أما اليوم - في ظل الحكومات الديمقراطية - فأحوال الحكام معلومة ونقائصهم مشهورة، وهم يتنازعون فيما بينهم، ويجتهد كل فريق منهم في إعلان أخطاء خصومه ومنافسيه، وربما شاع اللغط بشئونهم الخاصة في بعض الصحف أو النشرات التي لا تتورع عن الخوض في هذه الشئون. وكثيرا ما يحدث أن حكام دولة يحملون على حكام دولة أخرى، ليتهموهم بنقض العهود وتعكير صفو السلام وتهديد العالم بالمنازعات والحروب.
ومن البديهي أن هذه العيوب كانت موجودة في حكام العصور الماضية، وربما كان حكام العصر الحديث خيرا من أسلافهم في كثير من المزايا والصفات، ولكن الحكام في العصور الماضية كانوا مستورين فكانوا موضع الاحترام والثقة والاطمئنان، أما حكام العصر الحديث فلا تخفى عيوبهم ونقائصهم كما تخفى عيوب الأقدمين ونقائصهم، فلا عجب إذا اجترأ عليهم المجترئون، واستعدت الأسماع دائما لقبول الطعن في الحكومات وقبول دعوات التغيير والتبديل؛ بل قبول دعوات الفوضى والانقلاب، وبخاصة إذا كان السامعون خلوا من التجربة، قاصرين عن فهم المقارنة بين الحاضر والماضي، والمقارنة بين الحاضر والمستقبل، مسرعين إلى استجابة كل صوت ينادي بالتغيير، عن جهل منهم بسوء النية وسوء المصير.
واتفقت هذه الفوارق، في جيلين متعاقبين، شهد كل منهما حربا عالمية عمت جوانب الكرة الأرضية، ديست فيها الحقوق والحرمات، وتخللها ما يتخلل الحروب من شر وفساد واجتراء على الأنفس والأعراض، واختلال في توزيع الثروة بالكسب الحلال أو بالكسب الحرام، ونشأ الأطفال والصبية في هذين الجيلين وآباؤهم مشغولون عنهم في ميادين القتال أو في ميادين السعي والاجتهاد، فلم يشعروا بالوازع الأخلاقي الذي كان الناشئون يشعرون به فيما مضى، وينتفعون به في التأني والتريث قبل الاندفاع فيما يجهلون عقباه.
هذه العوارض كلها ترجع إلى أسباب نظامية أو سياسية لا علاقة لها بالعقد النفسية التي يتردد ذكرها في هذا الزمن، وليس حديثنا اليوم مما يتسع للبحث في علاجها واتقاء أضرارها، لأن البحث في هذا الموضوع مهمة يشترك فيها المصلحون من أقطاب التربية والتشريع والسياسة. وتستلزم النظر في تقدير زمان التعليم ومكانه، والتوفيق بين تحصيل العلم ومسئوليات الحياة البيتية أو الحياة الزوجية، وكل أولئك محل للتأمل والمراجعة وتكرار التجارب في مختلف البيئات والمجتمعات.
إنما أردنا بالإشارة إلى هذه العوامل أن نرجع ببدعة العقد النفسية إلى حدودها المعقولة. فليست كل مشكلة اجتماعية عقدة نفسية في الأمة، وليس كل نزعة طارئة عقدة نفسية في هذا الإنسان أو ذاك، وللمشكلات الكبرى والصغرى أسباب غير العقد النفسية والأمراض النفسية، فما كانت هذه الدنيا مستشفى نعلل كل حادث فيه بالعلل. ونحول كل داخل فيه إلى حجرة الإسعاف. ولكنها دنيا معاش وعمل، قد تطرأ شكاياتها من جانب الصحة كما تطرأ من جانب المرض. والمهم أن نعرف ما نشكوه على حقيقته، لأننا لا نزيل الشكوى ونحن نجهل أسبابها، ومن عرف ماذا يشكو، عرف كيف يطلب السلامة والنجاة.
العائلة والوطن والدين
العائلة والوطن والدين أقوى الدعائم التي قام عليها بناء الحضارة الإنسانية.
ولو أننا نزعنا من تاريخ الإنسان كل ما استفاده من تكوين العائلة والوطن والدين؛ لما بقي من الإنسان المتحضر أثر، ولعاد الإنسان كرة أخرى إلى الهمجية، بل إلى الوحشية، لأن الفارق الأكبر بين أبناء الحضارة وبين الهمج أو الوحوش، هو الألفة بين الإنسان وأهله وإخوته في وطنه، وهو الهداية التي استمدها من شرائع الوطن وآداب الدين.
ومن تعاسة الهدامين الداعين إلى الفوضى والفساد أنهم يهدمون كل دعامة من هذه الدعائم، ويزعمون أن الخير كل الخير في نقضها ومحو آثارها وإعلان العداء للماضي بأسره، كأنهم يعلنون العداء على ماضي نوع آخر من الحيوان، غير نوع الإنسان.
ولو كان التقدم الذي يتحدثون به معناه أن يهدم الناس كل ما بنته الإنسانية في غابر عصورها، لوجب أن نلغي ما تعلمناه من صناعاتها في مآكلنا وملابسنا ومساكننا وآلات المعيشة في بيوتنا ومجتمعاتنا، ولكن دعاة الهدم والتخريب لا يجترئون على الدعوة إلى هذه الحماقة، لأن الخراب الذي تؤدي إليه محسوس ملموس لا يقبل الجدل ولا المغالطة، ويخيل إليهم أن الخراب الذي يؤدي إليه هدم العائلة والوطن والعقيدة أهون من ذلك الخراب الذي نحسه ونلمسه، والواقع أن هدم العائلة والوطن والدين أسوأ عاقبة من هدم الأماكن والبيوت.
Página desconocida