وقال سباعي والفرحة تملأ عليه منافذ الهواء: على بركة الله. •••
حين خلا سباعي إلى شعبان بعد مأتم أبيه سأله شعبان عما فعله مع إخوته فأخبره، وفكر شعبان مليا، ثم قال: بعد الأربعين أريدك في أمر مهم. •••
كان شعبان إنسانا آخر غير أبيه وغير الذي عرفه فيه أبوه، فإن تكن الأرض هي كل حياة أبيه يقتل في سبيلها الناس ويعتصر دماء البشرية، فإن شعبان لم يكن يرى في الأرض إلا وسيلة تمكنه من قضاء أيامه مقلوبة، ومن أن يجعل نهاره كله سوادا؛ لأنه فيه دائما يحب أن يكون نائما ولياليه كلها بيضاء بالنور الملقى على أجساد الراقصات، وهن بعض كاسيات، أو حمراء بالضوء الشاحب الهارب في خجل من جسومهن وهن عاريات؛ تلك هي الحياة عنده، وإن كان في حياة أبيه يعاونه في الزرع ويغضي عما يفعله بالبشر، فما كان هذا منه إلا لينال ما ينفقه على صنعته الوحيدة في الحياة، وهي المتعة والمتعة المشتراة وإنها لباهظة الثمن.
وإن كان أبوه يحب أن يكون عضوا في مجلس النواب معتليا كرسيه على الرعب يثيره في الناس بالقتل والسرقة والغصب والنهب والجبروت، فإن شعبان كان ينظر إلى مجلس النواب هذا على أنه تسلية لا طائل تحتها ما دامت لياليه لا تنتهي بما تنتهي به لياليه هو. وإن كان في حياة أبيه مرغما على الزراعة والسعي في الانتخابات، فلا إرغام اليوم عليه. وقد كان شعبان في القمة من سعادته بزوجته الرضية التي لا ترى فيما يفعله من سهر أمرا غير عادي، وإنما هو مألوف ما يصنع الرجال، وما عليهم في ذلك من بأس ما داموا آخر الليل أو أول النهار ينامون في أسرة منازلهم. وكانت قد ولدت لشعبان سمية ووليد، فهي مشغولة بأبنائها والمال عندها دائما موفور بما يرسله إليها أخوها، أو يعطيه لها حين يزور مصر. وهي تشتري ما يعن لها أن تشتري، وربما كان الشيء الوحيد الذي كانت تتوق إليه هو زيارة أمريكا وأوروبا. وقد كان زوجها يعتذر عن عدم تنفيذ هذه الرغبة بمشغوليته في أملاك أبيه، مخفيا الأسباب الحقيقية التي يتقدمها جهله باللغة، ولكنه أمام إلحاحها وافق على السفر معللا نفسه أن اللغة التي يجب أن يتحدث بها عالمية، وربما وجد في باريس مثلا من يفهمها خيرا مما يفهم الفرنسية نفسها، وحدد لسفره انتهاء المعركة الانتخابية، فحين قتل فيها أبوه تأجل الموعد إلى أن تمر فترة مناسبة. وهكذا كان شعبان في مشاغله وآماله بعيدا كل البعد عن مشاغل أبيه وآماله. وكان أبعد ما يكون عما يفعله أبو سريع. وقد كان واثقا أن أبو سريع لن يبقى معه بعد موت أبيه إلا ريثما تمر فترة تسمح له أن يجد مستأجرا آخر؛ فما كان شعبان يتصور أن يقتل أحدا في سبيل أي شيء إلا أن يعوقه عن متعته في الملاهي.
ولهذا لم يكن غريبا أن يقول شعبان لسباعي بعد إحياء ذكرى الأربعين لوفاة أبيه: ما رأيك يا سباعي أن تصنع معي ما صنعته مع إخوتك؟
وذهل سباعي، أحقا ما يسمع؟! ويسأله أيضا: ما رأيك؟ وهل فيها رأي؟ لقد بدأت الآمال تتحقق من أوسع الأبواب. •••
حين غادر سباعي بيت شعبان قصد من فوره إلى بيت أبو سريع. - السلام عليكم. - أهلا سباعي بك مرحبا، القهوة يا ولد، يا مرحبا، أهلا وسهلا. - أهلا بك يا أبو سريع، قهوتك مشروبة يا أبو سريع، إلا أنني أريدك في كلمتين. - تحت أمرك، عن إذنكم يا رجال.
وينظر الرجال بعضهم لبعض في دهشة شديدة، ثم يقومون الواحد منهم تلو الآخر، وقبل أن يصل أولهم إلى الباب يصيح سباعي: يا سلام.
ويقف سلام، ويلتفت إليه في إجلال: نعم يا بك. - أنتم طول عمركم رجال. - تحت أمرك، مر. - هذه الزيارة ... - ما لها يا بك؟ - لم تحصل، لم تتم، لم أجئ إلى هنا، لم يرني أحد منكم.
وابتسم سلام وهو يقول: وهل جئت يا بك حتى يراك أحد منا؟ هيا بنا يا رجال.
Página desconocida