فالفتاتان كانتا جديرتين أن تحبا، ولكن لم يكن هناك حبيب؛ فالذين يرونهما من الرجال لا ترتقي آمالهم إلى حبهن. وكلتاهما كانت تعلم أنها ستجد الزوج اللائق بها فقد كانت كل منهما تعلم أنها جميلة، وأن أباها ممن يألف الناس ويألفون، وأن أمها قريبة إلى مشاعر الأمهات في القرية لم تمد يدها لإحداهن بغير المعروف والمكرمة. كلتاهما كانتا تجدان المتعة في كتاب من الكتب الكثيرة التي كان يشتريها لهما خليل، وفي الراديو ما وجدت البطارية وفي الأسطوانات. وقد تزوجتا كلتاهما وهما في مطالع الشباب فلم تضق منهن نفس، ولم تشعر واحدة منهما في حياتها برهبة المستقبل، ولم يهدد إحداهما شبح من عنس.
وما هي إلا سنوات قلائل حتى امتلأ البيت بأبناء فاطمة وعابدة يأتون جميعا إلى بيت وهدان في الإجازات والأعياد، وكان الجدان يشعران بمجيئهما أن الحياة التي عاشاها كانت مثمرة خصيبة، ولم يشعر واحد منهما بالأسف أن سباعي لم ينجب وقد استطالت سنوات زواجه. وكان سباعي في هذه السنوات تواقا إلى ابن وليس ابنة ليضمن وارثا لماله الذي سيئول إليه من أبيه، والذي ينوي أن ينميه بكل الخطط التي كان يعدها طوال حياته وما سترثه أيضا قدرية من أبيها وهو نصيب إن يكن نصف نصيب شعبان إلا أنه يظل مع ذلك موفورا. ولم يكن قبح زوجته بالنسبة إليه يشكل أي أسف لزواجه منها؛ فقد سرعان ما تعوده حتى لم يعد يرى فيها ما رآه في أول يوم دهمه فيه رؤياه، وهو أيضا كثيرا ما يروح عن نفسه مع شعبان. ولم يكن شعبان يجد أي غضاضة أن يصحب زوج أخته في لياليه الصاخبة، بل لعله كان يعتقد أنه إذا لم يصحب شعبان، فإن شعبان سيجد وسيلة أخرى يخفف بها وطأة أخته عليه، وهي وطأة لا يطيق احتمالها إلا ذو قوة وأيد.
وكان العرب قد بدءوا يرودون ملاهي شعبان وسباعي. وكانوا حريصين أن يجدوا لأنفسهم أصدقاء في القاهرة. وكان شعبان يتمتع حيث يسعى بأنه ابن أحد النواب، وبأنه ثري. وأحس أمير عربي أن مثل هذا لن يطمع في ماله، وأنه يستطيع أن يتخذ منه صديقا، فاتخذه صديقا، وأصبح الأمير نمر من أقرب أصدقاء شعبان. أما سباعي فكانت الصلة بينه وبين الأمير صلة تعارف لا تصل إلى الصداقة. وكثيرا ما دعا شعبان الأمير إلى شقته بالقاهرة، وكم سعد أبوه عز الدين حين دعا الأمير إلى بيتهم في القرية؛ فأي مجد يناله وهو يصيح في خدمه: القهوة لسمو الأمير يا ولد، الشاي لسمو الأمير يا ولد؟! إنه لم يحلم بزيارة وزير فكيف بأمير؟! كان فخورا عز الدين بابنه وبصداقته هذه الأمير فخرا لم يعرفه حياته كلها.
ودعا الأمير شعبان أن يزوره في بلده فلبى الدعوة وحده طبعا؛ فالدعوة لم توجه إلا إليه. وحين سافر شعبان لم يكن يفكر إلا في رؤية هذه البلاد، وحين استقر به المقام هناك، ووجد الثراء الفاحش الذي يعيش فيه الأمير انتهز فرصة خلا فيها به وسأله في شبه مداعبة: أتقبلون في أسرتكم غير الأمراء.
وقال الأمير: يا أخي وما البأس؟ كلنا أبناء آدم، وكلنا مسلمون. - أحقا ما تقول يا سمو الأمير؟ - نعم هو الحق. - ألك أخوات لم يتزوجن بعد؟ - تسع أخوات تزوجت منهن اثنتان. - فإذا طلبت منك أن تزوجني إحدى السبع الباقيات. - أيهن؟ - وهل أعرف؟ إنها أول مرة أعرف أن لك أخوات؟ - وكيف تريد أن تتزوج إذن؟ - بالإنابة. - الإنابة تكون في زوجة محددة. - إنني أوكلك عني في الاختيار، أما العقد فلا داعي فيه للإنابة؛ فأنا حاضر بين يديك. - أتريد أن تتزوج في هذه الزيارة؟ - وأعود إلى أبي بالعروس. - وهل هذا معقول؟ - وفيم نحتاج إلى الزمن؟ أنا بيتي موجود في البلدة، وفي ساعات أختار للأميرة أحسن شقة في القاهرة، والأميرة قطعا لا تحتاج إلى جهاز، ففيم الانتظار؟ - أسألها. - هل اخترت لي؟ - قد اخترت.
وتزوج شعبان من الأميرة العربية، وعاد بها إلى أبيه، وأقيم الفرح في القرية ثلاث ليال سويا. ولم تكن الأميرة على كل حال في قبح قدرية، وهو حين طلبها إنما سعى إلى لقبها وثرائها، وما سعى إلى جمالها أو أنوثتها. قدر أنه لا بد أن يتزوج وقدر أن مثله لا يعرف للحب معنى إلا هذا الذي يمارسه في لياليه في القاهرة، وعندما تنطفئ الأنوار تتساوى جميع النساء. •••
اشتد المرض بوهدان؛ فقد داهمه الكبر فجأة وتوالت عليه علائمه، وأحس أنه يعيش الأيام الأخيرة من حياته. وكانت نتيجة البكالوريوس على وشك الظهور، فكان كل دعائه حين كان يصلي وهو نائم من شدة الوهن أن ربي لا تضمني إليك حتى أعرف نتيجة خليل، أريد أن أقول له يا دكتور مرة واحدة قبل موتي. ومن العجيب أن قدرية كانت حاملا في هذه الفترة، وكانت قاب قوسين أو أدنى من الولادة. ولم يدع وهدان ربه أن يرى سباعي قبل أن يموت، وإن كانت نبوية تدعو له دائما بطول العمر ثم تهمس وكأنها تناجي الله في علياء سمائه: وإن كان لا بد يا الله فأفرحه بنجاح الدكتور خليل، وبحفيد من ابنه البكر.
وفي يوم أصبح خليل الدكتور خليل، وقبله أبوه وعيناه تنهمران دموعا، وراح ينظر إلى السماء وهو يقول: الآن إذا شئت يا رب، الآن ولك ألف شكر وألف حمد. وأبت السماء إلا أن يأتيه الخبر الآخر في نفس اليوم أن ابنه سباعي قد رزق بولد، وكان سباعي هو من سعى إليه بالنبأ، وقبل يده وسأله: لن يختار له الاسم إلا أنت يا آبا، أطال الله عمرك.
وقال وهدان وهو يلتقط أنفاسه: ليكن اسمه صلاح، وليكن صلاحا بإذن الله.
وفي المساء فاضت روح وهدان وهومت في سموات القرية كلمات الآية الكريمة:
Página desconocida