ويكون بالمدينة مغاسل ومطابخ ومطاعم عمومية، ومكان عمومي أيضا لتربية الأطفال الرضع، ويكون التعالج بالمجان كما يجري في الجيش، ولن يكون بالمدينة قضاة ومحاكم، وإنما تكون شرائع مسنونة يتعهد الأهالي بالسير عليها، فإذا حدث اختلاف اختار المتخالفان حكما ليفصل في خلافهم، والأهالي يتعهدون - في جملة ما يتعهدون به - عدم الشكوى إلى المحاكم والرضى بما يحكم به الحكم المختار ، وهذه التعهدات ضرورية؛ لأن مدينة فكتوريا يراد إقامتها وسط أي دولة، فلا بد لذلك من هذه التعهدات حتى تعيش مستقلة عما حولها في إدارتها وقضائها.
والمشروع إنجليزي أينما نظرت إليه؛ فهو عملي يمكن إقامته في أي مكان، فلا يجبر الناس عليه، ولا هو في حاجة إلى أن تجربة أمة بأسرها؛ إذ يكفي لنجاح المشروع أن يقوم به عشرة آلاف نفس. ويقول بكنجهام:
3
إنه إذا تأسست مثل هذه الشركة ونجحت، سارت سائر البلاد على طريقتها، وهو في لبه - كما يرى القارئ - شركة تعاون كبيرة تبيع الغلات بنفسها ثم تقسم الأرباح على مساهميها.
من أحلام الاشتراكية
أحلام القرن التاسع عشر كله، وما يليه من ربع القرن العشرين، هي كلها أحلام الآلات والعمال، وكلها تتجه بالطبع وجهة اشتراكية شأن جميع الأحلام الماضية، ولكنها تمتاز منها بالعناية بالعمال وبجعل الآلات أساسا للهيئة الاجتماعية، وهاتان الميزتان كلتاهما لم يكن أفلاطون يعرفهما، فهو كما يذكر القارئ حذف من ذهنه مسألة الصناع والعمال، ولم يبال بهم إلا أقل المبالاة، أما الآلات في زمنه فلم تكن لها من الخطورة والأثر في المجتمع ما يدعو إلى التفكير في شأنها، ولكن كل هذه الأحوال قد تغيرت في القرن التاسع عشر؛ إذ هو يشترك وقرننا في أنه عصر العمال وعصر الآلات معا.
ومن أصحاب الأحلام المعدودين في القرن التاسع عشر «أتيين كابيه» الذي ولد سنة الثورة الفرنسية 1788، وتوفي عند بداية إمبراطورية نابليون الثالث سنة 1856، فرأى في صباه أحد مردة التاريخ - نابليون الكبير - وعبر القرن التاسع عشر بثوراته الكبرى سنة 1848، وبمخترعاته العديدة التي هي في الحقيقة أبعد أثرا من الثورات في النظم الاجتماعية، وميدان الحلم «إيكاريه» وهي إقليم مقسم على طريقة الثورة الفرنسية إلى أقسام أعشارية، فيه مائة مديرية تستوي كلها في المساحة وعدد السكان، وكل هذه المديريات ينقسم إلى عشرة مراكز متساوية أيضا، لا يراعي كابيه في ذلك اختلاف السهل من الجبل، أو الوادي الجدب من الوادي الخصب، فإنما هو يقسم مملكته كأنها رسم على الورق، ينزع هذه النزعة بقوة الثورة الفرنسية التي أسست الطريقة المترية، وفي وسط «إيكاريه» تقوم مدينة «إيكاره» عاصمتها وهي أشبه شيء بباريس، لها نهرها أيضا كما لباريس نهر السين، والمدينة مستديرة يشقها نهرها نصفين متساويين، ويقوم على الشطين جداران مشيدان من الحجر لمنع انهيارهما.
وقد كرى النهر حتى بعد قعره، وحتى صارت بواخر الأقيانوسات تمخر فيه وتنقل البضائع إلى إيكاره ومنها، وبها خمسون شارعا توازي النهر وخمسون أخرى تقطعه، (وقد خانته الطريقة العشرية هنا؛ لأن المدينة كما سبق فذكرنا مستديرة، فكيف تتفق استدارتها ونظام هذه الشوارع؟) والمدينة مقسمة إلى 60 حيا، كل منها يحتوي على مدرسة ومستشفى ومعبد وحوانيت، والمدينة مبنية عمارات، بكل عمارة 15 منزلا تحيط ببستان عمومي.
والقرى في إقليم إيكاريه تشبه المدينة من حيث التخطيط، والمؤلف مهموم بالعناية بالصحة وبالرفاهية في الشارع، فمماشي الناس إلى جانبي الشوارع مظللة بالزجاج، كذلك المحطات (أليست هي الآن كذلك؟) أما الإصطبلات والمجازر والمستشفيات، فتقع خارج القرية أو المدينة، وتقوم المصانع والمخازن على النهر أو إلى السكك الحديدية لتسهيل النقل.
والآن، لننظر في النظام السائد الذي يجري عليه السكان ...
Página desconocida