عُنْفٍ، اللَّيِّنُ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، وَالْمُمْسِكُ مِنْ غَيْرِ بُخْلٍ، وَالْجَوَادُ فِي غَيْرِ إسْرَافٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا جَرَحَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ وَآيِسَ الطَّبِيبَ مِنْ نَفْسِهِ وَقَالُوا لَهُ: اعْهَدْ، جَعَلَهَا شُورَى فِي سِتَّةٍ وَقَالَ: هَذَا الْأَمْرُ إلَى عَلِيٍّ وَبِإِزَائِهِ الزُّبَيْرُ، وَإِلَى عُثْمَانَ وَبِإِزَائِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَإِلَى طَلْحَةَ وَبِإِزَائِهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَلِمَا جَازَ الشُّورَى بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ ﵁ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: جَعَلْتُ أَمْرِي إلَى عَلِيٍّ، وَقَالَ طَلْحَةُ: جَعَلْتُ أَمْرِي إلَى عُثْمَانَ، وَقَالَ سَعْدٌ: جَعَلْتُ أَمْرِي إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَصَارَتْ الشُّورَى بَعْدَ السِّتَّةِ فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَخَرَجَ مِنْهَا أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَيُّكُمْ يَبْرَأُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَنَجْعَلُهُ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ عَلَيْهِ شَهِيدٌ؛ لِيَحْرِصَ عَلَى صَلَاحِ الْأُمَّةِ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَجْعَلُونَهُ إلَيَّ وَأُخْرِجُ نَفْسِي مِنْهُ وَاَللَّهُ عَلَيَّ شَهِيدٌ، عَلَى أَنِّي لَا آلُوكُمْ نُصْحًا، فَقَالَا: نَعَمْ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ فَصَارَتِ الشُّورَى بَعْدَ السِّتَّةِ فِي ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ فِي اثْنَيْنِ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ، ثُمَّ مَضَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِيَسْتَعْلِمَ مِنَ النَّاسِ مَا عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا أَجَنَّهُمْ اللَّيْلُ اسْتَدْعَى الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَأَشْرَكَهُ مَعَهُ، ثُمَّ حَضَرَ فَأَخَذَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعُهُودَ أَيُّهُمَا بُويِعَ لَيَعْمَلَنَّ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَئِنْ بَايَعَ لِغَيْرِهِ لَيَسْمَعَنَّ وَلَيُطِيعَنَّ، ثُمَّ بَايَعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ.
فَكَانَتْ الشُّورَى الَّتِي دَخَلَ أَهْلُ الْإِمَامَةِ فِيهَا وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا أَصْلًا فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ بِالْعَهْدِ، وَفِي انْعِقَادِ الْبَيْعَةِ بِعَدَدٍ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْإِمَامَةُ لِأَحَدِهِمْ بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ١، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُجْعَلَ شُورَى فِي اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ إذَا كَانُوا عَدَدًا مَحْصُورًا.
وَيُسْتَفَادُ مِنْهَا أَنْ لَا تُجْعَلَ الْإِمَامَةُ بَعْدَهُ فِي غَيْرِهِمْ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ بِالِاخْتِيَارِ فِي أَحَدِهِمْ جَازَ لِمَنْ أَفْضَتْ إلَيْهِ الْإِمَامَةُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ إذَا جَعَلَهَا الْإِمَامُ شُورَى فِي عَدَدٍ أَنْ يَخْتَارُوا أَحَدَهُمْ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَخْلِفِ الْعَاهِدِ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي تَقْدِيمِ
_________
١ "أهل الحل والعقد": مصطلح جديد استحدثه المفكرون المسلمون، ويقصَد به: الخبراء في شئون المجتمع وأحواله الاجتماعية والسياسية، يرجع إليهم الناس في المصالح العامة، ويسمعون لهم بسبب ما توفَّر لهم من خبرة وحنكة ودراية في هذا المجال، وعلى عاتق هؤلاء مهمَّة اختيار رئيس الدولة الإسلامية من بين مَنْ تتوافر فيهم الشروط، ثم تقع على عاتقهم مهمة مراقبة ذلك الرئيس ومعاونته في اتخاذ القرارات السياسية والاجتماعية التي تعود على أفراد المجتمع بالنفع مع النصح له وتوجيهه. "انظر: نظام الدولة في الإسلام، للدكتور: عبد الله جمال الدين: ص١١٧".
1 / 34