في عنوانها شيء من الغرابة الظاهرة، ولكنها من أروع القصص التمثيلي الفرنسي الذي ظهر في هذه الأعوام الأخيرة، ولعلها كما يقول بعض النقاد أن تكون أروع ما ظهر في هذا الفصل، بل أروع ما ظهر في هذا العام.
فيها فلسفة وتاريخ وشعر معا، وفيها مع ذلك ملاءمة رائعة بين ما ينبغي لملعب التمثيل وما ينبغي للسينما، وما أظن أن هذه القصة ستمضي دون أن تعرض على الناس في أطراف الأرض من طريق السينما، فهي كأنها أنشئت للسينما إنشاء بفضل هذه المناظر القصار المتلاحقة التي يتصل بعضها ببعض في حقيقة الأمر، ويكاد كل واحد منها يستقل عما قبله وما بعده، والتي تجمع بين ما ينبغي للتمثيل من الرزانة والهدوء، وما ينبغي للسينما من الحركة والنشاط، وقد مثلت القصة في بيت موليير كما رأيت ؛ أي في أشد الملاعب الفرنسية حرصا على المحافظة واحتياطا في التجديد، وستراها من غير شك ذات مساء في دور السينما فتعلم أن صاحبها قد وفق إلى فوز عظيم حين استطاع أن ينشئ قصة تصلح لبيت موليير وللسينما دون أن تحتاج مع ذلك إلى أن يمسها تغيير أو تبديل.
وفي القصة كما قلت تاريخ وفلسفة وشعر، ولكن يجب أن نلاحظ أن الكاتب لم يكد يأخذ من التاريخ إلا الأسماء والأشكال وبعض الأوضاع، ولم يكد يأخذ من الفلسفة إلا بحظ معتدل جدا، لا يرتفع على أوساط الناس؛ لأنه إنما يضع القصة لأوساط الناس هؤلاء، فأما الشعر فقد أخذ منه الكاتب بأعظم حظ ممكن أن يحتمله النثر والحوار.
ولننظر قبل كل شيء إلى موضوع القصة وإلى الغرض الذي توخاه الكاتب حين أنشأها، والواقع أن العنوان الذي رأيته لا يصف القصة وصفا دقيقا، ولعله أعجب الكاتب فانصرف إليه دون عناية شديدة بالتدقيق، فموضوع القصة - إن صدقنا العنوان - هو هذه السيدة التي سماها مدام خمسة عشر، ونحن نجد هذه السيدة في القصة ونجد لها شخصية قوية، ولكننا نجد كما لاحظ بعض النقاد شخصية أخرى أظهر منها وأشد قوة، وهي شخصية رجل يمكن أن نسميه مسيو خمسة عشر، وهو لويس الخامس عشر ملك فرنسا. وظاهر أو غير ظاهر لمن لم يحسنوا تاريخ هذا الملك أن السيدة التي يتحدث الكاتب عنها هي مدام دي بونبادور عشيقة الملك التي فتنته واستأثرت بقلبه ولبه، وتسلطت على قصره وملكه، واستغلت بأسه وسلطانه فأحسنت وأساءت، وأثرت في الحياة الفرنسية والسياسة الفرنسية أثناء القرن الثامن عشر أبلغ الأثر وأعمقه، وقد ظن الكاتب أنه يصور في قصته حياة هذه المرأة ذات الجمال الرائع والسحر البارع والقلب الذكي والعقل الخصب، ولكنه لم يصور من حياتها إلا شيئا يسيرا على حين صور حياة الملك تصويرا قويا واضحا شديد التأثير في النفوس، وأعطى من الملكة نفسها صورة إلا تكن بارزة كل البروز فهي صادقة كل الصدق.
وقد قلت إن الكاتب لم يأخذ من التاريخ إلا الأسماء وبعض الأوضاع والأشكال، وهو نفسه يقول ذلك في مقدمة كتبها لقصته ونشرها في الصحف الباريسية قبل أن تمثل، وهو ينبئنا بأنه لم يصور الملك كما يراه التاريخ، بل صوره كما يراه هو، أو كما يجب أن يراه، فالتاريخ يرى - أو كان يرى إلى وقت قريب - هذا الملك رجلا ضعيفا، شديد الضعف، مترفا، مسرفا في الترف، متهالكا على لذاته إلى حد يبلغ الخزي، مستسلما للنساء من خليلاته استسلاما يسقط المروءة أو يكاد يسقطها، مهينا بهذا كله لملك فرنسا العظيم، وعرشها المجيد لا حظ له من إرادة ولا من تفكير، ولا من محاولة للإرادة والتفكير، ذلك إلى ما ينكره التاريخ على هذا الرجل وعلى وزرائه من إفساد للسياسة الفرنسية الخارجية والداخلية معا، ومن تهيئة فرنسا للثورة التي نجمت فيها بعد موته بأقل من عشرين سنة.
كذلك كان التاريخ يرى هذا الملك، بل كذلك كان كثير من المعاصرين لهذا الملك يرونه ويحكمون عليه في أحاديثهم ومذكراتهم، ثم جاءت الثورة فأكثرت من التشهير به، وبالغت في التشنيع عليه، واستقرت السنة التاريخية على أن هذا الملك قد كان من شر من عرفت فرنسا من الملوك، ولكن حركة ظهرت في الأعوام الأخيرة فيها دفاع عن هذا الملك واستكشاف لشيء من الحسنات يضاف إليه، وتفسير لبعض الأعمال التي لم تفهم على وجهها، والتي لم تكن لتصدر عن ملك ضعيف شرير، وإنما هي خليقة أن تصدر عن ملك قوي خير.
وصاحب هذه القصة لم يخترع إذن هذه الشخصية الجديدة للملك الفرنسي اختراعا، وإنما ذهب في تصويرها مذهب هؤلاء المؤرخين المعاصرين الذين نهضوا يدافعون عنه، ويفسرون ما أبهم من سيرته على الناس، ولكنه على ذلك قد تجاوز الحد الذي انتهى إليه هؤلاء المؤرخون وأصبح مادحا للملك، غاليا في مدحه، يصوره كما يتمنى أن يكون لا كما كان بالفعل، وهو يعترف بذلك في غير تردد ولا تحفظ، وهو يستخدم قوته الشعرية كلها في إنشاء هذه الصورة الجذابة للملك، فيبلغ من ذلك كل ما يريد، وهو لم يقسم قصته إلى فصول ، وإنما قسمها إلى أجزاء ثلاثة، وقسم كل جزء من هذه الأجزاء إلى مناظر تتصل فيما بينها ولكنها في ظاهر الأمر منفصلة، تحتاج إلى أن يرخى الستار ويرفع فيما بينها.
فأما الجزء الأول من أجزاء القصة فيصور حياة الملك وحياة صاحبته أثناء الشباب حين أتيح لهما أن يلتقيا وبعد أن تم لهما هذا اللقاء، وحين كان الحب بينهما قويا وعنفا.
أما الجزء الثاني فيصور حياتهما بعد أن مضت على هذا الحب أعوام فضعفت حدته وفتر نشاطه، وأصبح شيئا يشبه العادة اللازمة التي لا يستطيع أحدهما أن يخلص منها، ولكنها مع ذلك ثقيلة عليهما معا.
وأما الجزء الثالث فيصور حياتهما حين تقدمت بهما السن فمات الحب وأصبحت حياة هذه المرأة في القصر حياة فرضتها العادة ليس غير، وهي في الوقت نفسه حياة تسرع بها إلى الموت ثم تنتهي بها إليه، وقد ضعف الملك، وبلغت منه الشيخوخة، شيخوخة القلب والجسم معا، فهو فيما بينه وبين نفسه فيلسوف زاهد يائس، ولكنه يتكلف اللهو والدعابة والمجون إذا خرج إلى أهل القصر؛ لأنه يرى ذلك أساسا من أسس الملك.
Página desconocida