وكنا نود لو استطعنا أن نخلو إلى هذه العمد القائمة لنجدد عهدنا بها، ولنبثها ذكرى الأيام، ولنسألها عما ألم بها من الحوادث واختلف عليها من الخطوب منذ فارقناها، ونظفر منها بهذا الصمت الذي هو أفصح من الكلام وأبلغ منه أثرا في النفوس، ولكن الشيخ دعا فلم يكن بد من أن نستجيب، فمضينا مع الشيخ إلى حيث أراد، وصعدنا معه إلى غرفة من تلك الغرفات التي كنا نذكرها أيام الصبا فتمتلئ قلوبنا لذكرها مهابة وإجلالا ورهبة وإكبارا، في تلك الغرف كان يستقر شيخ الأزهر ومفتي الديار، وفي تلك الغرف كانت تدبر أمور الأزهر وتصرف شئون العلماء والطلاب، وحول تلك الغرف كانت تتطاير طائفة من الأحاديث والأساطير عن حياة الشيوخ وأقوالهم وأعمالهم، وكانت هذه الأحاديث تصل إلينا فنعجب بها ونبسم لها ونلتمس فيها العبرة والعظة والفكاهة، وكنا نتنقل بهذه الأحاديث إلى بلادنا في الريف فنقصها على آبائنا وإخواننا فيعجبون بها ويكبرون أصحابها ويتخذونها ذخرا لما يعقدون من مجالسهم إذا أشرق الصبح أو أقبل المساء.
صعدنا مع الشيخ إلى تلك الغرفات ونحن نسأله عن الأزهر ما خطبه، وعن هذا الصمت ما مصدره، والشيخ صامت كالأزهر لا يستطيع رجع الجواب، ثم انتهينا مع الشيخ إلى طائفة من أصحابه كرام مثله لقونا لقاء حسنا، وحيونا تحية حسنة، كما لقينا الشيخ وكما حيانا، ونسألهم عن الأزهر ما خطبه؟ وعن هذا الصمت ما مصدره؟ فإذا هم صامتون كالأزهر، وإذا هم صامتون كالشيخ، وإذا هم لا يستطيعون رجع الجواب.
ثم تدور علينا أكواب الشاي، ثم تتلى علينا آيات الله في صوت عذب ولهجة حلوة وقراءة صحيحة مستقيمة نقية تصل إلى أعماق القلوب، ولكن من القارئ؟ من أين جاء؟ ما شكله؟ وما زيه؟ إنه رجل مطربش قد اتخذ زيا غير زي الأزهر، لأنه ليس من أهل الأزهر وإنما هو من عمال العنابر. تبارك الله! رجل من غير الأزهريين يتلو القرآن بين الأزهريين! هذا خير، هذا خير كثير ولكنه غريب لم نكن نقدر أن نلقاه في أيامنا تلك، وكنا نحب أن نلقاه الآن والأزهر معمور يموج بالناس وترتفع فيه أصوات الشيوخ بقراءة القرآن، ولكن الأزهر ساكن صامت، وهذه الطائفة الكريمة من العلماء الواعظين قد استمعوا وأنصتوا لتلاوة القرآن الكريم تخرج من رأس عليه طربوش، هذا خير ما في ذلك شك، ولكن هذه الصورة ما زالت غريبة في أنفسنا، وما زال موقعها من قلوبنا شاذا قلقا، ومع ذلك فقد يقال إن الشيوخ محافظون، وإننا نحن من أصحاب التجديد.
ثم انصرفنا محزونين مستيئسين، جئنا نزور الأزهر فلم نر الأزهر، وإنما رأينا أطلاله ولم نستطع أن نطيل عندها الوقف. قلت لأصحابي: ولكن ما هذا الصمت وكيف انتهى الأزهر إليه؟ وأيكم كان يظن أن ذلك الصوت العظيم يقضى عليه في يوم من الأيام أو في ليلة من الليالي بهذا الخفوت المنكر المخيف؟ قال أصحابي: فإنك تنسى أن الأزهر قد كان جامعا فأصبح جامعة، وإنك تنسى أن الجامعة إن استيقظت في النهار فهي تنام في الليل، وإنك تنسى أن للجامعة نظاما يحد حظها من الحركة وحظها من النشاط، فاذكر هذا كله واذكر أنك تخطئ أشد الخطأ إن ظننت أن التجديد مقصور على الجامعة وأصحاب الجامعة، فالتجديد أقوى وأنشط وأوسع سلطانا مما تظن. انظر إليه كيف وصل إلى الأزهر فعلمه كيف يكون الكلام في النهار والصمت في الليل، وقد كان الأزهر متصل الكلام في الليل والنهار. قلت لأصحابي: يا بؤسى للتجديد إذا انتهى بالأزهر إلى هذه الحال! كم كنت أوثر أن يظل الأزهر جامعا وألا يمسخ جامعة!
من وحي الريف
مدت عينها إلى التمثال معجبة به، ثم ردت عينها عن التمثال منكرة له، ثم قالت وقد ارتسمت على ثغرها ابتسامة حائرة بين الرضا والسخط: إن وجهه لشديد العبوس!
قالت صاحبتها: ومع ذلك فقد رأيته حين تكشفت عنه الأرض، وقبل أن يحط عنه ما لصق به من الطين، فوقع في نفسي منه أثر الرضا وابتسام الثغر وإشراق الوجه، وكنت أقدر أنه سيزداد رضا وابتساما وإشراقا حين يقوم مقامه هذا في وسط هذا الفناء، وقد أزيلت عنه آثار الرقاد الطويل في هذا التراب الرطب القذر، وقد غرست من حوله شجرات الزيتون هذه التي كان يكبرها ويعظمها حتى نقش اسمها عليه في هذه التقدمة التي يتقرب بها إلى آلهته، وإني لأراه الآن كما ترينه: مظلما عابسا كأنه مغضب مغيظ.
قال أستاذ من أهل العلم بالآثار: نعم، هذا هو الأثر الذي تركه في نفسي حين نظرت إليه منذ اليوم، ولقد اتخذت له صورا فتوغرافية حين تكشفت عنه الأرض، ويخيل إلي أن صورته أدنى إلى الرضا والابتسام مما نراه الآن.
قال قائل من أهل المجلس لا يكره العبث بالعلماء: من يدري؟ لعله كان راضيا مستريحا إلى نومه المتصل في أعماق الأرض، فلما أزلتم عنه الحجب، وهتكتم عنه الأستار، وأبيتم إلا أن توقظوه في عنف، وأن تقيموه حيث لم يكن يحب أن يقوم، ضاق بكم وسخط عليكم، فاربد وجهه بعد إشراق، وهذا أيسر ما استطاع أن يقدم إليكم من أدلة السخط والاشمئزاز. وتضاحك الجالسون، وانتقلوا إلى غير هذا من الحديث، ونسوا هذا التمثال الذي كان بعضهم مع ذلك يرمقه بين حين وحين، وكان هذا التمثال قد استكشف منذ أيام، أو قل قد انتهت إليه فئوس بعض الفلاحين الذين كانوا يحتفرون بئرا، وكان هؤلاء الفلاحون أمناء، فأسرعوا إلى الشرطة فأنبئوها، وأسرعت الشرطة إلى رجال الآثار فدعتهم، فلما جاءوا نظروا وبحثوا وقرءوا، ثم قالوا: هذا تمثال من تماثيل فرعون العظيم، ذلك الذي كثرت تماثيله وتفرقت في أقطار الأرض، والذي عظم ذكره في تاريخ مصر، وحسن بلاؤه في تشييد مجدها وبسط سلطانها، وهو رمسيس الثاني، وكنت في ذلك الوقت أقيم في الريف، قريبا من المكان الذي استكشف فيه هذا التمثال، وكنت أقيم في دار من دور مصلحة الآثار هناك، وقد رأت مصلحة الآثار أن مكان التمثال أولى به، وأن نقله إلى المتحف في هذه الأيام ليس ميسورا ولا مفيدا، فأقامته في فناء تلك الدار، وجعل الذين سمعوا عنه يسعون إليه ليزوروه، منهم من يدفعه إلى ذلك حب الفن، ومنهم من يدفعه إلى ذلك حب الاستطلاع، ومنهم من يدفعه إلى ذلك شيء أقوى من الفن والاستطلاع، وهو الحنان إلى تاريخنا القديم.
ومع أن القوم الذين رويت حديثهم آنفا لم يكونوا في هذا الحديث إلا عابثين، فقد استقر في نفسي لأمر ما أن هذا العبث يمكن أن يكون جدا، وأن هذا اللغو يمكن أن يكون حقا، وأن من الجائز أن يكون تمثال الملك قد ظل مشرقا باسما هذه القرون الطوال، فلما أخرج من ظلمة الأرض إلى ضوء الشمس استحال إشراقه إلى ظلمة، وابتسامه إلى عبوس.
Página desconocida