ولم يكن هذا الانتقال من حزب إلى حزب نظرة إلى الانتخابات فهو يعرف نتيجتها على الحالين، وإنما كان تحسبا لما بعد الانتخابات، وحرصا على أن تكون صلته بالسلطة التنفيذية وطيدة، فتظل إيجارات الأوقاف سارية المفعول في العهد الجديد، وتظل رغباته في تعيين العمد ونقل الموظفين نافذة. وهو قبل لم يختر الحزب الذي كان فيه عن مبدأ ولا هو انتقل إلى الجانب الآخر عن إعمال رأي؛ فالشرف السياسي بعيد عن كيانه كل البعد. وما دام الأمر كذلك فماذا سيخسر إذن إن هو ترك حزبا إلى آخر؟ لا خسارة طبعا، والربح مؤكد.
وراحت مواكب عز الدين تجوب بلاد الدائرة، وإن له لبصمة في كل بلد زارها، وبصمة السفاح تترك حيث تقع دماء، إن لم تكن دماء بشر فدماء كرامة مسفوكة، وخزي يلحق بمن اختاره الطاغية ليكون ضحيته. والسفاح معدوم الحياء جامد الوجه شديد التبجح؛ فليس يراعي ألا يمر ببيت قوم قتل عائلهم أو سلب بهائمهم أو حرق زرعهم أو محصولهم، وإنما هو يتحرى أن يعمد في أول نزوله إلى القرية إلى البيت المخضب بدماء البشر أو الكرامة أو الفقر التي أسالها هو، ويتعمد أعوانه الذين هم على شاكلته من الفجور أن يرفعوا عقائرهم بالهتاف له، ثم ينطلق رصاص عصاباته ليعلن أن الذي يتخلف عن الهتاف ينوب الرصاص عنه في هذا الهتاف.
وعلا الضجيج وعلا الصخب، ودق الطبل وعلا المزمار، وتهاتفت أصوات الرصاص، وغلت دماء في العروق، وصعدت حميا الجنون إلى مكان العقول، وسقط عز الدين الخولي قتيلا برصاصة في رأسه، وخشع الطبل والمزمار، وولى المجرمون بزعامة أبو سريع هربا وهم من كانوا يقسمون في كل يوم أنهم يفدونه بحياتهم، ولكن القسم شيء وقتله ومجيء الشرطة والتحقيق شيء آخر. وبدا الفرح على وجوه الجميع في القرية تحاول أن تغطيه الحوقلة ولا إله إلا الله، وسبحان الدائم! ومحاولة التظاهر بالحزن أمام ابنه ومن بقي من أعوانه؛ فمن أين لهم أن يعلموا إن كان شعبان في مثل إجرام أبيه أو أقل أو أكثر؟ فهم لم يجربوه بعد، ولا يدرون مدى جبروته أو ضعفه. لقد عاش عمره تابعا لمجرم، أفتراه يصبح متبوعا لمجرمين أم لا يكون؟ الله وحده أعلم. التظاهر بالحزن أسلم. وما هي إلا ساعة أو بضع ساعات ثم ينحسر عن القرية موكب الإجرام، ويفرغون هم لأفراحهم بما خلصهم الله من هذا العاتية السفاح. كان من المستحيل أن يعثروا على الجاني فكم من أعداء للقتيل! وإن انصرف الظن إلى من نكبهم عز الدين من أهل القرية فسرعان ما يخيب هذا الظن؛ فقد كانوا جميعا يعلمون أنه قادم إلى القرية في هذا اليوم، وكان من الطبيعي أن يتركوا القرية إكراما لأنفسهم أن يروا وجهه الذي لا يطيقون رؤيته، وتقية أن يبلغ منهم الغيظ مداه فتنطلق من أفواههم كلمة قد تكون فيها نهايتهم. ويدرك الشرطة أن القاتل قادم من بلد أخرى، وأنه تخفى حتى لا يلمحه أحد ممن يعرفونه من أبناء هذه القرية، وأنه انتهز فرصة الهتاف والرصاص والطبل والمزمار ونال ثأره وثأر كثيرين آخرين غيره. ولم يدهش أحد من كل الذين شهدوا القتلة أو الذين سمعوا بها؛ فهي أمر كان لا بد أن يقع على هذه الصورة وليس على غيرها، كل الذي كانوا لا يعرفونه هو متى، وقد عرفوه.
الفصل التاسع
حين اجتمعت أسرة وهدان بعد وفاته بفترة قال خليل كلاما قاطعا: يا أمه، أنت الكبيرة، ولا رأي قبل رأيك ولا بعده، ولكننا نعرف أن هذا الحديث لا يطيب لك. ونعرف معنى أن تفقدي المرحوم، ولكننا فلاحون، والأرض جامدة صلبة بلا عواطف، ولا بد لها من خدمة، وأنا لي رأي. - يا خليل يا بني، أنا ليس لي أرض، الأرض أرضكم.
وقال سباعي: بل كلها أرضك.
وقالت فاطمة: اسمعي يا أمه، أنت تديرين الأرض كما كان يفعل أبي، ويساعدك سباعي.
وقالت عابدة: ونعم الرأي يا فاطمة، وماله يا أمه، أنت فلاحة بنت فلاح وسباعي ابنك.
ونكس سباعي رأسه في مراوغة مكشوفة وقال: أنا تحت أمركم، إلا أنني أحب أن أتسلم نصيبي.
وقالت الأم في أسى وفي تؤدة: طول عمرك مستعجل يا سباعي!
Página desconocida