قال الملك وقد أخذ الرضا يعود إلى قلبه، وجعل البشر يفيض من وجهه: «هذا كثير يا ابنتي! هذا أكثر مما كنت أرجو! هذا أكثر مما كنت أنتظر! هذا أكثر مما كنت أظن! إنك لتكلفيننا أعظم مما نستطيع أن نحتمل، وتتنقلين بنا بين اليأس والأمل وبين الخوف والأمن في سرعة ولباقة لا قبل لنا بهما، ولكن أبيني يا ابنتي كيف السبيل إلى أن تبلغي من خصومك ما تريدين، وهؤلاء قوادنا يريدون أن يقدموا فلا يتاح لهم الإقدام؟ لقد وقف خصمك عن الهجوم ومنعتهم أن ينالوا منا ما يحبون، فأبلغينا منهم ما نحب، وخلي بين جيوشنا وبين الهجوم، فلما أظن أنك تريدين أن تتواقف الجيوش على هذا النحو دون أن يستطيع فريق أن يبلغ من عدوه شيئا.»
قالت: «بل أنا لا أريد غير هذا يا أبت.»
ثم ابتسمت له ابتسامة ملؤها الحنان والبر وقالت: «ألم تكن تذكرني منذ حين يما يجب أن يستشعر قلبي من الرحمة والرفق، لا برعيتنا وحدها ولكن برعية هؤلاء المعتدين أيضا؟! فإن هذه الحرب، كما كنت تقول، لا تعني رعيتنا ولا رعاياهم من قريب أو بعيد؛ وإنما هي شهوة جامحة دفعتهم إلى الشر والكيد، فأردت أن ألقي شرهم بمثله، وأن أدبر لكيدهم كيدا مثله؛ فما ينبغي أن نغامر نحن ويشقى الأبرياء، وما ينبغي أن يمس رعيتنا أو رعية أعدائنا سوء، وإنما الحرب بيننا وبينهم تنافس في قوة الإرادة، وتسابق إلى الصبر على المكروه، فأينا ثبت حتى يستسلم خصمه فهو المنتصر، وأينا سئم قبل أن يسأم عدوه فهو المهزوم، وما على الرعية إلا أن تشهد هذا الصراع الذي تجري أحداثه بين سادتها وقادتها، لتعجب بهم إن شاءت، فقد يكون من بينهم من هو خليق بالإعجاب، ولتسخر منهم إن أحبت، فقد يكون من بينهم من هو جدير بالسخرية، ولكن لتأمن على أنفسها ودمائها وأموالها ومرافقها على كل حال.»
قال الملك: «مرحى يا ابنتي! ما أحسن وقع ما تقولين في نفسي! وما أحبه إلى قلبي! وما أدناه إلى المثل الأعلى الذي طالما أملته وسموت إليه دون أن أبلغه! أيمكن يا ابنتي أن تبلغيه؟! أيمكن أن تبلغيه وأنا حاضر أشهد فوز الخير على الشر وانتصار الرحمة على القسوة؟»
قالت فاتنة: «فإنك تشهد هذا كله يا أبت. لن ينالنا أعداؤنا بما نكره، ولن ننال أعداءنا بما يكرهون، ولكنهم سيفنون قوتهم في غير طائل، وسيكسرون حدتهم في غير غناء، وسيضيعون ما ادخروا من عدة وما هيئوا للحرب من أداة دون أن يحصلوا من وراء ذلك شيئا، وسيفقدون سمعتهم فيما بينهم، وسيفقدون سلطانهم على رعاياهم، وسينقلب بعضهم لبعض عدوا، وسيصبح بأسهم بينهم شديدا.»
قال أحد القواد: «ونحن أيتها الأميرة ماذا نصنع؟ وما حاجة الدولة إلينا منذ اليوم؟ وما قيمة جيوش لا تخوض غمار الحرب ولا ترد عدوان المعتدي ولا تدفع غارة المغير؟»
قالت فاتنة: «فإن الجيوش وسيلة لاتقاء الحرب لا لابتغائها، وأداة لدفع الشر لا لاجتلابه. أفإن جنبتكم الحرب وضمنت لكم السلم والعافية تضجون وتعجون؟! من شاء منكم أن يغامر فليغامر بنفسه لا بالأبرياء من جنده. أفضمنتم أن يقبل جنودكم على الحرب محبين لها راغبين فيها! ألستم تعلمون فيما بينكم وبين أنفسكم أن كل واحد منهم يؤثر أن يفرغ لحياته وعمله وأهله، وأن يأخذ نصيبه من الدنيا دون أن يعجله عنه هذا الموت الذي تقضونه عليه لا لشيء إلا لهذه المغامرة التي تجري مع دمائكم وتدفعكم إلى هذه الأهوال التي تحبونها لأنكم بمأمن من آثارها؟!»
قال القواد: «فهل نفهم من ذلك أن الأميرة تعفينا من أعبائنا، وتردنا إلى حياتنا الخاصة، وتسرح الجيوش، وتفرق الجند؟»
قالت فاتنة: «لا تفهموا من هذا شيئا، فلا أملك أن أعفي منكم أحدا، ولا أشير على الملك بأن يعفي منكم أحدا، ولا بأن يسر الجيش ولا بأن يفرق الجند؛ فالحرب محتملة دائما، والشر متوقع أبدا، وخير أن نحتاط للكوارث قبل أن تقع، فلعل ذلك أن يمنع وقوعها، فعودوا إلى مواضعكم من قيادة الجيش واثبتوا، فمن يدري؟! لعل الملك يحتاج إليكم.»
وانصرف القواد وهم إلى السخط أقرب منهم إلى الرضا، وإلى المعصية أدنى منهم إلى الطاعة. فلما تفرقوا قالت فاتنة لأبيها: «لقد انصرفوا، وإن قلوبهم لمطوية على غير الوفاء والولاء. ولكن التي عرفت كيف ترد عدوان المغير الخارجي تعرف كيف تكبح ثورة الثائرين في داخل الوطن.»
Página desconocida