القحة وأنت خادمي؟»
قال: «حاش لله أن أكون كذلك. إنما أنا خادم تلك الفتاة الطاهرة أو الملاك الأرضي. أنا خادم دميانة وعبدها إكراما لوالدتها المسكينة وطوعا لصاحبة الأمر. ولولا العهد الذي قطعته بالثبات في خدمتها لتركتها فرارا من عشرة أبيها الظالم.»
فحمي غضب مرقس وقال: «أنا ظالم؟»
قال: «ألا تعرف نفسك؟ هل تجهل ما صنعته بابنتك التي تزعم أنك نقمت علي في سبيل الدفاع عن نفعها؟ ألا تعلم من الذي أضاع حقها؟»
فاستاء مرقس من هذا التعريض، وفهم مراد زكريا لكنه تجاهل توصلا إلى مرغوبه، فقال: «أراك تهذي بكلام لا معنى له. أتعلم لماذا ساقوك إلى هذا المكان وبعد قليل يحملونك إلى السجن المظلم وتسلم لابن طولون؟ أتعلم لماذا؟»
فسكت زكريا ولم يجب، فعاد مرقس يقول: «أنا أعلم. لقد ساقوك إلى هنا؛ لأنك سرقت منزل سيدك وأخذت منه التحف والجواهر وفررت بها. ولأنك أيضا تساعد البطريرك ميخائيل على تواطئه مع النوبة للقيام على المسلمين.»
فلما سمع زكريا قوله هز كتفيه، وظل مطرقا لا يظهر اهتماما، فاستغرب مرقس ذلك منه، وقال: «يظهر أنك لم تدرك مقدار ما يهددك من الخطر لهذه التهم. وأنا - مع عظم إساءتك لي - لا أزال أميل إلى الرفق بك إكراما للخبز والملح. وعلى هذا أوصيت الجند بأن يأتوا بك إلى هنا قبل حملك إلى ابن طولون لعلي أستطيع إنقاذك. واعلم أن نجاتك في يدي، إذا شئت سلمتك إلى الشرطة. وأنا ميال إلى إطلاق سراحك إذا ندمت على ما فرط منك وسلمت إلي ما أخذته من منزلي. ليس كل ما أخذته. فأنا أكتفي منك بالأسطوانة؛ فإن فيها أوراقا تهمني ولا فائدة لك منها فإذا أطعتني وسمعت نصيحتي نجوت لساعتك وإلا فإني أسلمك إلى قضاء ابن طولون وأنت تعلم عاقبة ذلك.»
فقال: «أنا لم أعمل عملا أندم عليه، وأما الأسطوانة فلا علم لي بها، كما أني لم أسرق شيئا ولا أنا ممن يطمعون في الأموال؛ إذ ليس لها قيمة عندي، فليس لي ولد أورثه وأيامي أصبحت قصيرة لا تستحق حشد الأموال، ولا مطمع لي في ملاذ الدنيا وشهواتها مثل غيري.»
فقطع مرقس كلامه قائلا: «ما لنا وللأموال؟ إني أكتفي بالأسطوانة التي فيها الأوراق. هاتها ولك الأمان.»
قال: «من أين آتي بها؟ ليس عندي أسطوانات ولا أوراق.»
قال: «أتنكر وهي في جيبك؟»
قال: «في جيبي. ليس معي شيء.»
فصفق مرقس فدخل جندي كان واقفا بالباب، فأومأ مرقس إلى زكريا وقال : «فتشه؛ فإنك تجد معه أسطوانة، هاتها.»
فتقدم الجندي وأخذ يفتش أثواب زكريا قطعة قطعة، ومرقس يقول له: «فتش تحت أثوابه وبين ذراعيه وجنبه.» ومضى الجندي يفتش زكريا وهذا باسط ذراعيه ومرقس يراعي حركاتهما ويتفرس ويدقق حتى إذا تعب الجندي من التفتيش ولم يجد شيئا أشار إليه مرقس أن يخرج فخرج. وعاد هو إلى زكريا وقد امتقع لونه من الغضب والفشل؛ لأنه كان على ثقة من وجود الأسطوانة معه، فقال: «أين ذهبت بالأسطوانة يا زكريا؟»
قال: «ليس عندي أسطوانات، ولا أفهم ما تقول.»
فأطرق مرقس وخطر له أنه أعطى الأسطوانة إلى دميانة؛ إذ ليس ثم من يثق به سواها، فقال: «أين دميانة؟»
فضحك زكريا ضحكة استخفاف وقال: «تأخرت في السؤال عن ابنتك أيها الوالد الشفيق. وأنت تسألني عنها الآن لا غيرة عليها ولكنك تظن الأسطوانة عندها. فكن على يقين أنها لا تعرف شيئا من أمرها.»
فأعاد مرقس السؤال: «أين دميانة؟»
قال: «لا أعرف مقرها.»
قال: «وكيف ذلك ... وأنت فررت بها، ماذا جرى لها؟»
فحدثته نفسه بأن يخبره عن مكانها. لكنه خاف أن يستعين مرقس بذلك على الفتك بها فيذهب سعيه هدرا فقال: «لا اعرف أين هي الآن.»
قال: «يظهر أنك تبحث عن حتفك بظلفك، سترى عاقبة أمرك.» قال ذلك وخرج وأغلق الباب وراءه بشده فعلم زكريا أنه صائر إلى السجن بعد قليل. ولم تمض هنيهة حتى جاء الجند فحملوه إلى القطائع، وزجوه في غياهب السجن.
بين قبائل البجة
البجة جيل من الناس كانوا يقيمون بالصحراء بين النيل والبحر الأحمر، تبدأ بلادهم من الشمال بقرية يقال لها «معدن الزمرد» في صحراء قوص وبينها وبين قوص نحو ثلاث مراحل. وكان لذلك المعدن شأن في التاريخ القديم؛ إذ كانوا يستخرجونه من مغاور بعيدة مظلمة يدخل إليها بالمصابيح وبحبال يستدل بها على الرجوع خوف الضلال ويحفر عليه بالمعاول. وآخر بلاد البجة أول بلاد الحبشة، وأبعد بلادهم قرية يقال لها «هجر».
وهم أول أهل بادية يتبعون الكلأ للرعي حيثما يكون، ويقيمون بأخبية من الجلد. وكانت أنسابهم من جهة النساء؛ أي أن الرجل منهم ينتسب إلى والدته على عادة الأجناس المتوحشة.
وهم قبائل كثيرة لكل منها رئيس. وكانوا من عهد الفراعنة يهاجمون ضفاف النيل في الصعيد، فينهبوها ويعودون إلى البادية فلا تقوى الدولة على اللحاق بهم، بل كانت تجاريهم؛ لأنها تحتاج إليهم في استخراج المعادن وحراسة المناجم أو ليكفوا أذاهم عنها.
وكذلك الروم لما ملكوا مصر. ولما فتح المسلمون مصر لم يحاربوهم حتى كانت أيام «ابن الحبحاب» في أوائل القرن الثاني للهجرة، فهادنهم على مال يؤدونه إلى بيت المال، وتوالت المراسلات والمكاتبات والغزوات بينه وبينهم ولما اختل شأن مصر في أوائل الدولة العباسية تمادى البجة في تعديهم حتى صاروا يسطون على ضواحي الفسطاط. فلما تولى ابن طولون صار يتقي غزواتهم بحامية يقيمها وراء المقطم.
فاتفق أثناء قيام دميانة في حلوان أن شرذمة منهم سطت عليها ونهبتها وقتلت كثيرين من أهلها ومنهم «قعدان العربي» وحملوا ابنته ودميانة سبيتين ونقلوهما على جمالهم السريعة الجري الصبورة على العطش. وكانوا يسابقون بها الخيل ويقاتلون عليها وتدور بهم كما يشتهون ويقطعون علها الفيافي والقفار ويتطاردون عليها في الحرب فيرمي الواحد منهم الحربة فإن وقعت في الرمية طار إليها الجمل فأخذها صاحبها وإن وقعت على الأرض ضرب الجمل بجرانه الأرض فأخذها صاحبها.
فلما رأت دميانة نفسها على ظهر الجمل وقد أدير رأسها نحو البادية انتبهت لهول المصاب، وأخذت تبكي وتستغيث وتتضرع إلى الله أن ينقذها من شر هؤلاء القوم؛ فقد دهشت لخشونتهم إذ رأت وجوها صفرا وأجساما رقاقا وبطونا خماصا وأكثرهم عراة الصدور يدهنون جلودهم بالشحم وشعورهم متلبدة متكاثفة بما عليها من آثاره ويحمل كل منهم رمحا طوله سبعة أذرع: عوده أربعة وحديده ثلاثة، كما يحمل درقا من جلود البقر المشعرة أو جلود الجواميس المقلوبة، وبعضهم يحملون قسيا عربية غلاظا من السدر والشواحط وإذا عدا أحدهم تحسبه من الجن لدقة ساقيه وسرعة جريه. فكان خوفها عظيما، ولم تعلم بأمر رفيقتها إذ كانت على جمل آخر.
ولم يمسها أحد بسوء وإنما حملوها في جملة السبي وتبطنوا الصحراء وهم يتراطنون بلغة ليست بالقبطية ولا النوبية ولا العربية فلم تفهما ما يقولون. ولما أقبل المساء حطوا الرحال ونصبوا خيمة نزل فيها رئيسهم وهو يمتاز عنهم بلباسه الملون المزركش وقد تقلد سيفه مغمضا. وكان راكبا جوادا أصهب. وأنزلوا السبايا في خيمة أخرى. فلما اجتمعت دميانة بابنة قعدان واسمها علية استأنست بها وجلستا تتباكيان وكل منهما تعزي الأخرى. ولا يعزي دميانة غير الأمل في النجاة بأعجوبة من الله.
ولما غربت الشمس وساد الظلام أوقدوا نارا بين الخيام للاستضاءة، وأتى رجل يتكلم القبطية وتقدم إلى دميانة ورفيقتها وأخذ يطمئنهما، وحبب إليهما الصحراء. ثم أتاهما بالطعام، وهو اللحم واللبن فعافت نفس دميانة الطعام، ولكنها اضطرت من العطش إلى شرب اللبن. ولما سمعت كلام الرجل سكن روعها؛ لأنها آنست منه تشجيعا ورأت فيه أريحية، فقالت له: «إلى أين سائرون بنا؟»
قال: «إننا سائرون إلى مولانا الأمير أبي حرملة كبير أمراء البجة.»
قالت: «أين هو؟»
قال: «على مسافة بضعة أيام من هذا المكان، لا تخافي؛ فلا يستطيع أحد منا أن يمسك بسوء ومثلك يا جميلة لا ينالها إلا الأمير.»
لما سمعت قوله ذعرت واضطربت، ولكنها تجلدت والتفتت إلى علية فرأتها مطرقة ولم تكن في مثل ذعرها؛ لأنها تعودت عيشة البادية وعرفت بعض طبائع البدو. أما الرجل فلما رآها تلتفت إلى رفيقتها ضحك فبانت أسنانه بلا قواطع مع صغر سنه فكان له منظر غريب، ثم قال: «أما هذه العربية فربما اختار الأمير أن تكون عنده، أو لعله يهبها إلى أحد أمرائه، أو يستخير الآلهة في شأنها.» ثم تفرس في فم دميانة وقال: «ما أجمل فاك لولا القواطع فيه؛ فإن الأسنان الأمامية تشوه منظر الفم، فليست بلازمة إلا للبهائم.» وأشار إلى فمه وقال لها: «انظري إلى أسناني، فإني من قبيلة تقلع هذه القواطع؛ لئلا تتشبه بالحمير، وليس كل البجة يفعلون ذلك أما أميرنا فإنه يحب الأسنان البيضاء ولولا هذا لقلع أسنان نسائه.»
فاستغربت دميانة حديثه واستخفت روحه، ولكنها بقيت في اضطراب وقلق وأحس الرجل بخطوات خارج الخيمة فتوقف عن الكلام وتململ وتحفز للخروج وإذا برجل آخر دخل وظهر من لباسه أنه رئيس تلك العصابة وله عينان براقتان ووجه نحيف ودلائل الصحة والقوة بادية فيه. ولما رأى ذلك الرجل هناك نظر إليه مؤنبا وقال بلسانهم كلاما لم تفهمه دميانة ولا علية، ولكنهما أدركتا أنه يوبخه. ثم قال له قولا وأومأ إليه أن يقوله لهما، فقال: «إن مولانا القائد يلومني؛ لأني أحدثكما، وهذا محظور علينا، وهو يطلب أن تطمئنا ولا تخافا.»
فأومأت دميانة برأسها شاكرة وقد احمرت عيناها من أثر البكاء أثناء الطريق. فأوعز إليهما ان ترتاحا وتناما على جلد فرشوه لهما وخرج.
فنامت دميانة بعد أن صلت وتضرعت إلى السيد المسيح أن يرعاها ويحرسها.
وفي صباح اليوم التالي جاءهم الخادم باللحم واللبن فأكلت علية حتى شبعت أما دميانة فلم تأكل إلا قليلا، ونظرت إلى ما حولها فرأت أنها في صحراء رملية قاحلة وأن العصابة مؤلفة من بضعة وعشرون رجلا معهم الجمال والخيول. ولما أشرقت الشمس ركبوا يطوون البيداء. وبالغ البجة في إكرامهما والتخفيف عنهما؛ شأن أهل البادية في المحافظة على العرض إلا ما يحلونه لأنفسهم من الغنائم. •••
قضى رجال البجة يومين يضربون في الصحراء، وفي اليوم الثالث عند الظهيرة أشرفوا على مناجم الزمرد، فرأوا عمالا من البجة ومن بعض أهل النوبة يحفرون في الأرض وهم عراة إلا ما يستر العورة. فلم تكترث دميانة بالقوم وبحفرياتهم. ولم يقف الركب إلا ريثما ساقوا معهم بعض الماشية مما كانوا قد أعدوه هناك طعاما لما بقي من الطريق وما زالوا سائرين على هذه الحال حتى وصلوا إلى نجع كبير عرفت دميانة وعليه أنه نجع الأمير وهو مؤلف من خيام كثيرة من الجلد في وسطها خيمة واسعة مزخرفة، وبجانبها خيمة أخرى كالقبة - من الجلد أيضا. وبجانب النجع مسارح للماشية من الضأن والبقر ولحظت دميانة أن «أبقارهم» تمتاز بقرونها الطويلة مما لم تر له مثيلا في مصر. على أن كل اهتمامها كان منصرفا إلى ما عساه أن يكون شأنها مع الأمير الذي ذكروا أنها ستكون عنده.
وأخذ الركب في النزول، وأتى بعض الخدم وأناخوا جمل دميانة وانزلوها عنه، فمشت وفرائصها ترتعد وقلبها يخفق خوفا، ووقفت مطرقة لا تدري ما تعمل فإذا بالرجل الترجمان أتى وقال لها: «تعالي معنا إلى المعبد لنتبرك بالكاهن ونستخير الآلهة على يده في قسمة الغنائم.» ثم قال بصوت ضعيف سمعته هي وحدها: «عسى أن تكوني من نصيب الأمير؛ فإنك أهل له.»
فوقعت كلماته في أذنيها وقوع الصاعقة، ولكنها أطرقت وجعلت تصلي في قلبها وتطلب إلى الله أن يشجعها ويأخذ بيدها؛ لتستطيع النجاة من هذه التجارب، وأحست بعد الصلاة أنها في حرز حريز لا خوف عليها، كأن جندا من الملائكة يحرسها.
أما بقية الركب فترجلوا وسار زعيمهم أمامهم إلى القبة بجانب الخيمة الكبرى. ولما اقتربوا منها فتح بابها وأطل منه كاهن بلباس مزخرف على رأسه شبه تاج من الريش وعلى كتفه شملة مطرزة وحول وسطه حزام من جلد مرصع بالزمرد والياقوت تحته قباء من القباطي الأبيض وبيده صولجان من خشب الأبنوس في أعلاه شبه فرس من الذهب وقد تصاعدت رائحة البخور. ولما أطل الكاهن على الناس سجدوا جميعا، وكانت دميانة وراءهم تجاريهم في سيرهم إلى جهة القبة. فلما رأتهم يسجدون وقفت وأبت أن تسجد معهم، ولم ينتبه لها الكاهن.
ثم دخلوا القبة وفي صدرها تمثال من نحاس - لعله مأخوذ من أصنام قدماء المصريين - أقاموه على دكة من الحجر، وزينوه بالحلي فاتجه الكاهن إليه وسجد له فسجدوا جميعا مؤتمين به، ثم تمتم قليلا وتمتموا ودميانة واقفة تستغفر لهذه المشاهد.
وبعد الفراغ من الصلاة أشار الكاهن إلى الوقوف فخرجوا جميعا، وخرجت دميانة ورفيقتها وهما مطرقتان حياء؛ لغرابة موقفهما من هؤلاء البدو. ثم تقدم الترجمان فاستوقفهما فوقفتا ووقف الكاهن بباب القبة ثم دخلها مستديرا وأقفلها وراءه وأشار القائد إلى دميانة وصاحبتها أن تبقيا واقفتين. وبعد قليل سمعتا جرسا في القبة ثم رأتا الباب وقد فتح وخرج الكاهن عاريا، وظهر الوشي على صدره وذراعيه، وقد تغيرت سحنته وجحظت عيناه فيخيل إلى الناظر أنه مجنون أو مصروع.
فأجفلت دميانة عند رؤيته وغطت وجهها بكفيها وكادت تصيح من الخجل. ثم سمعته يتكلم بصوت عال مختنق كأن شخصا آخر يتكلم في جوفه، وكانوا يعتقدون أن إلها يتكلم في داخله، ولما أتم كلامه أجابوه بكلمتين كأنهم يؤمنون على أقواله. ثم عاد إلى القبة وأشار القائد إلى الترجمان بأن يقول لدميانة ما يقوله الكاهن، فوجه كلامه إليها قائلا: «اعلمي يا جميلة أن الكاهن قد استخار الآلهة، فأشارت بأن تكوني من نساء أبي حرملة أميرنا الأكبر وهذا قائدنا يهنئك بهذه النعمة.» والتفت إلى علية وقال لها: «وأنت من نصيب هذا القائد الباسل.» وأشار إليه.
وكانت دميانة وهم يصلون لآلهتهم تصلي لربها وتتوسل إليه أن يشجعها ويقويها، فلما سمعت ما تلاه عليها الترجمان لم يجفلها وإن كان قد وقع عليها وقعا شديدا؛ فإن الإيمان الصحيح يقوي القلوب. وهو أكبر تعزية لبني الإنسان في الشدائد.
وبعد أن قال الترجمان ما قاله ذهب ثم عاد ومعه رجل نوبي. فلما وقع نظر دميانة عليه استخفت روحه واستأنست به؛ لأنه يشبه خادمها زكريا فتقدم وأشار إليها أن تتبعه إلى خيمة الأمير. وذهب الترجمان الآخر مع علية إلى خيمة القائد. ولم يكن الأمر عظيما على عليه ولا غريبا عنها؛ لأنها اعتادت البادية وأهلها. •••
مشت دميانة في أثر النوبي وهي تقدم رجلا وتؤخر أخرى وتستعين الله ومريم العذراء والقديسين على ما يصفون، وسمعها النوبي تستغيث بالعذراء فشعر بانعطاف إليها؛ لأنه ربي تربية نصرانية في بلاده، والنوبيون يومئذ كلهم مسيحيون. فتباطأ في مشيه حتى حاذاها وقال لها: «يظهر أنك نصرانية فهل أنت قبطية؟»
فلما سمعت استفهامه استبشرت وقالت: «نعم إني قبطية ووالدي من وجهاء القبط؟»
قال: «يظهر عليك ذلك، فلا تنزعجي، هل أنت متزوجة هناك؟»
فظهر الخجل في وجهها وسكتت ودل سكوتها على أنها عذراء، فقال: «إذا كنت متزوجة فلا أجد سببا لاضطرابك، فإنك ذاهبة إلى أمير البجة، وهو أكبر أمرائهم وأشجع قوادهم، ومن حسن طالعك أن قسمت له، وسيكون لك مقام رفيع عنده؛ فليس في نسائه واحدة على مثل ما أنت فيه من الجمال والكياسة، وهو يفهم القبطية قليلا، فسلمي أمرك إلى الله واقنعي بهذا النصيب.»
وكانا قد اقتربا من باب الخيمة، فتقدمها النوبي وأشار إلى الحاجب أن ينبئ الأمير بقدومه، فلما أذن له دخل ودميانة في أثره وقد صبغ وجهها الحياء وتولاها الخوف واصطكت ركبتاها ورأت النوبي انحنى كأنه يسجد لأيقونة. ووقع نظرها على الأمير جالسا في صدر الفسطاط وهو خفيف العضل والشعر أسود اللون حاد العينين ذو مهابة ولباس حسن. وكان جالسا الأربعاء على بساط من السجاد الثمين فوق مقعد سوداني (عنقريب). وارتدى بكساء من الحرير الملون وعلى رأسه عمامة تشبه التاج وبين يديه سيف قبضته من الذهب وحول عنقه عقد من الحجارة الكريمة بينها قطع من الذهب على هيئة تماثيل صغيرة لبعض الآلهة، وفي أصابعه الخواتم.
وسلم النوبي على أبي حرملة بلسان البجة، فأجابه هذا باللسان نفسه، ولم تفهم دميانة شيئا ولا هي استطاعت أن تسجد كما فعل الترجمان، لكنها سمعت أبا حرملة ينادي النوبي: «سمعان.» وهو اسم نصراني، فاطمأنت لاعتقادها أنه نصراني مثلها.
ووجه أبو حرملة نظره إلى دميانة، وتفرس فيها فأطرقت، ثم سمعته يخاطب سمعان فالتفت هذا إليها يترجم كلامه فقال: «إن مولانا الأمير أعجب بما شاهده فيك من الجمال والهيبة، ويقول لك: إنه سيبذل جهده فيما يرضيك، فلا ينبغي أن تعدي نفسك سبية أو غريبة؛ فإنه يعدك من خير نسائه.»
فارتجفت اضطرابا إذ أصبحت داخل العرين، ولا يلبث الأسد أن ينشب أظافره فيها، فاستعاذت بالله وظلت ساكنة. فأشار أبو حرملة إلى سمعان وخاطبه فاتجه هذا إلى دميانة وقال لها: «تعالي معي يا جميلة إلى الخباء؛ فقد أوصاني الأمير بأن أخصك بخيمة تقيمين بها على الرحب والسعة.»
وخرج فخرجت معه تتعثر بأذيالها، ثم قالت له: «يظهر يا سمعان أنك نصراني مثلي، فأستحلفك بالسيد المسيح أن تنقذني من هذه المصيبة.»
فابتسم سمعان وخاطبها وهو ينظر إلى الأرض؛ لئلا يلحظ أحد أنه يكلمها خوفا من الأمير، وقال: «إن لم أكن نصرانيا كما ظننت فقد ولدت في بلد النصارى، فسموني باسم من أسمائهم وأنا أعرف كثيرين منهم في مصر والصعيد والنوبة. وقد رأيتك شديدة الخوف، وثقي بأني سأكون لك أخا أبذل جهدي في راحتك.»
فاستأنست بوعده وقالت: «إذا كنت تعدني أختا لك فأرجو منك أن تساعدني على الخلاص. هذا غاية ما أرجوه منك. فإذا أنقذتني كان لك فضل كبير لا يضيع أجره عندي ولا عند أهلي.»
قال: «يا حبذا، ولكن الخلاص لا يستطاع، ونحن بين رجال كالنمور يختطفون بسرعتهم الأبصار، فاصبري، ولا ريب أنك ستكونين راضية بعد قليل.»
وكان كلام سمعان عن الخلاص، فإنه لم يكن يدرك ما في خاطر دميانة وما الذي يثقل على طبعها. فقد كان يجهل أنها حريصة على عفافها، تأنف أن تبتذل وأنها عالقة بسعيد، وكلا الأمرين ما يضحي لأجله بالحياة. فلما يئست من نصرة سمعان وتحققت من وقوعها في الفخ علمت أنها لم يبق لها ملجأ إلا الإيمان، وأخذت تراجع في ذهنها مواعيد الكتاب للمؤمنين في أيام الشدة بقوة الله، وهي ماشية ساكتة وسمعان لا يتكلم، فتجاوزا فساطيط الرجال حتى أشرفا على الأخبية وقد دنت الشمس من الغروب، وكانت الأخبية عديدة، بينها خباء فخم اتجه إليه سمعان، وأشار إلى دميانة أن تتبعه، فتبعته حتى أطل على باب الخباء ونادى، فخرجت له عجوز طويلة القامة شديدة العضل ملامحها أقرب إلى الرجال منها إلى النساء وعليها الدمالج والأساور والعقود، وقد فاحت منها رائحة الطيب وأبرقت عيناها واحمرتا. فأثر منظرها في دميانة أكثر من تأثير منظر أبي حرملة ووقفت مبهوتة، فابتدرها سمعان قائلا: «نحن الآن عند خباء الأمير، وهذه قهرمانة بيته قامت على تربيته منذ صغره، وتعد نفسها أمه وقد عهد إليها في أمر نسائه، وكأني بك قد أخافك منظرها، فلا تخافي وأنا أوصيها بك خيرا.»
ثم التفت إلى القهرمانة وكلمها بلسان البجة كلاما بهذا المعنى، فنظرت إلى دميانة وابتسمت ابتسامة تطمئنها بها ولكن دميانة لم تجد بدا من السكوت، وأشارت إليها القهرمانة أن تدخل، فدخلت وهي تنظر إلى سمعان والدمع ملء عينيها كأنها تستغيث به، وقد أثر منظرها فيه، لكنه كان يعتقد أنها لا تلبث أن تمكث بضعة أيام مع الأمير حتى تعتاده وتألف البقاء معه.
ودخلت دميانة الخباء، ومرت بعدة غرف من الجلد، رأت في كل منها امرأة أو نساء وبينهن النوبية والبجاوية والحبشية والقبطية. بين سرية وخادمة وجارية. فوقفن جميعا احتراما للقهرمانة حتى وصلت بها إلى غرفة ليس فيها أحد وفي بعض جوانبها بساط ووسادة من جلد محشوة بالقش، وبجانب البساط وعاء كالجراب مفتوح وفيه آنية «التواليت»: السواك والمشط وحق الطيب وقد علقت بجدار الغرفة ركوة من جلد وبجانبها قربة ماء فلما توسطت دميانة الغرفة شعرت بانقباض شديد لم تعد تملك معه نفسها، فجعلت دموعها تنحدر على خديها ونفسها تطلب البكاء وهي تحاول أن تمسكها. وإذا بالقهرمانة تقول لها بلغة قبطية ركيكة: «اجلسي يا بنية على هذه الوسادة.» وربتت كتفها تحببا، فلم تعد دميانة تتمالك فألقت نفسها على الوسادة وأخذت في البكاء بصوت عال كالأطفال ونسيت موقفها.
فاستغربت القهرمانة بكاءها بغتة، فقالت لها: «هل تحتاجين إلى شيء؟»
ولما لم تجبها قالت: «هل أنت خائفة؟ لا تخافي يا بنية؛ إن الأمير يحبك كثيرا وبعد قليل يأتي إليك. قومي أصلحي شأنك. وهذه هي الأطياب والسواك والمشط وأنا أساعدك.» قالت ذلك ومدت يدها إلى الجراب وهي تنظر إلى دميانة فإذا بها تجهش بالبكاء ولا تعيرها التفاتا. فعادت إلى تطييب خاطرها وملاطفتها وما زالت بها تارة تلاعبها وطورا تمازحها وآونة تهددها أو تمنيها أو تطمئنها حتى سكن روعها، ولم يطمئن بالها ولكنها تجلدت وودت لو بقيت وحدها، فتركتها القهرمانة ومضت وقد خيم الظلام، فازدادت دميانة انقباضا ووحشة. ثم ركعت على البساط ركعة مؤمن صادق الإيمان، وبسطت يديها إلى السماء ورفعت بصرها وأخذت تصلي كأنها تخاطب شخصا تراه بعينيها وتثق بأنه يجيب طلبها، وجعلت تتضرع إلى الله وتستجير بالمسيح وبالعذراء وسائر القديسين؛ تطلب الخلاص من هذه التجربة التي أوشكت أن تقع فيها. وكانت تصلي بحرارة ودموعها تتساقط على خديها بصوت خافت تتخلله نبرات التوسل والإلحاح في الرجاء. وقد حلت شعرها وكشفت عن صدرها واستغرقت في تضرعاتها ومناجاتها حتى نسيت موقفها فصارت تطلب وتتضرع بصوت عال تعترضه غصة أو بحة وتقرع صدرها وتعيد الطلب والدعاء كأنها تجردت عما يحيط بها.
وكانت القهرمانة قد تركتها ولم تبتعد عن غرفتها، فسمعت صلاتها، فاسترقت الخطى إليها حتى وقفت بجانب الباب بحيث ترى موقف دميانة وتسمع تضرعاتها، ومع غلظ قلبها لم تتمالك عند رؤية دموعها تتساقط وسماع صوتها المخنوق من الانعطاف إليها انعطافا مقرونا بالاستغراب، وكانت على موعد من قدوم أبي حرملة تلك الساعة وعليها أن تهيئ العروس وتصلح من شأنها قبل قدومه، فهمت أنها تدخل وتوقفها عن الصلاة وإذا بها تسمع وقع خطوات عرفت أنها خطوات الأمير، فتحولت نحوه وأشارت إليه بإصبعها أن يمشي الهوينى ليرى دميانة بعينيه.
فمشى حتى أطل على الفتاة بحيث يراها ولا تراه؛ فرآها جاثية وشعرها محلول وقد استرسل حتى غطى كتفيها وأعلى صدرها. ووقع نظره على جانب وجهها فرأى الاحمرار قد جلله والدمع بلله. وهي تبسط يديها نحو السماء تارة وترقع بهما صدرها أخرى، فنظر أبو حرملة إلى القهرمانة مستغربا، فبادلته مثل نظره، وحمل ذلك من دميانة محمل الوحشة لبعدها عن أهلها، وأراد أن يجاملها حتى تستأنس به وقد زاده منظرها رغبة فيها، فتراجع وأوصى القهرمانة بتطييبها وبإعدادها له على أن يعود بعد قليل.
وطالت صلاة دميانة دون أن تمل، ثم شعرت بعد حين بتعب يديها فانتبهت وقد سري عنها وذهب ما كان أحدق بها من الهموم والمخاوف، وشعرت بشجاعة واطمئنان، وتحققت ألا خوف عليها من حبائل الشيطان.
وفيما هي تتحفز للوقوف دخلت القهرمانة ضاحكة وهمت بدميانة فقبلتها، فاشتمت منها رائحة كانت تشتمها في المعسكر على الجمال ولكنها أحست بها قوية في وجه القهرمانة، فأمسكت دميانة بيدها وأجلستها على الوسادة بجانبها وقالت لها: «قد آن لك أن تتطيبي للقاء عريسك، وهذه شمعة قد اختصك بنورها وكان قد حفظها لأعز أوقاته وأمرني أن أضيئها في هذه الغرفة ليرى وجهك الجميل عليها، وهذا إكرام اختصك به؛ فإنه لم يفعل مثله مع سواك من نسائه.» قالت ذلك وأخرجت قضيبا غليظا من الشمع مغروسا في شبه قاعدة، وقدحت بالزناد وأضاءت الشمعة، وأخرجت منه المشط والسواك والأطياب، وأخذت تصلح لها شعرها وتمشطها وتطيبها، ودميانة ساكتة لا تتكلم ولا تمانع وقلبها مطمئن هادئ. •••
انتهت القهرمانة من تمشيط دميانة وتطييبها، ثم أتتها بثوب من الحرير الملون كان أبو حرملة قد بعث به إليها مبالغة في إكرامها، فلبسته، فظنتها القهرمانة راضية مسرورة، فخرجت إلى أبي حرملة وجاءت به وكان قد خفف ملابسه واتشح بثوب من الحرير يشبه ثوبها وتطيب. ولما دخل الغرفة أشار إلى القهرمانة فخرجت وعادت وبيدها ركوة من جلد وقدح من خشب وضعتها بين يديه وخرجت، وبقي هو ودميانة ليس في الغرفة سواهما. فاختلج قلبها في صدرها خوفا برغم اتكالها على الله بعد الصلاة واستأنفت الاستغاثة بالعذراء في سرها.
أما هو فقعد على البساط، وتناول الركوة فصب منها في القدح وقدمه إلى دميانة وهو يقول بلغة قبطية مكسرة: «اشربي يا عروسة، اشربي من هذه المريسة فإنها تنعش القلب وتذهب الحزن!»
فظلت ساكتة مطرقة لا تعلم ماذا تقول فقال لها: «أنا أشرب هذه الكأس عنك.» ثم شربها وصب قدحا آخر وقدمه لها وقال: «خذي اشربي.» وأدنى القدح من فيها فنفرت، وظهر الاشمئزاز في وجهها فقال: «يلوح لي أنك لم تتعودي هذا الشراب.» ووضع القدح من يده وزحف على البساط حتى دنا منها ووضع يده على ركبتها، فاقشعر بدنها ونهضت فجأة ونفرت فأخذ يضاحكها، فقال: «ما بالك؟ لماذا تخافين وأنا أحبك كثيرا؟» ومد يده ليمسك يدها ويجذبها إليه، فتباعدت، فتطاول حتى أمسك يدها فإذا هي باردة كالثلج، وشعر بجاذبية زادته رغبة فيها. وأما هي فلما لمسها اقشعرت وكاد الدم يجمد في عروقها، ولم تجد فائدة من النفور، فأطاعته وقعدت وهي تتجنب أن تلمسه وخاطبته والدمع في عينيها قائلة: «أتوسل إليك يا سيدي أن تتركني وشأني.»
قال: «ولماذا؟ ألا ترضين أن تكوني من نسائي؟»
فلما سمعت سؤاله خافت أن تجيبه بالرفض فيغضب، فقالت: «إني جارية حقيرة، لا أستحق هذا الإكرام، وأنت في غنى عني بمن عندك من النساء الكثيرات، فاتخذني جارية أخدم في مطبخك، أو أرعى الماشية، أو أي شيء آخر.»
قال: «لا، لا، بل أنت أحب النساء إلي، وسأجعلك في المقام الأول، فلا تجزعي؛ فما أنا بالوحش الذي تخشين وإن لم أكن من أهل المدن نظيرك.»
فقالت: «يظهر لي من كلامك ومن علو منزلتك أنك طيب السريرة، فلا يبلغ مقام الإمارة والزعامة أسافل الناس، فاسمح لي برجاء أتقدم به إليك.»
قال: «قولي.»
قالت: «إن الحظوة عندك شرف يتمناه الكثيرون، وأنا أسيرة، استخدمني كيفما تشاء للطبخ أو الغسل أو الحرث وارفع عني حظوة الزواج. أستحلفك بمن تعبد أو بمن تحب أن تتركني وشأني.»
قال: «كيف أتركك وشأنك وقد وقعت لي من الغنيمة بعد استخارة الآلهة، ورأيت فيك جمالا لم أشاهده في سواك؟ إني أنصح لك أن ترجعي عن عنادك وتقبلي مودتي طائعة مختارة، فأبو حرملة زعيم هذه القبيلة لا يعجزه أن يكرهك على ما يريد.»
فشعرت بتهديده وأنه إذا عزم على أمر لا يردعه رادع، فأطرقت ولم تجب، فاستبطأ جوابها فقال: «هل رجعت عن غيك يا قبطية؟ هل علمت بأني أدعوك إلى السعادة؟»
فرفعت عينيها إليه - وقد تكسرت أهدابها من البكاء وذبلتا من الحزن والقنوط - وقالت: «قلت لك إن كثيرات من أمثالي يتمنين الحصول على هذه السعادة، ومع ذلك فإني أستعفيك منها ... واطلب مني ما شئت غير ذلك، قلت لك إني أكون خادمة، جارية، راعية، أكون أي شيء تريده غير الزواج.»
فقطع كلامها قائلا: «راعية خادمة؟ إن الخدم كثير عندنا؛ فإننا نبيع الأرقاء بالمئات.» فرفعت بصرها إليه وقد قنطت من الحياة. وكأن إلهاما هبط عليها فجأة فتغيرت سيماؤها وبان البشر والجد في محياها، فقالت له: «أأنت أمير تقود رجالك إلى القتال كثيرا؟»
قال: «نعم. وأي شيء في هذا؟»
قالت: «وأظنك تخسر كثيرا منهم أثناء الحرب؟»
قال: «كثير جدا.»
قالت: «وأنت أيضا لست في مأمن من الموت.»
قال: «إني لا أخاف الموت .»
قالت: «لم أقل إنك تخاف الموت، ولكنك تعرض نفسك للقتل.»
قال: «طبعا، ولكن ما معنى هذا الكلام، وما علاقته بما نحن فيه؟»
قالت: «تمهل أيها الأمير حتى النهاية. ألم يبلغك خبر العلوم السرية التي ورثناها عن أجدادنا الفراعنة علما وصناعة.»
قال: «اسمع بشيء كثير من هذا. ولكن ماذا يهمني من العلم؟»
قالت: «ألا يهمك أن تنجو أنت ورجالك من القتل إذا تساقطت عليكم الحراب كالأمطار، أو وقعت عليكم السيوف كالجنادل؟»
فضحك حتى بانت أسنانه البيضاء، وهز رأسه وقال: «يهمني وهل في علم المصريين ما يمنع الموت؟»
قالت: «نعم أيها الأمير، وذلك سر لا يعرفه إلا القليلون.»
فشخص ببصره استغرابا وقال: «وهل تعرفينه أنت؟»
قالت: «أعرفه.»
قال: «إنك تحتالين علي للنجاة.»
قالت: «اسمع لي. أنا لا ألقي كلامي جزافا، ولا أطلب منك التسليم به إلا بعد تجربة، إن سر هذا الدواء مودع في بطن الأديار بمصر، وقد عرفته وتعلمته.»
قال: «وما هو؟»
قالت: «دهن أصطنعه وأقرأ عليه. فإذا دهن امرؤ جلده به أمن القتل، فلا يقطع فيه سيف ولا رمح ولا سكين.»
فقال: «دعينا من هذا الكلام الهراء، إن هذه الأكاذيب لا نخدع بها.»
قالت: «ليست أكاذيب يا سيدي، هذا سر في يدي، لا أبوح به إلا إذا أقسمت لتكتمنه.»
قال والجد يتجلى في جبهته وعينيه: «أتقولين الحق؟»
قالت: «نعم.»
قال: «إذا صدقت في أمر هذا الدهن فإني أعطيك ما تطلبين.»
قالت: «لا أطلب إلا إطلاق سراحي وإيصالي إلى بلدي وأهلي.»
قال: «لك ذلك وأقسم بإلهي، لأبرن بقولي. وكيف السبيل إلى معرفة صحة هذا الدواء؟»
قالت: «تجربه في رجل تدهن به جسمه وتضرب عنقه فإذا قطع كان الدواء كاذبا. وإذا نبا السيف ولم يصب الرجل بسوء كنت من الصادقين، فتفي لي بوعدك.»
قال: «وهو كذلك، لكن من يقبل أن يجرب هذا فيه ويعرض نفسه للخطر؟»
قالت: «إذا لم تجد أحدا أجربه أنا بنفسي.»
فأطرق أبو حرملة عجبا، ثم قال: «حسنا، ومتى تصنعين هذا الدهان؟ ومتى نجربه؟»
قالت: «غدا - إن شاء الله .»
فنهض وهو لا يصدق ما يسمعه، وقال: «لنصبرن إلى الغد، إني منصرف الساعة، فاصنعي العقار وفي الغد نجربه، فإذا صح قولك فلك ما تريدين.»
قالت: «لا أريد غير إخلاء سبيلي، وإرجاعي إلى أهلي.»
قال: «حسنا.» وخرج توا إلى فسطاطه.
فلما خرج من عندها تنفست الصعداء، وأخذت في إعداد العقار، فجعلته مزيجا من الأطياب التي بين يديها وأضافت إليها أشياء أخرى حتى صار كالشحم ووضعته في قدح وباتت ليلها مضطربة لهول ما هي مقدمة عليه، ولكن إيمانها كان قويا.
وفي اليوم التالي جاءتها القهرمانة، فرأتها تصلي، فأتتها بالطعام فأكلت قليلا. ثم جاء سمعان النوبي الترجمان موفدا من أبي حرملة في طلب دميانة. فأرسلتها القهرمانة معه، فلما رأته ارتاحت إلى رؤيته وابتسمت ابتسامة حزين يائس، فأثر منظرها في نفسه، وقال لها: «أرجو أن تكوني قد غيرت رأيك في أميرنا.»
فتنهدت وأرسلت دمعتين انحدرتا على خديها وهي مطرقة تمشي وراءه، حتى بلغت خيمة الأمير وقد خبأت قدح الدهان في جيبها، فأمر أبو حرملة بإدخالها عليه وحدها، فدخلت وأراد سمعان أن يدخل معها فأشار إليه الحاجب أن يبقى خارجا، فمكث وهو يتعجب من تلك الخلوة مع حاجة الأمير إليه. •••
كان أبو حرملة حينما دخلت عليه دميانة جالسا على متكأ وقد مد رجليه، وهما حافيتان، ووضع على رأسه عمامة صغيرة وبيده خيزرانة يلهى بها، فمشت حتى توسطت الخيمة ووقفت، فأشار إليها أن تتقدم، فتقدمت حتى اقتربت منه، فأومأ إليها أن تقعد، فقعدت، فقال لها: «ذهبت بالأمس إلى خبائك، فأطمعك ذلك في وبعث على نفورك، فأردت أن آتي بك إلى فسطاطي، لعلك تثوبين إلى رشدك، ألا تزالين خائفة؟»
فقالت: «لست خائفة يا سيدي، ولكننا اتفقنا مساء أمس على أمر أراك نسيته؟»
قال متجاهلا: «وما هو؟»
قالت: «ألم تعدني بإطلاق سبيلي إذا أحضرت لك العقار الذي يمنع القتل؟»
فضحك وقال لها: «لا أحسبك تجدين، دعينا من الأدهان وارجعي إلى رشدك.»
قالت: «بل أجد، ووعد الأمير دين.»
فاعتدل في مجلسه وقال: «أتصنعين دهنا يمنع القتل؟ ما هو ؟»
قالت : «نعم يا مولاي.» ومدت يدها وأخرجت القدح من جيبها ودفعته إليه، فتناوله ونظر في ذلك الدواء، فإذا هو خثر كالشحم وله رائحة الطيب، فقال: «أهذا عقار يقي من القتل؟»
قالت: «نعم، إذا دهنت به عنق رجل لا يقطعه سيف ولا خنجر.»
فهز رأسه وهو يتأمل ما في القدح تارة، وينظر إليها تارة أخرى وهي مطرقة. فقال: «ينبغي أن نجرب.»
قالت: «جربه.»
فقال مهددا: «سأجربه فيك أنت!»
قالت: «جربه يا سيدي فيمن شئت، فأنا على يقين من النجاح.»
فرد القدح إليها وقال: «خذي ادهني المكان الذي تريدين، وأنا أضربه بسيفي هذا.» ووضع يده على سيف إلى جانبه.
فأخذت القدح من يده وهي تقول: «جرد سيفك.» ورفعت شعرها إلى أعلى رأسها وكشفت عن عنقها وأخذت من الدهن قليلا بطرف سبابتها وجعلت تمسح عنقها وأعلى صدرها. فلما فرغت جثت بين يديه وقالت: «اضرب بسيفك.»
فنهض واستل الحسام وقال: «أأضرب؟»
فأجابته وهي مطرقة: «اضرب.»
فراعه بياض عنقها، ورأى انكسارها وجرأتها، فأبت رجولته أن يضرب بكف لم يخنها الحسام قط عنق امرأة عزلاء، فتراجع وقال: «ارجعي إلى رشدك أرى رأسك مقطوعا لا محالة.»
قالت: «لا تخف اضرب. إن السيف سينبو بكفك ...»
فغضب وقال: «ينبو بكفي؟» ورفع يده وهم بها وإذا بصوت يناديه من الخارج: «لا تفعل يا مولاي.» وسمع وقع أقدام، فالتفت، فرأى سمعان داخلا مسرعا حتى حال بينه وبين دميانة، فقال أبو حرملة: «ما بالك؟»
قال: «ماذا تفعل يا مولاي؟»
قال: «أجرب عقارا اصطنعته هذه القبطية، تقول إنه يمنع أثر وقع السيف، وأكدت لي ذلك حتى طلبت أن أجربه في عنقها.»
قال: «وهل صدقت قولها؟»
قال: «لم أصدق، فأردت أن أجرب ذلك فيها.»
قال: «وتقتلها!»
قال: «إنها تدعي أن الدواء مجرب، لا ريب في فعله، ولولا ذلك لم تعرض نفسها للقتل، فقد ألحت علي على أن أضرب بقوة.»
فلما سمع الترجمان قوله ابتسم وأدار وجهه حتى استقبل دميانة وهي لا تزال جاثية مطرقة وتتمتم كمن يصلي، فلما اقترب سمعان منها رفعت بصرها إليه وعيناها تتلألآن بالدمع فقال لها: «هل تعتقدين ما ذكرت عن هذا الدواء؟»
قالت: «كيف لا وأنا أطلب تجربته في نفسي؟ دعه يضرب ثم يرى ما يكون.»
فضحك سمعان وقال: «هذا لا يجوز علي يا دميانة؛ فقد عرفت قصدك.» وتحول نحو الأمير وقال: «لا تصدقها يا سيدي، ولا تطلق المهند من يمينك، إلا إذا كنت تريد قتلها؛ إنها تعلم يقينا أن العقار لا ينفع، وأن الضربة من يدك تقضي عليها.»
فأجاب والدهشة ظاهرة في عينيه: «تعرف ذلك وتعرض نفسها للقتل؟ لا، لا، هذا لا يكون. دعني أجرب.»
فصاحت دميانة: «دعه يجرب وسترى صدق قولي، فأستريح من هذا الأسر ويرجعني إلى أهلي.»
قال: «لا تفعل يا سيدي؛ إنها تبغي الموت.»
قال: «كيف تسعى بنفسها إلى القتل؟»
قال: «تفعل ذلك فرارا من أمر يحرمه دينها عليها، وأنت تطلبه منها، فلما لم تجد وسيلة للنجاة آثرت الموت على العار.»
فجعل أبو حرملة ينتقل بنظره من سمعان إلى دميانة ومن دميانة إلى سمعان كأنه يتفحص ما يضمرانه، ثم قال: «وكيف عرفت ذلك؟»
قال: «عرفته؛ لأنه حدث قبل هذه المرة بصعيد مصر منذ أكثر من مائة سنة، في دير من أديرة الراهبات.»
فلما سمعت دميانة قوله نظرت إليه ولسان حالها يعاتبه ويقول: «لقد وقفت في سبيل نجاتي من العار.»
فقال أبو حرملة: «وكيف ذلك؟»
قال: «لما قام العباسيون على بني أمية وأرسلوا جيوش خراسان لمحاربتهم هرب كبير بني أمية إلى مصر، وجعل يهاجم أديار الراهبات والرهبان، فاتفق أن وجد رجاله في بعض الأديرة فتاة جميلة الصورة، فأحضروها إليه، فأعجبه جمالها، فأرادها لنفسه وهي تأبى؛ لأن بنات النصارى يحرصن كل الحرص على صيانة عرضهن، ولا سيما الراهبات؛ فإن الواحدة تفتدي عفتها بنفسها. فلما أرادها الأمير الأموي وعلمت أنها مغلوبة على أمرها احتالت عليه وزعمت مثل زعم صاحبتنا هذه، أن لديها عقارا إذا دهن به الجسم ارتدت عنه السيوف القواطع، وأنه إذا لم يمسها وأطلق سبيلها كشفت له عن سر ذلك الدهن. فرضي واشترط أن يجرب ذلك فيها ، فقبلت ودهنت عنقها، وأمر الجلاد فضربها فأطاح رأسها عن بدنها، فعلم أنها أقدمت على الموت إنقاذا لعفتها. وتحدث أهل مصر بهذا الحادث زمنا طويلا.»
فلما سمع أبو حرملة هذا الكلام رد سيفه إلى غمده، وأطرق حينا ثم رمى السيف على البساط، وتقدم إلى دميانة وقال لها: «قومي أخية، قومي، هل تسعين إلى الموت؟»
فقالت: «وهي واقفة وقوف المستعطف والدمع يتلألأ في عينيها: نعم أفضل الموت على العار.»
فأظهر الغضب وقال: «تؤثرين الموت على أن تكوني عندي؟»
قالت: «كلا يا سيدي، لا أشكو من شخصك؛ فأنت أمير على خلق عظيم، ولكنني أتجنب ...» وأطرقت حياء.
فتصدى سمعان للكلام، وقال: «إنها تبغي صيانة عفافها.»
فأحس أبو حرملة كأن في هذه الفتاة الضعيفة السبية قوة لم ير مثلها في الرجال غلبته على أمره، ولم يدر أن سر هذه القوة هو ثباتها على مبدأها، وإيثارها الموت على ما تظنه عارا، فلم يتمالك عن النظر إليها نظر الاحترام، وقال: «كيف تفضلين الموت؟»
قالت: «أفضله؛ لأنه ينجيني من ارتكاب ما أعتقده مخالفا لمشيئة الله وتعاليم السيد المسيح.»
فالتفت أبو حرملة إلى سمعان، وقال: «فهي إذن نصرانية على مذهب سيدك صاحب النوبة؟»
قال: «نعم يا مولاي، والنصارى يعدون المحافظة على العفة من أكبر الفضائل.»
قال: «فملك النوبة إذن أولى بها منا، وإكراما لهذا الثبات قد عفوت عنها، لكنني لا أتكلف إرجاعها إلى مصر ونحن قائمون بعد أيام إلى النوبة فنسلمها إلى ملكها.»
فلما سمعت دميانة كلامه أشرق وجهها وذهب انقباضها، وتناثرت دموع الفرح من عينيها وهمت بيد الأمير لتقبلها فزاده هذا الشعور شفقة عليها وإعجابا بها؛ لأنه لم يكن يتصور أنه يوجد في الدنيا امرأة تأبى أن تكون له، فكيف وقد رآها تفضل الموت على ذلك، فقال لها: «أتركك وشأنك ونحن ذاهبون بعد أيام قليلة إلى النوبة، فنكون على مقربة من دنقلة عاصمة ملكها، فأدفعك إليه. هل يرضيك هذا؟»
فأشارت برأسها وعينيها شاكرة وهي لا تعرف كم تبعد دنقلة عن ذلك المكان، ولكنها كانت تود التخلص من محنتها بأية وسيلة. أما سمعان فكان يعرف المكانين وما بينهما من البعد، فقال: «وإذا كان الأمير لا يرى بقاءها في معسكره فأنا نوبي وقد اشتقت إلى بلادي، فيأذن لي في السفر إليها، وآخذ الفتاة معي وأوصلها إلى النوبة.»
فضحك الأمير وقال: «لقد طالما لحظت رغبتك في فراقنا وها قد سنحت لك الفرصة، فامض وأهد سلامي إلى ملك النوبة، وقل له: إننا باقون على العهد، وقل لغلامي أن يهيئ لكما الركائب، وخذ من الخدم من شئتما.» والتفت إلى دميانة وقال لها: «اسبلي ذيل المعذرة على ما حملناك من الهم يا جميلة، واذكرينا عند أهلك بالخير متى بلغت بلدك.»
فتذكرت رفيقتها علية، فأرادت أن تسأل عنها لعلها تستصحبها، وتكافئها على جميل أبيها فقالت: «أشكرك أيها الأمير، وسأنشر في الملأ ما لقيته من نجدتك وكرم أخلاقك، ولي رفيقة كانت معي منذ أخذنا من حلوان.»
فنظر أبو حرملة إلى سمعان كأنه يستفهمه فقال: «أظنك تعني علية، لقد تزوجت من ذاك الأمير وهي راضية، فقد تحققت موت أبيها وسائر أهلها، وهي من بنات البادية.»
قالت: «لعلها تحب أن ترافقني.»
قال: «سافرت هذا الصباح مع زوجها.»
فسكتت دميانة وخرجت مع سمعان، واتكلت عليه في إعداد معدات السفر، وحدثتها نفسها أن تطلب إليه أن يحملها إلى مصر بدل بلاد النوبة، فتصل إلى أهلها، فلما خرجت نظرت إليه وهي لا تصدق أنها نجت بعد أن كادت تقتل، وشعرت بفضله عليها، أما هو فلعله كان أكثر سرورا إذ أنقذها من الموت. فلما رآها تنظر إليه ضحك، وقال لها: «هل أنت مسرورة يا سيدتي؟»
قالت: «الفضل إليك يا سمعان في إنقاذ حياتي.»
قال: «لا فضل لي؛ فإني قمت بما يفرضه علي الواجب.»
فقالت: «إني حالما وقع نظري عليك شعرت بارتياح لرؤيتك، ثم تحقق ظني بما آنسته من طيب عنصرك، كأنك مسيحي مثلي.»
فضحك وقال: «نعم أنا كذلك، فقد ربيت تربية مسيحية.»
وكانا يمشيان وأهل المعسكر ينظرون إليهما، وقد بلغهم أن الأمير عفا عن الفتاة وأمر بتسريحها، فظل سمعان ماشيا حتى أتى خيمة وأمر الخادم أن يهيئ الأحمال، ودعا دميانة إلى الجلوس، وأمر لها بطعام يعرف أنها تأكله، فاستأنست به وسألته: «إلى أين نحن ذاهبون؟»
قال: «إلى دنقلة يا سيدتي.» وضحك.
قالت: «وأين هي من هنا؟»
قال: «تبعد بضعة عشر يوما على الجمال.»
قالت: «هل هي من جهة مصر. فإذا وصلنا إليها نقرب من الفسطاط؟»
فضحك وقال: «إن مصر إلى يميننا ودنقلة إلى يسارنا، فإذا كنا الآن على بعد عشرين يوما من مصر فمتى صرنا في دنقلة نصبح على مسافة أربعين يوما عنها!»
فبغتت وانقبضت نفسها وأطرقت، فابتدرها سمعان قائلا: «لا تجزعي إننا لا نذهب إلى دنقلة، ولكنني سأذهب بك إلى أسوان وهي على يوم وبعض اليوم من هنا.» وخفض صوته وقال: «لأني عرفت من بعض المارين بنا أن ملك النوبة قدم إلى جوار أسوان متنكرا، ومتى بلغناها لا نكون بعيدين من مصر كثيرا.»
فأشرق وجهها وقالت: «بورك فيك، وهل لي أن أرجو بعد وصولنا إلى أسوان أن ترافقني إلى مصر لأكافئك على صنيعك؟»
قال: «سأكون في خدمتك حتى تصلي إلى مأمنك.»
فشكرته، وفي نيتها أن تكافئه إذا هو رافقها إلى مصر، ثم ذكرت ما كان من أمرها في الفسطاط واضطهاد أبيها، فكيف يكون مصيرها وهي تجهل ما دار بين زكريا وبين سعيد؟ وكان زكريا قد تركها في حلوان وذهب إلى بيت أبيها ليأتي بالأسطوانة ولقي سعيدا، ولما رجع ليخبرها بما حدث وجد أنها سبيت، فلم تكن تعرف شيئا عن حال أهل مصر، ولكنها توسمت في سمعان الرغبة في خدمتها، فأرادت أن يصحبها إلى مصر لتستخدمه في التفتيش عن زكريا أو سعيد. فأخذت تتأهب للرحيل معه إلى أسوان.
عند ملك النوبة
كانت أسوان آخر حدود مصر من الجنوب، وتبدأ بعدها بلاد النوبة، وكانت مدينة آهلة، فيها تجارة واسعة؛ لما يتبادله فيها التجار على اختلاف مللهم من البضاعة بين مصر والسودان، وكثيرا ما كان النوبيون يسطون عليها ليضموها إلى بلادهم، فيحاربهم المسلمون ويردونهم عنها، وفيها مغارس النخيل الخصبة، وعندها يبتدئ الشلال الأول في النيل ، وهو جنادل تعترض مجرى الماء فيسمع لها دوي وخرير ويتعذر فيه السير على السفن، فيجرونها أو يحملونها حملا حتى تتجاوز تلك المضايق، وعند أسوان كثير من آثار الفراعنة أهمها هيكل أنس الوجود.
وفي عهد روايتنا هذه كان هناك تجاه أسوان في البر الغربي دير يقيم به بعض الرهبان، لا تزال آثاره باقية إلى اليوم، ناهيك بالجبل المجاور لأسوان من جهة الصحراء، وفيه المناجم الصوانية، يقطعون منها الأحجار، وتراها إلى الآن باقية، وفيها الأحجار المقطوعة والحفر المنقورة.
وكان ملك النوبة يومئذ يسمى فيرقي، أو «قيرقي»، وكان طامعا في امتلاك مصر، وإخراجها من يد المسلمين وإعادتها إلى ملك الروم، فكانت الرسل والرسائل تروح وتجيء سرا بين الروم والنوبة بوساطة أسقف مقيم بأسوان، وأحب ملك النوبة في ذلك العام أن يأتي بنفسه ليتصل بالأسقف، فتنكر ونزل بلدة «مسلحة» على حدود النوبة وراء أسوان، ولا يعرفه بها غير نفر من خاصته، وبلغ الأمر سمعان من جماعة كانوا مع قافلة الملك عند خروجها من دنقلة، وتركوها قاصدين مناجم الزمرد.
وبعد يومين من إذن أبي حرملة لدميانة بالرحيل أعدت الركائب لها ولسمعان واستصحبا خادما وجملا يحمل المئونة، والمسافة إلى أسوان قصيرة، فأشرفوا عليها في الأصيل، فقال سمعان: «إننا على مقربة من أسوان، وهذا جبلها المشهور يقطعون منه الأحجار لنحت التماثيل فينبغي أن نتجاوز أسوان إلى الجنوب.»
قالت: «ولماذا لا ننزلها؟ فقد بلغني أن فيها ديرا ذا كرامة أحب أن أزوره.»
قال: «إن الدير على البر الآخر لا نصل إليه إلا بعد اجتياز النيل، ولا بد من ذهابنا إليه، أما الآن فعلينا أن نقابل الملك.»
قالت: «وأي ملك؟»
قال: «ملكنا ... ملك النوبة.»
قالت: «ألا يقيم بأسوان؟»
قال: «كلا، إنه لا ينزل أسوان؛ فهي ليست في مملكته، ولكنه ينزل في بلدة مسلحة وراء الشلال، وفيها حامية من رجاله.»
فهمت بأن تتكلم، ثم سكتت، وظهر من ملامحها أنها تكتم أمرا لا تحب إظهاره، فقال: «أظنك تتعجلين السفر إلى مصر.»
فضحكت وقالت: «هل تلومني على ذلك؟ وقد فارقت أهلي يبكون فراقي، وربما يئسوا من وجودي.»
قال: «لا ألومك يا سيدتي. ولكننا أحوج إلى نجدة الملك منا إلى السفر إلى مصر، ثم إني مكلف برسالة من أبي حرملة إليه لا بد من تبليغها.»
قالت: «افعل ما بدا لك.»
فلما أشرفا على النيل من بعيد رأيا سطحه يلمع كفرند السيف، والجبال تحده من الضفتين، ويتخلل ذلك أنقاض الهياكل الفرعونية فيها الجدران والأساطين. ولما اقتربوا من أسوان سمعوا هدير الماء عند الشلال من تزاحمه في سيره بين الجنادل. وقد مرت على وادي النيل دول شتى وتوالت عليه أحوال مختلفة من عز وذل، ونزل به ملوك وقواد من عهد الفراعنة العظام، إلى اليونان، فالرومان، فالمسلمين وهدير ذلك الماء واحد ومجراه على وتيرة واحدة لا يمل من الجري ولا يمل جاره من السمع.
مروا بالقرب من الجبل وقد كادت الشمس أن تغيب فقال سمعان: «لا نزال بعيدين عن مسلحة، فأرى أن نبيت هنا الليلة، فما قولك؟»
قالت: «لا رأي لي يا عماه، افعل ما تشاء.»
فأشار إلى الخادم أن ينصب خيمة صغيرة كالمظلة تبيت دميانة تحتها ن ويبيت هو خارجها، وأن يعقل الجمال وينام بينها، فقال الخادم: «أين أنصبها؟»
قال: «انصبها في سفح هذا الجبل في مكان ممهد.» قال ذلك وترجل وأنزل دميانة عن الجمل وقد تعبت، فأخذ يحدثها ليشغلها عن التعب، وألقت هي نظرها على ما هنالك من المشاهد الطبيعية، فلما رأت النيل تنسمت رائحة الفسطاط، وتذكرت حبيبها وتاقت نفسها إلى اللقاء؛ لترى ما يكون من أمرها.
وبعد قليل جاء الخادم وأنبأها بنصب الخيمة على مصطبة من الصخر في سفح ذلك الجبل فقال له سمعان: «امكث أنت هنا مع الجمال حتى الصباح، وكن متيقظا؛ لئلا يسطو عليك اللصوص.»
قال: «حسنا.» ومضى.
وصعد سمعان ودميانة للمبيت تحت المظلة وهي لا ترى بأسا من الانفراد بسمعان؛ لأنها كانت تعده مثل خادمها زكريا، وقد آنست فيه إخلاصا، ولا سيما أنها عرفته وهي في أشد الضيق، وتوسمت فيه طيب العنصر وأنه نصراني مثلها، والدين من أهم أسباب التقارب .
حمل سمعان معه بعض الزاد، وجلسا تحت المظلة، فتناولا شيئا من الطعام، ثم غلب عليهما النعاس، فنامت دميانة على بساط فرشه لها سمعان تحت المظلة، وتوسد هو أرضا رملية - على بضع أذرع منها - وجعل رأسه على ذراعيه، وفيما هو يوشك أن ينام سمع دويا، فألصق أذنه بالأرض وأنصت، فسمع وقع خطوات، فرفع رأسه وقد خيم الظلام وأصاخ بسمعه فسمع لغطا بعيدا فنهض ومشى حافيا نحو الصوت وهو يتلمس طريقه حتى أطل من وراء الجبل على خيام منصوبة ونار مشبوبة، فحدق نظره فإذا هي خيام نوبية، فلم يشك في أنها مضارب الملك، فحدثته نفسه بأن يسير إليها؛ لعله يلقى فيها إكراما وحفاوة ويبلغ رسالته، ولكنه خاف أن يترك دميانة وحدها، فعاد إلى متوسده ولم يكد ينام حتى سمع دويا قريبا، فنهض، فرأى ثلاثة فرسان يسوقون أفراسهم في طريق يؤدي إلى المضرب، وتفرس فيهم فلم يعرفهم؛ لأنهم متنكرون، فعاد إلى منامه. وقبيل الفجر جاءه الخادم فسأله: «هل شاهدت أحدا مارا في الليل؟» فقال: «شاهدت ثلاثة رجال ومر بي خادمهم فسألته هل هم ممن يخشى منهم؟ فقال: كلا لا خوف منهم؛ لأنهم أسقف المدينة واثنان من رجاله، وقد رجعوا في آخر الليل ولم نشعر بهم.»
فلما سمع سمعان قوله أطرق هنيهة يفكر، ثم ابتسم وأشار إشارة معناها «عرفت السر.» ثم التفت وقال له: «امكث هنا حتى نعود إليك.» وقال لدميانة: «هل تأتين معي إلى هذه الخيام وراء هذا الجبل؛ فإنها مضارب ملك النوبة، لنقابله ونستأذنه في السفر ثم نعود.»
قالت: «إذا كنت ترى فائدة من ذهابي أذهب.»
قال: «الأجدر أن تأتي معي وأظنك تحبين مشاهدة ملك النوبة؛ فإن الناس يتمنون رؤيته.» وأشار أن تتبعه، فمشيا حتى تجاوزا الجبل إلى بقعة منخفضة، فيها بضع خيام إحداها كبيرة، فتقدما حتى اقتربا منها، فتصدى لهم رجل نوبي غليظ البدن قوي العضل حافي القدمين التحف شملة لف بعضها حول حقويه وأرسل باقيها من جهة صدره إلى كتفيه فظهره، وقد علق سكينا في كوعه وشك سهاما في شعره المتلبد وعلق قوسا في كتفه. ولما رأى القادمين تصدى لهما، فتقدم سمعان إليه وكلمه بلسانه، فبغت الرجل عند رؤيته وتولته الدهشة، وصاح: «سمعان» وهم به فضمه إلى صدره وصافحه مثنى وثلاث - وبين كل مصافحة والتي تليها يقبل الواحد منهما يده على عادة النوبة في التسليم - فأخذ سمعان يكلمه بالنوبية وهما متصافحان كلاما لم تفهمه دميانة، وكلم سمعان الرجل وهو يشير إلى دميانة، فأسرع إليها ودعاها أن تتبعه فأومأ إليها سمعان أن تفعل، فذهب إلى خيمة فيها نساء استقبلنها أحسن استقبال. •••
مضى سمعان إلى الخيمة الكبرى، فاستأذن في الدخول، فأذن له، فوجد هناك «فيرقي» ملك النوبة، وكان بدينا كبير الهامة، عليه لباس مزخرف، وعند رأسه زنجيان يحملان مراوح من ريش النعام، يروحان له وهو جالس على جلد أسد لا يزال رأسه معلقا فيها وقد عولج حتى يظهر للرائي كأنه أسد رابض. ولم يكن «فيرقي» في لباس الملك؛ لأنه جاء متنكرا، ولكنه وضع على رأسه قبعة على هيئة التاج وعلق على صدره صليبا من الذهب المرصع، واتشح بمطرف من الخز، عليه صور ملونة أكثرها صور القديسين وأهمها سورة القديس جاورجيوس لابس الظفر، وكان الملك قد جلس الأربعاء ووضع السيف في حجره، وأصلح من شأنه، فاكتحل وتطيب ونزع النعال من رجله. وكان في أواخر الكهولة وقد شاب شعره وخف ولكنه كان صحيح البدن مشرق الوجه. وقد أحاط خصره بمنطقة من الخز لم يعهد مثلها في تلك البلاد، فلما رأى سمعان داخلا رحب به وقال: «مرحبا بخادمنا الأمين سمعان.»
فأكب سمعان وهو جاث حتى قبل ركبة الملك، فأشار هذا إليه أن ينهض، ودعاه للجلوس، فجلس بين يديه حتى حصير جميل من سعف النخل، فقال الملك: «من أين أنت قادم؟»
قال: «من المهمة التي أنفذني سيدي الملك فيها.»
قال: «من بلاد البجة؟ من هو صاحبها الآن؟ وكيف وجدته؟»
قال: «هو أبو حرملة.»
فقطع الملك كلامه قائلا: «أبو حرملة النوبي؟»
قال: «كلا يا سيدي إن صاحب البجة تسمى بهذا الاسم تقليدا بذلك القائد العظيم.»
قال : «وكيف سياسته؟ هل هو معنا؟»
قال: «لم يكن معنا في بادئ الرأي ولكنني جعلته يصير نوبيا أكثر من النوبة. فإن هؤلاء القوم لا يغريهم إلا الكسب بالنهب فإذا علم أن محاربتنا للمسلمين تبيح له النهب صار معنا.»
قال: «هل أفهمته ما نرمي إليه من مناورة المسلمين؟»
قال: «إنهم لا يفهمون الانضمام إلى الروم لأنهم لا يدينون بالنصرانية وإنما اتفقنا على أنه إذا قامت حرب بيننا وبين المسلمين كان معنا. ورأيت منه ميلا وعطفا.»
فقال: «إن البجة من أصدقاء النوبة من عهد أسلافنا وأذكر أني ذهبت على عهد أبي مع رئيس البجة السابق وكنت غلاما يافعا إلى بغداد عاصمة المسلمين؛ ليشكو إلى الخليفة ظلم عماله في اقتضاء الجزية، فنلنا منه كل رعاية، وأهدانا الهدايا والتحف وبالغ في إكرامنا. وقد شاهدنا من خيرات العراق ما لا مثيل له هنا، ولما رجعنا أهداني فرسا وسرجا ولجاما وسيفا محلى هو هذا الذي معي، وثوبا ثمينا وعمامة من الخز لم ألبسها، وهي هذه - وأشار إلى المنطقة حول خصره - عدا ما أعطى حاشيتنا.
وأهم من ذلك كله أن الخليفة نظر إلى شكوانا فوجد عامله بمصر يأخذ منا فوق ما يجب، فأمره أن يخففه، ولقد كان هذا الخليفة - والحق يقال - على خلق عظيم، فاستتب الحال في عهده ولكن الأحوال تغيرت بانتقال الخلافة إلى سواه. فعاد عامل مصر إلى مناوأتنا. وحق العذراء إن ملك الروم خير لنا من هؤلاء المسلمين؛ فإنهم على دين غير ديننا، ولا يدخرون وسعا في سبيل أخذ أموالنا واسترقاق رجالنا. ولا أظنني في حاجة إلى زيادة التفصيل يا سمعان.»
فحنى سمعان رأسه مؤمنا وقال: «فالبجة معنا الآن، وقد آنست من رئيسهم ميلا إلى حلفنا، ولم يكن يعلم أني جئته لأتجسس أحواله، فاتخذني مترجما له، وقد اغتنمت فرصة سنحت، والتمست منه الإذن بالسفر إلى دنقلة وأنا أعلم أن مولاي الملك هنا.»
فقال الملك: «لقد أتيت متنكرا؛ لأرى أسقف أسوان وأكلمه وجها لوجه؛ فهو واسطة التحالف بيننا وبين ملك الروم - كما تعلم - وقد جاءني بالأمس ليلا ، وتشاورنا مليا، فرأيت منه سعيا حميدا وبقي البطريرك ميخائيل في مصر.» قال ذلك وتنهد.
فقال سمعان: «ألم تتصلوا به بعد؟»
قال: «أرسلنا له رسلنا ورسائلنا مرارا، فلم يأتنا منه جواب.»
قال: «طبعا هو معنا لأنه ...»
فقطع الملك كلامه وقال: «لا تقل طبعا؛ فلو كان معنا لرد على كتبنا إليه.»
قال: «ربما ضاعت الكتب خلال الطريق أو ضاع الرد عليها.»
فأطرق الملك حينا وهو يحك عثنونه الشائب بسبابته ثم رفع بصره إليه، وقال: «صدقت إن الكتب قد تضيع في الطريق، فهل تكون رسولي إلى البطريرك ميخائيل؛ لتبلغه الأمر شفاها، وتأتيني بالجواب النهائي، ولك أن تستخدم مهارتك في إقناعه، هل تفعل؟»
فأشار سمعان برأسه مطيعا وقال: «أفعل ذلك يا سيدي.»
قال: «أتعلم مقر البطريرك ميخائيل؟»
قال: «أظنه الآن في دير أبي مقار في بادية النطرون.»
قال: «هل تعرف الدير؟ وهل أنت واثق من وجود البطريرك هناك؟»
قال: «أعرف الدير، وإذا لم يكن البطريرك فيه أذهب إليه حيثما يكون، كن مطمئنا.»
فابتسم الملك وقال: «إنك محب صادق وإذا ظفرنا بما نؤمله أجزلنا لك الجزاء.»
فوقف سمعان وانحنى شاكرا، وقال: «إني لا ألتمس على ما أفعله أجرا، فإني أقوم به حبا لمولاي الملك وتأييدا للدين.»
قال: «ومتى تسافر؟»
قال: «عندما يأمر الملك وأنا أرفع إلى مقامه، إن معي فتاة من قبط مصر وقعت سبية عند سيد البجة، وعهد إلي أن أعيدها إلى أهلها، فأحب أن أصطحبها ونسافر في قافلة بالبر الغربي، فيكون طريقنا توا إلى وادي النطرون.»
قال: «اصطحب من شئت، وما تريده من مال وركائب من بيت مالنا.»
قال: «لا حاجة بنا لركائب؛ فإن الطريق الذي ذكرته لا يخلو من قوافل التجار مارة بأحمال الريش والصمغ والعاج إلى مصر، فنرافق واحدة منها على ألا يعرف القوم غرضنا، وأجعل نفسي خادما للفتاة التي ذكرتها.»
قال: «أحسنت، ومن هي هذه الفتاة؟»
قال: «ذكرت لمولاي أنها سبية غنمها البجة من حلوان بجوار الفسطاط وأتوا بها إلى أميرهم فأرادها لنفسه فأبت.» وقص عليه حديثها إلى آخره.
فأعجب الملك بما سمعه من تمسكها بالمبادئ النصرانية، وأثنى على عفتها وتقواها، وقال له: «هل هي معك هنا؟»
قال: «نعم هي في الخيمة الأخرى.»
فصفق الملك، فدخل غلامه فأمره أن يأتي بالفتاة القبطية، وقال لسمعان: «سأجعل سفرك إلى مصر في خدمتها؛ إكراما لكما.»
ثم عاد الغلام وقال: «إن الفتاة بالباب.» فنهض سمعان فاستقبلها تشجيعا لها على ملاقاة الملك. فدخلت وهي مطرقة، فابتدرها قائلا: «مرحبا بالفتاة الطاهرة النقية، لقد سمعنا بصدق تدينك وعفة نفسك، فأحببنا أن نراك ونهنئك - حفظك السيد المسيح وجعلك من مختاريه.»
فطأطأت رأسها حياء واحتراما فقال لها: «قد أوصيت محبنا سمعان أن يذهب معك فيوصلك إلى مأمنك.» قال ذلك باللغة القبطية لأنه كان يعرفها.
فاستأنست دميانة وفرح قلبها لاهتمام ملك النوبة بأمرها، وشكرت له تنازله، وخرجت ومعها سمعان إلى مبيتهما، فاستقرا هناك حتى أتيح لهما تعدية النيل إلى البر الآخر بدير هناك أقاما به أياما ينتظرون مرور قافلة ذاهبة إلى مصر يصطحبانها. •••
خشي ملك النوبة أن يتأخر سمعان عن أداء المهمة التي كلف بها فأمر بإعداد قافلة سير فيها جماعة من رجاله يحملون بعض أصناف التجارة إلى الفسطاط، وأمرهم أن يسيروا في طريق البادية على البر الغربي للنيل حتى يأتوا الجيزة تجاه الفسطاط، ومنها يعبرون النيل إليها، فيبيعون بضاعتهم في أسواقها ويذهب سمعان بدميانة إلى حيث تريد، ثم يبحث عن مكان البطريرك ميخائيل ويبلغه رسالته.
فلما أعدت القافلة سار سمعان ودميانة معه وكل منهما على جمله مع من يحتاج إليه من أسباب الراحة، وفي الطريق محطات تقف القافلة عندها للطعام أو الراحة أو النوم. ولم تكن دميانة تعرف أحدا في ذلك الركب إلا سمعان، فكانت تزداد استئناسا به وتقديرا له، وهو لا يفتر عن القيام على خدمتها ومؤانستها بالأحاديث المختلفة، وهي تقص عليه ما تعرفه أو ما مر بها، وتطرقت إلى سرد حكايتها وسبب خروجها من بيت أبيها، وبالغت في الثناء على زكريا لما أظهره من الغيرة عليها والتفاني في خدمتها حتى آخر عهدها به في حلوان، ثم ذكرت أنها لا تعلم عنه شيئا بعد ذاك.
فاهتم لأمرها، وسألها: «وإلى أين تقصدين الآن؟»
قالت: «لا أدري وإذا اقتربنا من الفسطاط نسأل عن المهندس سعيد بين رجال ابن طولون في القطائع، فإذا عثرنا عليه عرفت منه ما أريد.»
قال: «وإذا لم نجده؟»
قالت: «نبحث عن زكريا.» وتذكرت مصائبها فانقبضت نفسها وتنهدت.
وكان جملاهما سائرين متحاذيين وراء القافلة لا يسمع لخفافهما وقع، وإذا التفت الراكب إلى يساره رأى رمالا وصخورا، وأما إلى اليمين فيقع البصر حينا بعد حين على المزارع عند ضفة النيل، وقد يرى النيل جارها والعمارة على ضفتيه أكثرها قرى صغيرة.
وكانا قد اقتربا من الجيزة، ومرا في طريقهما على الهرم المدرج، وأشرفا على أهرام الجيزة، ووقع نظرهما إلى اليمين وراء النيل على حلوان، وظهر لها المقطم وعليه قبة الهواء وتحتها قطائع ابن طولون، فأذكرها ذلك يوم الاحتفال الذي أخذ فيه سعيد، فهاجت أشجانها وبان الانقباض في وجهها، وتلألأ الدمع في عينيها، ولحظ سمعان ذلك فشاركها في إحساسها، وأخذ في التخفيف عنها، وكان قد عرف أنها بنت وجيه غني، وأعجبته أنفتها وعزة نفسها؛ فقال لها: «لا بأس عليك يا سيدتي اشكري السيد المسيح على نجاتك من الأسر والعار.»
فقالت: «أشكره كثيرا، ومن نعمه أنه سخرك لإنقاذي، ولكني تنقبض نفسي كلما أتذكر شقائي وأني أصبحت طريدة شريدة لا أخ لي ولا أخت ولا أم، وقد عاداني أبي، واضطهدني أقرب الناس إلي.»
وتنهدت وسكتت، وظهرت في ملامحها ملامح الخجل واليأس معا؛ لأنها تذكرت سعيدا وأرادت أن تذكره وترجو لقاءه فغلب عليها الحياء ولحظ سمعان ذلك فأحب أن يخفف عنها وقد تذكر مصائبه وكان قد تناساها مع الزمان فقال: «إن الإنسان يا سيدتي عرضة للمصائب، والمسيحي الحقيقي يتأسى بالسيد المسيح، فقد تألم وصلب من أجلنا، واحتمل كل ذلك بالصبر فينبغي لنا أن نصبر.»
فاقتنعت بحجته ولكنها بقيت مكبوتة العواطف، وتود أن تقول شيئا عن سعيد والحياء يمنعها، فقال سمعان: «ولا يخفى علي أنك تضمرين أمرا يمنعك الحياء من التصريح به، لعل سعيدا مرجع آمالك، فإذا لقيته نسيت كل شيء، أليس كذلك؟»
فأجابت وقد غلبت على أمرها: «نعم صدقت ولكني لا أدري أين هو: أفي السجن أم أطلق سراحه؟» وأطلقت لنفسها عنان البكاء، فخاف سمعان أن يسمع أحد من الركب صوتها، فأخذ يتباطأ في سيره وهي تجاريه حتى سبقتهما القافلة مسافة بعيدة، وصارت على مقربة من أهرام الجيزة، وكانا قد أشرفا عليها وعلى أبي الهول من بعيد، فاستبشرا بقرب الوصول.
أما دميانة فاستأنست بسمعان، واتخذته عونا لها - كما كانت تفعل مع زكريا - وزادها تعلقا به مشابهته له في ملامحه وأخلاقه، فقالت: «وهل تظنني أنسى هذه المتاعب يا سمعان؟» قال: «أرجو ذلك من الله، أما أنا فلا أتخلى عنك حتى أبلغك أمنك ويطمئن قلبي.» قال ذلك وتنهد وقد تغيرت سحنته وسكت فسألته عما طرأ عليه فقال: «إني لا أمر من هذا الطريق وأنظر إلى الفسطاط إلا وتنقبض نفسي وتهيج أشجاني ... لحادث أتذكره مع رغبتي في تناسيه ... فلا تهتمي بهذا الأمر ... عودي إلى حديثنا عن المهندس سعيد.»
فضحكت ومالت إلى معرفة كنه أمره، وحسبت إلحاحها عليه بذلك مما يخفف وقع ذكرياته فقالت: «لقد شغلت خاطري بما ظهر عليك من الانقباض فلعل لك قصة غريبة.»
قال: «حديثي غريب، ولكنه قديم وقد كدت أنساه.»
قالت: «ألا تقصه علي، فيساعد على تقصير الطريق؟» •••
قال سمعان: «سأقص عليك حديثي؛ عسى أن يسليك. لقد نشأت مع أخ أصغر مني في بلاط ملك النوبة جد هذا الذي رأيته بالأمس، وكنا في رغد وهناء لا هم لنا غير الأكل والشرب واللعب، وجعلنا الملك من خاصة خصيانه. وكنا غلامين يافعين عندما أتي إلى هذه البلاد خليفة المسلمين الذي يسمونه عبد الله المأمون لأمر اقتضى ذلك، وتبودلت الرسائل بينه وبين ملكنا؛ فقد كان ملكنا يشكو من جور صاحب مصر في تحصيل الخراج، فاغتنم مجيء الخليفة وتقرب إليه بالهدايا من العاج والريش والرقيق، وأرسلني أنا وأخي في جملة الهدية، فجيء بنا إلى هذه المدينة «الفسطاط» فقبل المأمون الهدية، وفرق بعضها في رجاله وأطلق بعض الأرقاء وأنا منهم، وكنت أحسبه يطلق أخي معي أو يأخذنا جميعا؛ لأني كنت مولعا بأخي، لكنه لم يفعل، فبكيت كثيرا وبعد قليل علمت أن المأمون ذهب إلى الأرياف، وأنه أخذ أخي معه ثم علمت أنه عاد إلى بغداد، فشق علي ذلك ورجعت إلى الملك وأقمت في خدمته. وما زالت تنقبض نفسي كلما سمعت اسم الفسطاط، فما بالك إذا رأيتها؟»
فقالت: «يحق لك أن تحزن على فقد أخيك. ما اسمه يا سمعان؟»
قال: «اسمه إبراهيم؟»
وهمت بأن تستزيده إيضاحا فإذا به ينظر إلى الأهرام متفرسا وقد تغيرت سحنته، فرأت القافلة قد تبعثرت، وأحاط شرذمة من الفرسان علمت من ألبستهم أنهم من الجند، فقالت: «ويلاه ... سطا الجند على القافلة.»
فقال سمعان: «قبحهم الله، سطوا عليها وسلبوها، وهل جعل الجند لحماية الناس أو لسلبهم؟ إني أراهم يسوقون الرجال والأحمال جميعا، والأجدر بنا أن نلتجئ إلى مكان نختبئ فيه؛ لئلا يمسونا بسوء، ولو كنت وحدي لما تخلفت عن الرفاق، ولكنني أوثر حمايتك على كل شيء آخر.»
قال ذلك وتحول معها إلى أنقاض بناء قديم من آثار الفراعنة، فترجلا وأدخلا الجملين في مخبأ بالقرب منه، وجلسا على بعض الأحجار ودميانة ترتعد من الخوف، فأخذ سمعان يخفف عنها ويشجعها وقال: «لا تخافي إن الجند لا يأتون إلى هنا، وهم لم يرونا ولا أظنهم يتعرضون لأي عابر سبيل. وبعد قليل تغرب الشمس ويخيم الظلام، فنخرج خلسة إلى هنا وراء الأهرام، وننزل الجيزة فنبيت في خان هناك، ونذهب في الغد إلى الفسطاط.»
قالت: «أخاف أن يلقانا أحد من هؤلاء.»
قال: «لا تخافي، نتجسس الطريق قبل السير، فإذا رأينا أحدا اختبأنا.»
قعدا في الخربة وفيها الأساطين والتماثيل مهملة مبعثرة، وكأن الجملين هالهما المنظر فتهيبا فأخذا في الهدير وسمعان يسكتهما؛ لئلا ينم هديرهما على المكان، فوضع لهما العلف يشغلهما به ولم يمض إلا يسير من الوقت حتى مالت الشمس نحو الأفق، فاستطالت الظلال حتى إذا توارت الشمس اختلطت وصارت ظلاما، فاستولت الوحشة على تلك الخرائب، فلجأت دميانة إلى الصلاة تستجير بالسيد المسيح وبالعذراء، وأخذ سمعان يهتم بالانتقال من ذلك المكان، وهو لا يخلو من الحشرات السامة فضلا عما يعتقدونه من وجود الجان أو العفاريت فيه. ولولا الإيمان والصلاة لما أطاقا المكوث هناك لحظة، فضلا عما قاسياه من العطش؛ فإن قرب الماء كانت محمولة مع القافلة، وأخذت معها.
فلما اشتد الظلام قال سمعان: «هيا بنا نركب إلى الأهرام؛ إني لا أرى شبحا ولا أسمع أصواتا، ولا ريب أن القوم رجعوا إلى الفسطاط.»
فنهضت دميانة، فأركبها جملها وركب جمله بحيث تبقى هي في أثره. وسارا هكذا وهما لا يتكلمان وقد تهيبا الصمت التام المستولي على تلك الرمال وما يجاروها من المغارس. فإذا التفت الناظر رأى إلى يساره الأفق تعترضه التلال الرملية والصخرية وإلى يمينه البساتين حتى النيل، ووراءه المقطم، وفي سفحه القطائع والفسطاط. وعلى ضفتي النيل شجر النخيل يناطح السحاب. •••
كان سمعان يتطاول بعنقه من فوق جمله، ويشخص ببصره، ويتفرس فيما أمامه؛ مخافة أن يكون هناك متربص من اللصوص أو الجند فكان يرى أبا الهول والهرمين الكبيرين، تقترب إليه وتتجلى صورها بالتدريج وهو يصيخ بسمعه فلا يسمع إلا صوت وقع خفاف الجمل على الرمال وصوت شخيره أو تنفسه. حتى إذا اقتربا من أبي الهول أمسك سمعان بزمام جمله ليسير الهوينى، ولم يتجاوز أبا الهول ويشرف على الهرم الكبير حتى رأى شبحا يتسلق الهرم متلصصا، وظهر له من قيافته أنه من العامة ولم ير وجهه ليتبين سحنته. فلما رآه يتلصص أوقف الجمل، فوقف الرجل هنيهة ثم عاد إلى الصعود، فتأكد سمعان أنه لا يفعل فعل المتلصص الخائف، فساق الجمل نحو الهرم حتى استقبل الجانب الذي رأى الرجل يتسلقه، فرآه قد اتجه إليهما ونزل إلى أسفل الهرم ووقف، فخطر لسمعان أن يسأله عن الماء ليتطرق من ذلك إلى أسئلة أخرى، فقال له باللغة القبطية: «من الرجل؟»
فأجاب: «من أهل القرى، ومن أنت؟»
قال سمعان: «غرباء نطلب ماء، هل تعرف مكانا فيه ماء بهذا الجوار؟» فتقدم الشيخ وقال: «إن في هذا الجوار عينا ذات ماء كثير ، تعاليا فأدلكما عليها.»
وكانت دميانة تخشى أن يكون الرجل من طلائع الجند فلما سمعت صوته خفق قلبها وأجفلت؛ لأنه يشبه صوت زكريا. فلما رأته مشى وخلفه سمعان صبرت حتى تسمع كلامه ثانية، فعاد سمعان إلى سؤاله عن أقرب الطرق إلى الفسطاط فقال: «تنحدران من هذه الأكمة بين هذه المغارس إلى الضفة، فتجدان هناك جسرا من السفن المتحاذية، تقطعانه إلى جزيرة الروضة، ومنها تقطعان جسرا آخر إلى الفسطاط.»
وكانت دميانة تسمع كلام الرجل وقلبها يزداد خفقانا؛ لأنه صوت زكريا بعينه، وتفرست في مشيته عن بعد فتحققت أنه هو فلم تعد تعلم ماذا تعمل من الدهشة والفرح، فتجلدت وقالت: «هل تريد أن ترافقنا في هذا الطريق يا عماه؟» قالت ذلك بصوت مختنق من شدة التأثر.
فعجب سمعان لتصديها للكلام ومن اختناق صوتها، أما الرجل فلما سمع الصوت وقف والتفت إلى دميانة والظلام يحول بينهما، وكانت هي قد استعدت لإمعان النظر فيه فلم يبق عندها ريب من أمره، وأما هو فاختناق صوتها أخفى عليه أمرها، فقال: «إني في خدمتكم إلى حيث تشاءون، فهل نذهب توا؟». وأصغى ليسمع الجواب.
فقالت: «نشرب أولا، ثم نسير إلى المعلقة.»
فلما سمع ذكر المعلقة اضطرب، وتراجع حتى أمسك بزمام الجمل - وسمعان يستغرب - وقال: «من أنت. مولاتي دميانة؟ دميانة؟»
فصاحت هي: «زكريا! عمي زكريا.» وكادت للهفتها أن تقع عن الجمل، فلما سمعها سمعان تذكر زكريا بهذه اللهفة أدرك أنه خادمها الذي تحدثه عنه، فنزل عن الجمل وأناخ جملها وساعدها على النزول، فأكب زكريا على يدها يقبلها، وكاد - لولا الحياء - أن يضمها إليه لتلهفه لرؤيتها، وظن نفسه في حلم إذ لم يدر في خلده أن يراها بجوار الأهرام في مثل هذه الساعة، وهو يظنها في أسر البجة، فأكثر من السؤال ومن ترديده وفعلت هي مثله فقال: «سيدتي دميانة! أنت هنا؟ شكرا لله على سلامتك. كيف جئت؟ من أنقذك؟»
قالت: «لا تقل سيدتي؛ فإنك عمي، وهذا عم آخر أنقذني من بلاد البجة وتكلف المشقة حتى وصلنا إلى هنا.»
فصافحه زكريا وسلم عليه وأثنى على فضله، لكنه لم يتبينه لشدة الظلام.
ولم يكن سمعان أقل منهما دهشة لهذه الصدفة، فقال: «الحمد لله إذ سر أمري فأهنئكما بهذا اللقاء.»
فقال زكريا: «امكثا عند قاعدة الهرم حتى آتيكما بالماء تشربان، ثم نسير إلى الفسطاط معا.» قال ذلك ومضى، ثم عاد إليهما بالماء، فشربا ودميانة تود أن تعرف ماذا جرى لسعيد والحياء يمنعها، فقالت: «أين كنت هذه المدة، وكيف حالك؟»
فأدرك غرضها، فقال: «إن حديثي طويل سأقصه عليك. أما حالي فإنها على ما يرام والحمد لله وسيدي سعيد ينتظر لقاءك على مثل الجمر. وهنيئا لك ما ناله من الحظوة عند أمير مصر؛ فهو صاحب الكلمة النافذة والمقام الرفيع.»
وكان زكريا يتكلم وقلب دميانة يرقص فرحا ولما فرغ من كلامه بسطت يديها نحو السماء وقالت: «أسكرك اللهم لأنك حرسته وحفظته فحق علي وفاء النذور.»
فقال سمعان: «لا أقدر أن أصف لكما فرحي بجمع شملكما، والآن وقد أكملت لكما تعينكما فإني أنطلق قافلا.»
فاعترضته دميانة قائلة: «كلا، إنني لم أقم بحق جميلك، ولم أكافئك على بعض ما فعلت.»
قال: «لم أفعل ما يصح أن تكافئيني عليه، وأنا ذاهب الآن في مهمة لا بد لي من قضائها، وسأعود إليكم بعد ذاك.»
قال زكريا: «لم تنقض مهمتك بعد يا أخي، فأنا لست حرا طليقا لأكون في خدمته.»
فقالت دميانة: «وكيف ذلك؟»
قال: «إني سجين يا سيدتي.»
قالت: «سجين! إني أراك حرا طليقا.»
قال: «ولكني خرجت من السجن على أن أعود إليه.»
قالت: «ترجع إليه؟ أتكون حرا وتقيد نفسك؟»
قال: «خرجت من السجن على أن آتي هذا الهرم لآخذ منه شيئا ودعته فيه وأعود إلى السجن، ولا بد لي من العودة إليه؛ لأني وعدت الرجل الذي سهل خروجي بذلك.»
قالت: «صدقت، إن وعد الحر دين، ولكن كيف حبست ولماذا؟ إني لم أفهم ما تقول.»
قال: «حديثي طويل، سأقصه عليك أثناء الطريق أما الآن، فإني أصعد إلى باب الهرم، ثم أعود.»
وصعد ثم عاد وقال: «هيا بنا إلى أسفل هذه الأكمة ؛ فإن لي حمارا ربطته هناك فأركبه ونسير معا.»
فنزلوا جميعا وركب حماره ومشى بين الجملين، وأخذ يروي لهما ما وقع له بعد فراق دميانة في حلوان منذ ذهب إلى بيت أبيها وأخذ منه الأسطوانة، ثم ذهب إلى دير أبي مقار ورأى البطريرك ميخائيل وأخذ منها كتابا إلى ملك النوبة وضعه في الكيس مع الأسطوانة وكيف خانه ذلك اليهودي وأتى بالجند فقبضوا عليه فخبأ الكيس بباب الهرم، وحمل إلى السجن فأقام حينا وتوصل إلى سعيد، وأخبره عن الكيس وأنه يريد أن يأتي به فتوسط له عند السجان على أن يخرجه ويعود إلى السجن في تلك الليلة ... إلى أن قال: «قابلت خلسة لأخذ الكيس من باب الهرم، فرأيتكما وخفت أن تكونا عينا علي، ثم حدث ما تعلمانه، وقد ذهبت الآن إلى باب الهرم، وأتيت بالكيس، وهو معلق بعنقي تحت أثوابي.»
وقصت عليه حديثها، ونوهت بمكارم أخلاق العم سمعان، وكان هذا قد سمع حديث زكريا وما يتخلله من كلام البطريرك ميخائيل، وأنه لا يرى ملك النوبة في إخراج مصر من حكم المسلمين إلى حكم الروم، ففترت همته عن الذهاب إليه ولكنه أراد التثبت فقال: «حقا، لقد قاسيت كثيرا في ذهابك إلى دير أبي مقار. هل البطريرك هناك الآن؟»
قال: «سمعت أنه قادم إلى الفسطاط ليجتمع بصاحب مصر.»
قال: «ألا يزال كتابه إلى ملك النوبة معك؟»
قال: «في الحقيبة (الكيس) معه الأسطوانة.»
قالت دميانة: «أراك كثير العناية بهذه الأسطوانة حتى عرضت نفسك للخطر من أجلها! فأي شيء فيها؟»
قال: «ستعلمين بعد حين.»
وظلوا في الحديث حتى وصلوا إلى جسر الجيزة، فعبروه إلى الروضة ومنها إلى ضاحية الفسطاط عند بابلون قرب دير المعلقة، فلما صاروا هناك قال زكريا: «لا بد من رجوعي إلى السجن الآن، فأين تمكثان لأراكما إذا خرجت؟»
قالت دميانة: «أنا أفضل النزول في هذا الدير.»
قال: «لا أرى ذلك؛ فإن أهله يعرفونك، فأخاف أن ينقلوا خبرك إلى الأسقف المعهود أو أبيك أو إسطفانوس فيسعون في ضررنا، والأوفق أن تنزلا في كنيسة بابلون إلى أن آتيكما.»
كشف السر
كان زكريا عقب سجنه قد أرسل إلى سعيد يطلب منه أن يوافيه لأمر ذي بال، فلما جاءه أطلعه على ما وقع له، وأنه وضع الكتاب الذي جاء به من البطريرك إلى ملك النوبة مع الأسطوانة في مدخل باب الهرم الكبير، وأن لهذه الأسطوانة شأنا مهما يختص بدميانة، فأجمعا أمرهما على أن يستأذن له سعيد السجان ليذهب سرا إلى الهرم، فيأتي بالأسطوانة ويودعها عند سعيد ويرجع إلى السجن، وتم ذلك بما لسعيد من النفوذ في الدولة، وعاد زكريا بوديعته من الهرم وقصد إلى منزل سعيد رأسا بعد توديعه دميانة وسمعان، فدخل عليه فوجده في انتظاره وقد استبطأه فأخذ يسأله عن السبب في الإبطاء وزكريا يتلعثم ولا يعرف كيف يبدأ الحديث لفرط لهفته، وكان السرور باديا في حركاته وسكناته، وقد ذهبت الغمة التي كانت تغلبت عليه، فلم يكد يأخذ مقعده حتى ابتدره سعيد وقال: «لقد أبطأت وأنت تعلم أني ضمنت للسجان رجوعك عند العشاء، وها قد انتصف الليل، ولا يخفى عليك أن الشكوك محيطة بنا من كل ناحية.»
وكان زكريا يسمع ويضحك كأنه لا يبالي ما يحدق به من الخطر، فاستغرب سعيد استخفافه فقال: «ما بالك تستخف بما أقول؟ هل أسكرك عثورك على الأسطوانة؟»
قال: «لا، لا، ليس الأسطوانة بل دميانة ...»
فأجفل وصاح فيه: «دميانة! دميانة! ماذا تعني؟ ما بالها؟ أين هي؟»
قال: «دميانة هنا.»
فلم يتمالك أن وقف فجأة وصرخ: «دميانة هنا؟ أين؟ أين هي؟» وهم بالخروج من الغرفة وهو يحسب دميانة في الدار، فاستوقفه زكريا وقال: «ليست في المنزل هنا، وإنما هي في البلد، هي قريبة جدا من هذا المكان، دعنا منها الآن.»
فنظر إليه، وأخذ يحدق في وجهه - وقد ظنه يمزح - وقال: «قل الصحيح يا زكريا، أين دميانة؟»
قال: «قلت لك إنها قريبة من هذا المكان، ولكن لا سبيل إليها الآن، ولا تلبث أن تأتي.»
قال: «وأين هي الآن؟»
فنظر إليه جادا، وقال: «اصبر يا سيدي حتى أخرج من السجن، وعند ذلك أجمعك بدميانة ، وهذه هي الأسطوانة.» وأخرج الكيس من تحت إبطه، ثم أخرج منه الأسطوانة والكتاب، وقال: «هذه الأسطوانة التي أخبرتك عنها، وهذا هو كتاب البطريرك ميخائيل إلى الملك النوبة، فاحتفظ بهما.»
فتناول سعيد الأسطوانة وأخذ يقلبها بيده، وهي مختومة، وتناول الكتاب، وبينما هو يقلبه سمع دبدبة في صحن منزله وعلا صياح الخدم يستغيثون، فخرج ليعلم السبب، فرأى شرذمة من الجند دخلوا المنزل، وقال رئيسهم: «هذا هو اللص، أمسكوه.» وأشار إلى زكريا وأكب على الأسطوانة وأراد أن يخطفها من يد سعيد، وقال: «وهذه هي الأوراق المسروقة.» فقبض سعيد على الأسطوانة وجذبها إليه. وعرف أن الرجل الذي يكلمه إسطفانوس فانتهره قائلا: «اذهب في سبيلك يا غلام وقف عند حدك.»
فصاح أحد الجنود قائلا: «أتينا بأمر الوالي للقبض على هذا السجين الهارب وما معه، وهذه الأسطوانة وهذا الكتاب كانا معه، فينبغي أن نأخذهما ونأخذه إلى السجن، وفي صباح الغد ينظر الوالي في أمره.»
فقال سعيد: «خذوا الرجل إلى سجنه، وأما هذه الأشياء فتبقى عندي حتى أضعها بين يدي الوالي أو القاضي.»
فصاح إسطفانوس: «بل نأخذها الآن وإن أبيت وعصيت فإن هذا الجند يأخذونك أنت أيضا إلى السجن؛ فقد تواطأت مع السارق على الخروج من السجن، وساعدته على إخفاء السرقة.»
وقبل أن يتم كلامه رفسه سعيد فألقاه في الخارج وصاح برجال قصره أن يخرجوه من المنزل، والتفت إلى عريف الجند وقال: «لا يغرنك كلام هذا الغر، وأصغ إلى ما أقوله لك. كنت عازما أن أسلم السجين إليكم تأخذونه إلى سجنه، وقد رأيت الآن أن أحتفظ به عندي، فمن كان له عليه طلب فليطلبه مني.»
فتهرب العريف سعيدا، وخرج ومعه إسطفانوس يصيح ويهدد ويتوعد، ولما صار خارج البيت قال العريف: «اشهدوا أن اللص وما سرق عند صاحب هذا القصر.»
وكان مرقس قد أخبر إسطفانوس بسرقة الأسطوانة، وأفهمه أنها إذا وقعت في يد دميانة قضت على ثروته ومستقبله، فأخذ إسطفانوس يراقب حركات زكريا والذين حوله، فعلم بمجيء سعيد إليه وبالإذن في خروجه، لكنه لم يره ساعة الخروج وإنما علم أنه برح السجن على أن يعود إليه بعد أن يمر ببيت سعيد، فاستخدم اسم أبيه بغير علمه، وأعد شرذمة من الجند ترابط قرب بيت سعيد، وقال لهم: «إذا دخل زكريا المنزل فاقبضوا عليه، واتهموا سعيدا بالاشتراك معه.» وسار هو معهم؛ لعله يتمكن من خطف الأسطوانة. وقد أخرج هذا التدبير إلى حيز الفعل، لكنه لم ينجح في أخذ الأسطوانة والسجين، ورجع مخذولا يتميز غيظا، وسار توا إلى مرقس، وقص عليه ما جرى واستحثه على الشكوى من سعيد؛ لأنه خالف القوانين بإخراج اللص من السجن، ورفض تسليمه إلى الجند؛ ولأنه - فوق ذلك - تواطأ مع البطريرك ميخائيل على مساعدة ملك النوبة في إخراج مصر من أيدي المسلمين وإرجاعها إلى ملك الروم، وكتاب هذا البطريرك إلى ملك النوبة موجود مع الأسطوانة عند سعيد.
فركب مرقس في اليوم التالي إلى القطائع، وطلب الدخول على المعلم حنا كاتب المارداني والد إسطفانوس، فسلم عليه ثم قص عليه أمره، وطلب إليه أن يساعده في حمل الوالي على الاقتصاص من سعيد؛ لجرأته على إنقاذ السارق وإخفاء السرقة.
ولم يكن المعلم حنا يجهل أسباب هذه الخصومة، وكان في شاغل عنها بمنصبه وأعماله، ولم يكن ابنه إسطفانوس يجسر على مخاطبته بشأن من الشئون حتى إنه كان أول من زهد أبا دميانة في خطبتها إلى ابنه، فلما سمع شكوى مرقس قال له: «هذا القضاء أمامك، ارفع شكواك إلى القاضي، وهو ينظر فيها ولا يضيع حقك.»
فقال: «ربما انحاز القاضي إلى سعيد؛ لأنه حائز على رضى الوالي اليوم، فلا ينصفنا.»
قال: «القاضي غير متهم في ذمته، فإذا كانت دعواك حقا نلت حقك.» قال ذلك وحول وجهه؛ يتظاهر بالاهتمام بأمور أخرى.
فقال مرقس: «قد لا تهمك هذه الشئون ظنا منك أنها خاصة بنا. ولكن سعيدا وزكريا يتآمران بدولة المسلمين يساعدان البطريرك ميخائيل في إرسال كتبه إلى ملك النوبة لقلب الدولة وإعادة البلاد إلى ملك الروم، وقد وقف الجند على كتاب معهما من البطريرك إلى ملك النوبة، فأبى سعيد تسليم الكتاب وقال إنه عنده مع الأسطوانة، يقدمهما عند الحاجة.»
فمل المعلم حنا الحديث، وقد ساءه سعي مرقس في هذه الوشايات، لكنه استنكف أن يقول له ذلك في وجهه، فتلطف، وقال: «إذا كان لديك مثل هذه الأدلة، فقدمها للقاضي.»
فخرج مرقس، ولقيه إسطفانوس، فخجل أن يعترف بما ناله من الفشل؛ لاستخفاف المعلم حنا بأقواله فقال: «إن أباك أشار علي بإقامة الدعوى.»
فقال: «نعم الرأي، وها أنا ذا ذاهب لأشكوه.» وكان إسطفانوس مسموع الكلمة عند أرباب المناصب إكراما لوالده، فرفع الدعوى إلى القاضي باسم مرقس مدعيا أن الخادم زكريا الذي كان قد سجن لسرقة بيت سيده خرج من السجن خلسة بمساعدة سعيد المهندس الفرغاني، ولما ذهب الجند للقبض عليه طردهم سعيد وأهانهم، ولم يسلم السارق.
فلما طلب من القاضي النظر في هذه الدعوى دعا هذا المتهمين، فجاء سعيد وقال: «إني أطلب أن تنظر دعوانا أمام الوالي نفسه؛ لأن المسألة ذات شأن» •••
لم يسع القاضي الامتناع، فرفع الأمر إلى ابن طولون، فطلب هذا حضور الجميع في غرفة خاصة من قصره، فحضر مرقس وزكريا وسعيد، فأمرهم بالجلوس وهو يتفرس في وجوههم، فتذكر أنه رأى زكريا مرة قبل هذه، فسألهم: بأي لسان تتداعون؟» فقالوا: «بالعربية فإننا نفهمها جميعا.» فقال: «من منكم المدعي؟» فوقف مرقس وقال: «أنا يا مولاي.»
قال: «وما دعواك؟»
قال: «دعواي على هذا النوبي، فقد عرفت عنه انه تآمر على سلامة ولي أمير المؤمنين مولانا الأمير مع هذا المهندس الفرغاني.»
فالتفت ابن طولون إلى سعيد، وتفرس فيه كأنه يعاتبه فرآه مطمئن البال لم يتغير، فأمر ابن طولون كاتبه أن يدون دعوى المعلم مرقس، ثم قال له: «اشرح لنا أولا دعواك على هذا الرجل.» وأشار إلى زكريا.
قال: «إنه كان خادما في منزلي، فاختلس أثناء غيابي عن طاء النمل كثيرا من نقودي وأوراقي، ومن بينها أسطوانة فيها أوراق مختومة لا يجوز فتحها.»
فالتفت ابن طولون إلى زكريا، فرآه مطرقا متأدبا، فقال: «ما تقول يا رجل؟»
قال: «أنا أعترف يا مولاي أني سرقت من منزله هذه الأسطوانة - وأخرجها من جيبه - ولم أسرق شيئا آخر، ولا أظنه يستطيع إثبات السرقة علي.»
فلما رأى مرقس الأسطوانة في يد زكريا تقدم ومد يده ليأخذها منه، فامتنع زكريا ودفعها إلى ابن طولون، وقال: «إن لهذه الأسطوانة حديثا سنصل إليه في أثناء الدفاع، فلتبق مع مولانا الأمير.»
فرجع مرقس مدحورا وازداد حنقا فقال ابن طولون: «وماذا تعلم من دسائس هذا النوبي علينا؟»
قال: «لما سرق الأسطوانة وغيرها من منزلي فر إلى دير أبي مقار فأرسلت في أثره رجلا تعقبه، فعلم أنه حمل كتابا من البطريرك ميخائيل إلى ملك النوبة؛ جوابا على كتاب جاء من ذاك يحرضه فيه على السعي في إخراج مصر من حكم المسلمين وإرجاعها إلى ملك الروم.»
فلما سمع ابن طولون الشكوى مال إلى تصديقها؛ لأنه كان قد سمع بشيء من هذه الوقائع من قبل، فأراد أن يكون نقاشها بحضور البطريرك نفسه، فقال: «علمت أن البطريرك ميخائيل جاء الفسطاط بالأمس والأولى بنا إحضاره؛ ليكون الكلام في وجهه.» وصفق فجاء غلام أمره أن يدعو البطريرك ميخائيل إلى الجلسة لتأدية الشهادة.
فتقدم زكريا عند ذلك، وقال: «لا يزال بعض المدعى عليهم غائبين، فإذا رأى مولانا أن يستقدم الباقين فعل.»
قال: «ومن أيضا؟»
قال: «ابنة المعلم مرقس هذا فإنها شريكة في سرقة الأسطوانة.»
فقال: «من يحضرها؟»
قال: «أنا أحضرها.»
فوقع الكلام وقع السهام في قلب مرقس فأراد أن يعارض في إحضارها فقال: «لا يا سيدي إذا ذهب لا يرجع فإنه سريع الهرب.»
قال زكريا: «يرسل مولاي من يشاء من الجند معي حتى أعود؛ فإن الفتاة على مقربة من هذا المكان.»
فأمر ابن طولون بعض الحراس أن يذهبوا مع زكريا ويعودوا به، ومكث الأمير وسعيد ومرقس في انتظار مجيء البطريرك ودميانة. وشغل ذهن ابن طولون بما سمعه من اشتراك سعيد في الدسائس على الدولة، فنظر إليه وقال: «سعيد! ألم نرفع قدرك ونجعلك من خاصتنا؟»
قال: «ومن ينكر ذلك؟ إني غارق في نعم مولاي الأمير، وحاش لله أن أسعى في غير خدمته.»
قال: «فالمعلم مرقس كاذب فيما يقول ؟»
قال: «سيظهر ذلك قريبا يا سيدي. وهذا هو الكتاب الذي يزعم أن زكريا حمله من البطريرك ميخائيل إلى ملك النوبة.»
قال ذلك ودفع الكتاب مختوما إلى ابن طولون، فوضعه بين يديه بجانب الأسطوانة، وأجل فضه حتى يحضر البطريرك.
وبعد قليل جاء الحاجب يقول: «إن البطريرك بالباب.» فأمر ابن طولون بدخوله، فدخل وعليه لباسه الرسمي وقد بدت الدهشة في وجهه، فوقف له الحضور وابن طولون أيضا ودعاه إلى الجلوس على كرسي بجانبه، فجلس وأول ما وقع بصره عليه كتابه إلى ملك النوبة بين يدي ابن طولون، استغرب ذلك والتفت فوجد المعلم مرقس، وكان يعرفه ويعرف قصة ابنته مع إسطفانوس وكذلك سعيدا.
ولم يكد يستقر به المقام حتى دخل الآذن ينبئ بمجيء زكريا ودميانة، فدخلا وفي أثرهما سمعان النوبي، فوقف في بعض أطراف القاعة. فلما وقع نظر البطريرك على زكريا ودميانة أدرك الغرض من حضوره، فوجه ابن طولون كلامه إلى البطريرك أولا لعظم شأن تهمته، وقال: «أليس هذا الكتاب منك؟» وأراه الكتاب وقال: «بلى.»
قال: «أليس خاتمك عليه؟»
قال: «بلى يا سيدي.»
قال: «وأرسلته إلى ملك النوبة، وحدثته فيه عن إخراج هذه البلاد من حوزة المسلمين؟»
قال: «نعم يا سيدي.»
قال: «أبلغ، من أمرك أن تتواطأ مع عدونا علينا؟»
فتبسم البطريرك وقال: «إن الأمير يتهمني بما سمعه من الوشاة، وهم - لسوء الحظ - من أبنائي ورعيتي. فقد قالوا إني خائن وإني أتآمر بك وأدس الدسائس، وقد استولوا على كتابي هذا على غير علم مني فما على الأمير إلا أن يفضه ويأمر بتلاوته، فيعرف الحقيقة، فإن كنت خائنا فقد حق علي ما ضربتموه من الأموال التي أثقلت كاهلي، وإن أكن بريئا فالأمر مفوض للأمير.» قال ذلك وقد بدا التأثر في عينيه وفي كل كيانه.
فقال ابن طولون: «صدقت. وأشار إلى الكاتب بين يديه، وقال: «أنت تقرأ القبطية؟»
فوقف الكاتب، وقال: «نعم يا سيدي.»
فدفع إليه الكتاب، ففضه، وأخذ يقرؤه ويترجمه والكل ساكتون يسمعون، وهذا فحواه:
ولدنا بالروح (فيرفي) ملك النوبة
جاءنا منك كتب غير قليلة تدعونا فيها إلى خلع طاعة حكامنا المسلمين والرجوع إلى سلطان الروم، ولو كان خيرا من سواهم لما خرجنا من طاعتهم ورضينا أن يحكمنا غيرهم، وهؤلاء العرب قد تعودناهم وتعودونا، وهم خير لنا من أولئك، ولا أنكر أن بعض الولاة المسلمين كانوا أهل ظلم وقسوة، ساموا أبناءنا الأقباط العذاب، ولكنهم على الإجمال أهل عدل ورفق، وأخص أميرنا الحالي أحمد بن طولون؛ فإنه ما انفك منذ تولى مصر يرفع المظالم ويكف الأذى عن طائفتنا، على أنك لو تدبرت ما لحقنا من الأذى على عهد هؤلاء العرب؛ لوجدت الحق علينا نحن، لفساد نياتنا وانقسامنا فيما بيننا، إذ يتهم بعضنا بعضا ويشي بعضنا ببعض الضغائن في الصدور. وأقرب شاهد على ذلك ما وقع لنا، فإن بعض الأساقفة قصر في واجبات الكنيسة، فحرمته فحقد علي ووشى بي إلى الوالي زاعما أني صاحب مال كثير، وأشار عليه أن يطالبني بأموال تلزمني للدولة، فضربوا علي ضرائب يعلم السيد المسيح أني عاجز عن نصفها وربعها، ولكن الوالي لا يصدق قولي. هذا مثل ضربته لك فاعتبر به. ورأيي أن نقنع بالرضوخ لحكامنا هؤلاء، فهم خير لنا من سواهم، وإذا وجدنا في بعضهم عيبا فقد كان في ولاة الروم قبلهم ما هو شر وأدهى. وفي الختام أهديك البركة والدعاء ونطلب إلى المولى أن يصلح نياتنا ويجمع قلوبنا فنحسن معاملة حكامنا لنا، والسلام.
كان الكاتب يقرأ ويترجم والحضور يسمعون والبطريرك مطرق ينتظر النتيجة. ولم يأت الكاتب على آخر الكتاب حتى انبسط وجه ابن طولون بعد أن كان منقبضا، فالتفت إلى البطريرك وقال: «لقد أسأنا عشرتك وسمعنا الوشاية فيك. والله لو كان كل أبناء طائفتك على رأيك لكانوا أسعد حالا وأنعم بالا، فوجب علينا التخفيف عنك، وقد أتت هذه الشكوى لك لا عليك.»
قال: «هذه إرادة الرب.»
فالتفت ابن طولون إلى مرقس، وقال: «هذه دعواك يا معلم مرقس قد سقطت، فأين هي الأخرى.»
فوقع مرقس في حيرة، ثم أراد أن يحتال لإيقاع زكريا، فقال: «إن أبانا البطريرك قد تبرأ بنص كتابه ولكن حامل الكتاب لا يبرأ؛ لأنه حمل الكتاب إلى ملك النوبة، وهو يظن فيه تآمرا، وقبل أن يكون وسيطا فيه. وما كان يسعى له أن يحمله، ولكنه نوبي يخدم مصلحة ملكه، ولو علم أن الكتاب بالمعنى الذي سمعنا لم يحمله.»
فقال ابن طولون: «الواقع أن الكتاب واضح المعنى والمبني، وليس في حمله إلا خدمة لحكومة المسلمين، جزاه الله عنا خيرا. والآن ننتقل إلى دعواك الأخرى، ولا بأس من بيانها بحضور البطريرك.»
فقال زكريا: «بل حضور غبطته ضروري.»
فتغيرت سحنة مرقس وبدا الاضطراب عليه، وتلعثم لسانه والحضور يتسمعون لسماع دعواه، ولما أبطأ تقدم زكريا، فقال: «أستأذن سيدي الأمير في أن أنوب عن المعلم مرقس في الكلام.»
فقطع مرقس كلامه قائلا: «من أنابك عني؟ أنا أتكلم عن نفسي.»
فسكت زكريا وتراجع ودميانة واقفة وقلبها يخفق؛ شفقة على أبيها وطال سكوت مرقس فقال زكريا: «للمعلم مرقس شريك في الدعوى فليأمر الأمير بإحضاره.»
قال: «من هو؟»
قال: «إسطفانوس ابن المعلم حنا كاتب الخراج.»
فأمر ابن طولون بإحضاره، فجاءوا به، وأوقفوه بجانب المعلم مرقس، ولم يفتح عليه هو أيضا بالكلام، واعتذر بألم أصابه يمنعه من التكلم، فأمر ابن طولون بإجلاسه والتفت إلى زكريا وقال: «قل يا أسمر ما تعرف من أمر هذه القضية؟»
فتقدم زكريا وأخذ الأسطوانة بيده، وقال: «إن الخصام كله على ما في هذه الأسطوانة، وهي رق مكتوب لمصلحة هذه العذراء الطاهرة ابنة المعلم مرقس، فقد ماتت والدتها وهي طفلة، وكانت لها مربية، وأظنكم تعرفونها وهي مارية القبطية صاحبة قرية طاء النمل التي مر بها الخليفة المأمون عند زيارته مصر، وبالغت في إكرامه، وكان المأمون لما شرفها بالضيافة قد أهدى إليها بعض الجواري والخصيان وأنا منهم، فقد كنت خصيا حملت إليه هدية من ملك النوبة مع خصيان آخرين. وربيت في منزلها وكان اسمي إبراهيم، فسمتني زكريا، فلما ولدت امرأة المعلم مرقس هذه الفتاة سمتها دميانة باسم القديسة دميانة، وكانت مارية - قدس الله روحها - تعرف سفه هذا المعلم وفسقه، فأرادت أن تضمن لابنته الصغيرة مستقبلها فوهبتها قرية طاء النمل وقرى أخرى بقربها، وكتبت بذلك صكا مسجلا حفظته في هذه الأسطوانة.» قال ذلك واستأذن ابن طولون في فض الختم، فأذن له ففضه وأخرج رقا مكتوبا بالقبطية دفعه إلى الكاتب وطلب إليه أن يترجمه إلى العربية وكان فيه ما يلي:
إن مارية القبطية وهبت ابنتها بالروح دميانة بنت المعلم مرقس قريتها طاء النمل كلها وما يلحقها من المغارس، وتدار هذه القرية بإرشاد أبيها، ولا يحق له أن يتصرف فيها، فإذا بلغت ابنته رشدها وتزوجت؛ آلت إدارتها إليها، ورفعت يد أبيها عنها ... إلخ.
وكان الحضور يسمعون ما يتلوه الكاتب وعيونهم على مرقس، وهو مطرق والعرق يتقطر من وجهه، وصدره يعلو ويهبط من عبر تنفسه فلما فرغ الكاتب من القراءة قال ابن طولون: «ألا يوجد شهود؟»
قال الكاتب: «نعم يا سيدي، إني أقرأ اسمي ميخائيل ومنقريوس.»
فقال البطريرك: «إن ميخائيل اسمي وكنت لا أزال أسقفا، وأشهد أن مارية القبطية وهبت الفتاة تلك القرية. وأما منقريوس، فإنه قسيس طاء النمل وهو مقيم هناك حتى الساعة.»
فقال ابن طولون: «نكتفي بشهادتك.» والتفت إلى زكريا، وقال: «هل فرغت من حديثك يا أسمر؟»
قال: «كلا يا سيدي؟ لا أزال في أول الحديث، فهل أتمه؟»
وكان ابن طولون قد توسم الصدق في لهجته فقال له: «أتمه.»
قال: «ولرغبة مارية في رعاية هذه الفتاة وهبتني لها، وأمرتني أن أبقى في خدمتها حتى تشب وتتزوج، فأطعتها ولازمت البنت من طفولتها، ولا أزال إلى الآن، وسأبقى ما دمت حيا. فنشأت البنت في كنف تربية حسنة غرستها فيها والدتها - رحمها الله - فإنها كانت تقية طيبة العنصر. فنشأت ابنتها مثلها تحب الصلاة والعبادة، وفيها ميل إلى البر والإحسان، وبلغت هذه السن ولم تعلم بما في هذه الأسطوانة؛ لأن أباها كان يبالغ في إخفائها عنها وأنا صابر عليه؛ لعله يرعوي. فرأيته بعد أن ماتت زوجته أم دميانة قد عكف على التسري واقتناء الجواري وتعاطي المسكر والانغماس في القصف واللهو، والبنت تكره ذلك فيه وهو لا يلتفت إليها. وأخيرا أراد أن يزوجها بشاب على شاكلته هو هذا الواقف أمامكم - وأشار إلى إسطفانوس - تقربا لأبيه مع أن أباه تبرأ منه، فتواطأ مع إسطفانوس على إخفاء أمر الوصية والتمتع بالأموال، وكلاهما سكير فاسق.»
فلما وصل إلى ذلك تنفس الصعداء ليستريح، ثم تحول إلى سعيد فأمسكه بيده، وأتم حديثه قائلا: «وأما الفتاة فعرفت هذا الشهم ولا أزيدكم تعريفا بمناقبه، وكان مقيما عند جارهم أبي الحسن البغدادي وتواعدا على الاقتران، وكان هو يعمل في حفر العين بالمغافر. فعلم إسطفانوس بذلك وخاف إذا نجح سعيد في حفر العين أن يعظم في عيني الأمير ويأخذ دميانة، فكاد له كيدا لا يرتكبه أعظم الأشرار. أوصى بعض رجاله بأن يضع قصرية الجير في المكان الذي يعلمه الأمير حتى حدث ما حدث من إجفال جواده ووقوعه، وظن يومئذ مولاي أن ذلك من تقصير سعيد، فأمر بضربه وسجنه، ثم أطلق سراحه لأجل بناء الجامع. ولعل الأمير يذكر أني ذكرت له اسم سعيد وأنه أقدر من يبني الجامع على ما يريده مولاي.»
فهز ابن طولون رأسه موافقا.
فعاد زكريا إلى الكلام قائلا: «وبعد أن أوقعوا سعيدا في الفخ أرادوا إكراه الفتاة على الزواج بإسطفانوس، ولم يطعني ضميري على ذلك - وأنا عالم بالحقيقة - ففررت بها فخبأتها في حلوان وذهبت وأخذت هذه الأسطوانة لأطالب بحق الفتاة، ولما رجعت إلى حلوان رأيت الفتاة قد أخذها البجة سبية، فرأيت أن أوسط أبانا البطريرك في استنجاد ملك النوبة على البجة، فسرت إليه في دير أبي مقار، فأعطاني هذا الكتاب وفي ذيله توصية بي لملك البجة. فحملتها وكان يتعقبني جاسوس أرسله هذا المعلم في أثري - كما قال - وأنا لا أدري، ولما وصلت إلى الأهرام جاء برجاله للقبض علي، فلما تحققت وقوعي في قبضتهم أخفيت الأسطوانة والكتب في مدخل الأهرام، وقبضوا علي وسجنوني، ثم احتلت على الخروج بوساطة مولاي سعيد المهندس؛ لآتي بالكيس، فعثرت على مولاتي دميانة ومعها هذا النوبي (وأشار إلى سمعان) وهو الذي جاء بها من بلاد البجة. وعلم هؤلاء بخروجي فاحتالوا ليأخذوا الأسطوانة فلم يفلحوا ، وأرادوا الشر فعاد عليهم. وأنا لا أرب لي في كل ما تقدم إلا القيام بالمهمة التي عهدت بها إلى السيدة مارية، فقد تعهدت أن أخدم هذه الفتاة وأرعى مصلحتها، وقد بذلت جهدي في ذلك والأمر لمولانا.»
قال ذلك وتراجع ووقف والجميع سكوت كأن على رءوسهم الطير، ينتظرون ما يصدر من الحكم، فإذا ابن طولون يقول: «إن حديثك يا أسمر مع طوله لا يمل، لقد كشفت عن خفايا كثيرة.» والتفت إلى مرقس وإسطفانوس وقال: «هل لديكما ما تدفعان به عن نفسيكما؟»
وكان مرقس مطرقا يكاد يذوب خجلا، وقد ارتج عليه أما إسطفانوس فعظم عليه السكوت، فقال: «إن التهمة التي وجهها إلي هذا النوبي لا دليل على صحتها، وكيف يتأتى لي أن أدس قصرية الجير؟»
فتقدم زكريا وقال: «أنا لا أقول إني نظرتك تفعل ذلك، ولكنني أستدل من قرائن كثيرة أنك أنت الفاعل.»
فقطع ابن طولون كلامه قائلا: «أنا أيضا أؤيد هذا القول بدليل تذكرته الآن، هو أن بعض الناس من أبناء طائفتك - ولعلهم من ذوي قرباك - كانوا يقبحون عمل هذا المهندس لدي ويبغضونه إلي بكل وسيلة، وأنا أسمع لهم معتقدا إخلاصهم، فلما كنا جوادي في قصرية الجير، وذكروا أن سعيدا فعل ذلك متعمدا ليقتلني، فصدقتهم، وإنني أشكر زكريا؛ لأنه كان الوسيلة إلى إخراجه من السجن وإلى إرشادي إلى مقدرته في فن الهندسة - لله درك من خادم أمين نصوح.»
وكان البطريرك مصغيا فلما سمع قول ابن طولون هز رأسه متعجبا وهو يمشط لحيته بأنامله وقال: «سبحان الله! إن الضرر لا يأتينا إلا منا؛ يسيء بعضنا إلى بعض ويفسد بعضنا أعمال بعض.»
فصاح إسطفانوس: «إن هذا الشاب - وأشار إلى سعيد - لطمني ورماني في صحن الكنيسة ليلة الاحتفال بعيد الشهيد، فأغضيت عنه، ولم أرد أذيته، فكيف أسعى ضده؟»
فقال زكريا: «أغضيت عن عجز، ولو استطعت قتله ما تأخرت، ولكنك جبان خسيس.»
فصرخ إسطفانوس: «أتهينني في حضرة الأمير؟»
فأشار ابن طولون فسكتا، وقال: «إن ادعاءك أن سعيدا ضربك مع ما ظهر منك لنا من أخلاقك ؛ يؤكد لنا أنك تعمدت أذاه بوضع قصرية الجير.»
زواج الحبيبين
كان مرقس يسمع ما يقولون، ويترقب فرصة تخوله الكلام؛ ليغطي خجله، فلما رأى التهمة تثبت على إسطفانوس وجه كلامه إليه، وقال: «اسكت يا إسطفانوس؛ فإنك حقا لئيم الطبع، قد خدعتني كما خدعت سواي، فأنا أشهد أنك تعمدت أذى جارنا وولدنا سعيد. أردت أن تتخلص منه لتبقي دميانة لك. هذا هو الصحيح.»
فلما سمع إسطفانوس هذه الشهادة عليه من زميله وصديقه وشريكه في سيئاته حمي غضبه، وقال له: «أتقول هذا وأنت الذي أغريتني به؟ وكم حببت إلي الزواج بابنتك وأنا أجيبك أنها لا تحبني، فأبيت وأصررت على أن أتزوجها لا لسبب غير طمعك في مالها؟»
فقال مرقس: «هذا غير صحيح ...» وضحك ضحكة استخفاف. وقال: «طمعا في مالها؟ أليس مالها ومالي سواء؟»
قال: «أوتضحك أيضا، وتقول إن مالك ومالها سواء؟ ألم تخبرني بهذه الوصية وتتفق معي على أن نكون شركاء في إرث الفتاة وهي لا تعلم؟ أنت أغريتني وغششتني، فأنت وحدك سبب هذا الشقاء. لتتمتع بالملذات والشهوات.» قال ذلك وقد بح صوته وخرج عن طور العقل لشدة الغضب.
فانتهره ابن طولون قائلا: «يكفي، قد عرفناكما وعرفنا فضل مهندسنا الحكيم، وسنرفع منزلته ونعوضه عما لحقه من الأذى بسبب تلك الوشاية، وسنزف إليه عروسه على نفقتنا باحتفال ينسيها ما قاسياه ويتولى عقد الإكليل غبطة البطريرك الجليل.» قال ذلك ونظر إلى دميانة وكانت جالسة على مقعد بالقرب من زكريا تسمع ما يدور من الأحاديث ولا تفهم إلا نتفا قليلة لجهلها اللغة العربية. فكان زكريا يترجم لها باختصار. على أن اشتغال قلبها بسعيد وتتبعها حركاته وسكناته كانا يشغلانها عن سماع كل شيء. إذ مضت عليها مدة وهي لم تره. واتفق أنها رأته للمرة الأولى في تلك الجلسة فاضطرت إلى أن تغالب عواطفها وتصبر على نفسها إلى آخر الجلسة. وقد أهمها من الجهة الأخرى الاطلاع على ما كان محدقا بها من الأسرار ولا سيما مسألة الأسطوانة وما فيها. فلما اطلعت على فحواها طار قلبها من الفرح ولا سيما حين سمعت ما قاله ابن طولون لخطيبها وأنه سيرفع قدره وينفق على العرس من ماله. فإن ذلك فوق ما كانت تتمناه.
على أن غضب ابن طولون على أبيها نغص عيشها، وكدرها وزادها حزنا وأسفا ما شاهدته في أبيها من الانكسار والتذلل بعد ظهور جرمه. ونسيت ما قاسته من استبداده وعنفه، وما أراده من ضياع حقها. فلما قال ابن طولون ما قاله ووجه خطابه إليها بغتت وهي تحدث نفسها بتلك الأمور، والتفتت إلى أبيها فرأته ينظر إليها بعين الحزين الذليل، فنهضت وتقدمت خطوتين حتى وقفت ووجهت كلامها إلى الأمير وتكلمت بالقبطية قائلة:
إني لا أستطيع التعبير عن أفكاري بالعربية، فأقولها بالقبطية وأتقدم إلى أبينا البطريرك أن ينقلها إليكم بالعربية، لقد غمرتنا أيها الأمير بفضلك وأنا شاهدت العصي تتساقط على سعيد - وأشارت إليه - شاهدتها بعيني ولم يخطر لي أن أضع الحق عليك، وقد علمت من ذلك اليوم أنها دسيسة، إنك أيها الأمير أتيت نعمة لبلادنا كما قال أبونا البطريرك وأحمد الله؛ لأنه أظهر الحق على يد العم زكريا، فإن لهذا العم الطيب القلب فضلا كبيرا في كشف هذه الأسرار، وقد فعل ذلك لا لمطمع غير القيام بوعده ونصرة الحق.
وظهرت دمعتان في عينيها، وأشارت بيدها إلى أبيها وقالت: «نعم إن أبي قد أساء إلي، ولا أدري أكان ذلك من تلقاء نفسه أو بإغراء من سواه، فمهما يكن فإني أتقدم إلى مولاي الأمير بأن يعفو عنه؛ فإني لا أكون سعيدة إن لم يكن والدي أيضا سعيدا.»
فترجم البطريرك كلامها. أما والدها فلما سمع قولها غلب عليه البكاء لفرط ندمه، وقال لها: «لقد جمعت نارا على رأسي، إني قد أسأت إليك من كل وجه، ولا شك أن عنصرك أطيب من عنصري؛ فقد كنت أريد أن أكون سعيدا ولو شقيت أنت، أما أنت فتقولين إنك لا تسعدين إن لم يكن أبوك سعيدا، فاصفحي عن ذنوبي، وها أنا ذا أشهد الأمير وسائر الحاضرين على أني سأرجع عن كل ما يغضبك في سلوكي، وأكون طوع إرادتك ؛ لأنك أقرب مني إلى الرشاد وأدنى إلى الصواب.»
فلما رأى إسطفانوس ما جرى صاح: «وأنا يا دميانة، وأنا؟»
قالت: «إني أترك أمرك إلى سعيد؛ فإنه صاحب الشأن معك.»
فتقدم سعيد وقال: «إذا جاز لي يا مولاي أن أتكلم فإني ألتمس من مولاي أن يصفح عن إسطفانوس؛ فإنه فعل ما فعل بدافع الضعف الإنساني، ولا يجديني أن أراه يذوق العذاب ولا سيما وقد ظهر عليه الندم.»
فقال إسطفانوس: «نعم ندمت ومن ذا الذي يرى هذه الأخلاق العالية وهذه الصدور الرحبة ولا يندم؟ إني أحب أن أكون من أحقر أصدقائك.»
فقال: «دعنا من الصداقة، فقد صفحت عنك والسلام.»
فأشار ابن طولون إشارة سكت لها الجميع وأصغوا لما يقول فقال: «يسرني أنكم تصالحتم وسأؤيد هذا الصلح لاحتفال العرس الذي سأقيمه بعد قليل بحضور الأب البطريرك.»
وفهم الحضور أنه يريد الانصراف فنهضوا وإذا بصوت خرج من طرف القاعة، فالتفت الجميع فرأوا سمعان النوبي، وكان واقفا يسمع ما يقال، فلما سمع ما قاله زكريا عن أصله وأنه كان من جملة هدية ملك النوبة للمأمون؛ علم أنه أخوه الضائع وأحب أن يتصدى للكرم فلم يسعفه المقام، فظل صابرا حتى فرغ القوم من المحاكمة، فتقدم وقال: «يأذن لي الأمير في كلمة، إني رسول ملك النوبة إلى البطريرك؛ لأحضه على ما حضه عليه سواي من قبل، أما بعد أن شاهدت من عدلك وعظيم خلقك ما شاهدت؛ فإني أرى غير رأي ملك النوبة، وأنا عائد إليه لأثنيه عن عزمه، وأعيد العلاقة بينه وبين المسلمين إلى خير ما تكون.»
فقال ابن طولون غير مكترث: «لك ذلك.» وتحول، وخرج من باب خاص في تلك القاعة، وبقي الحضور يتصافحون ويتصالحون والبطريرك يباركهم ويخفف عنهم فقبلت دميانة يد أبيها، فقبلها هو وبكى، ووعدها بأن يخرج من في منزله من السراري والجواري وأن يعيش لله ولها ويكون طوع إرادتها، وتقدم إسطفانوس إلى سعيد يستغفر ذنبه ويصالحه، فقال له: «ليس في نفسي شيء منك، وقد صفحت عما فعلته، لكنني لا أميل إلى مصادقتك؛ لأن من كان لا يغضب لنفسه ولا يحفظ كرامتها لا يليق بالصداقة.»
فلما سمع إسطفانوس قوله كاد يذوب من الخجل، وتحول، وخرج وهو يبكي، فأشفق سعيد عليه وقال له: «إذا شئت أن نكون أصدقاء فأصغ لما يقوله أبوك؛ فإنه أطيب الناس قلبا وأحسنهم خلقا، فإذا عملت برأيه كنت من أصدقائنا.»
وأما سمعان فأكب على زكريا، وجعل يقبله ويقول له: «أخي إبراهيم! إبراهيم»
فبغت زكريا والتفت إلى سمعان وتفرس فيه وقال: «أخي سمعان، أخي حقيقة!» وتعانقا.
وكان أجمل منظر بين أولئك المجتمعين وأوقعه في النفس هو اجتماع سعيد بدميانة، فقد تخاطبا وتشاكيا طويلا بلسان لا يفهمه سواهما، أعني: لسان العيون فضلا عن الكلام، وطال وقوفهما وفرغ الآخرون من أحاديثهم وهما غارقان في حديث المحبين، فتقدم زكريا أخيرا وقال «هل تريد مولاتي أن تخرج، وإلى أين؟»
فانتبهت لنفسها، وسألت سعيدا فقال: «هل تأتون إلى قصري هنا؟» فخجلت دميانة من هذه الدعوة وأدرك زكريا خجلها فقال: «نذهب الآن إلى دير المعلقة؛ لأن سيدتي تحب الأديار، وأظن أبانا البطريرك نازلا هناك؟» فأشار البطريرك أن نعم، فقال: «فنذهب إذن إلى هناك للتبرك، وريثما يأمر الأمير بعقد الزواج فنجتمع ونقيم بقصر المهندس الفرغاني.»
فصاح أبوها: «بل نقيم بقريتها طاء النمل حيث تأمر وتنهى.»
ففرحت بكلام أبيها، ومشت هي وزكريا والبطريرك إلى دير المعلقة ومعهم سمعان، وذهب سعيد إلى قصره ومضى إسطفانوس كاسف البال إلى أبيه يستغفره ويرجو عفوه، وبقي مرقس، فقال لابنته: «هل أرافقك إلى الدير؟»
فضحكت وقالت: «إن لهذا الدير فضلا علي؛ فقد بدأت متاعبي فيه، ولكن قد مضى ما مضى، فتعال معنا؛ فأنت أبي وسيدي.» فمشى معهم واحتفلت رئيسة الدير بقدومهم.
وبعد أيام أمر ابن طولون بإعداد معدات العرس لزفاف دميانة إلى سعيد، فبعث سعيد إلى صديقه أبي الحسن البغدادي، فأتى وقد فرح بما جرى، وبعثت دميانة إلى الأب منقريوس قسيس قريتها ليفرح معها فأتى، فزينوا القطائع كلها بالأنوار والرياحين، وكان احتفالا مثل احتفالات الملوك، وظل أهل الفسطاط يتحدثون به أعواما، وسكنت دميانة مع سعيد في قصره أياما، ثم انتقلا إلى طاء النمل، وسكنا في قصر أبيها أو قصر مارية القبطية، وكان أبوها قد أخلاه من السراري والجواري وجعله لائقا بذينك العروسين الطاهرين.
وقضى مرقس بقية عمره يبذل وسعه في إرضاء ابنته وزوجها، وكان زكريا من أعظمهم سرورا بذلك، وعاش بقية عمره معززا مكرما، وأما أخوه سمعان فإنه رجع إلى بلاد النوبة؛ ليثني ملكها عن مناوأة المسلمين، فأفلح وعاد وأقام بطاء النمل، وأما الأب منقريوس - قسيس تلك القرية - فقد فرح بظهور الحق؛ لأنه كان من الذين شهدوا وصية مارية.
Página desconocida