Ideas y Hombres: La Historia del Pensamiento Occidental
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
Géneros
وربما كان الإنسانيون والبروتستانت على السواء ثائرين في الصميم لأنهم أحسوا أن الفجوة المألوفة التي تفصل بين المثالي والواقعي قد بلغت في أخريات الأزمنة الوسيطة درجة سحيقة ظاهرة، وهذه الفجوة - بالرغم من إلفها - كانت بالنسبة إلى كل امرئ حساس أمرا لا يطمأن إليه. وهذه الفجوة التي كانت شديدة الوضوح خلال العصور الوسطى بلغت من العمق في القرن الخامس عشر درجة لا نستطيع مهما بذلنا الجهد في التفسير أن نردها إلى سبب. كان المثالي لا يزال مسيحيا، ولا يزال يهدف إلى الوحدة، والسلام، والأمن، والنظام، والاستقرار. أما الواقع فهو الحروب المتوطنة، وانقسام السلطة حتى في ذروتها، حتى في البابوية التي ينبغي أن تمثل الوحدة الربانية الثابتة الموقرة، والتنافس على الثراء والنفوذ، فترة من فترات القلاقل.
ومن ثم فإن هذه الحركة المركبة في الفنون والفلسفة التي نسميها الإنسانية - كانت كالبروتستانتية إلى حد ما - ثورة مقصودة، ثورة على أسلوب من أساليب العيش كانت تراه فاسدا، معقدا، عقيما، لا هو بالصادق، ولا هو بالجميل. وكأن الإنسانيين يفتحون نافذة يتسرب منها النسيم العليل، كما يؤدون أعمالا سارة كثيرة أخرى.
وبالرغم من ذلك فإن تشبيهات الإنسانيين بدأت تختفي عن أنظار الناس أجمعين ما عدا المخلصين لها. وسرعان ما بدأ فن النهضة ينمي الرغبة في الزخرفة، والولع بالتفصيلات، وغزارة اللون، مما كان يليق بالقرن الخامس عشر. ونستطيع بعبارة أدق أن نقول إن الإنسانيين الظافرين انقسموا في أغلب الفنون إلى مدرسة تغرم بالتفصيل والخصوبة وأخرى تميل إلى الاقتصاد والزهد؛ ففي فن البناء - مثلا - نجد التطور يسير في ناحية ممثلا في بلاديو، وهو إيطالي عاش في القرن السادس عشر وأغرم بالبساطة الكلاسيكية الصارمة التي سارت في أثر توجيه أساتذة المدارس، ثم اتجه نحو الكلاسيكية الجديدة التي نعرفها في الولايات المتحدة باسم «الاستعمارية». كما سار التطور في ناحية أخرى تتجه مباشرة نحو الباروك (الزخرفة) ثم في القرن الثامن عشر نحو الروكوكو (الزخرفة الزائدة التي تخلو من الذوق)، وهي أساليب تكثر فيها المنحنيات وتعزر فيها الزينات. أما في الكتابة فإن الإنسانيين لم يكونوا في أي وقت من الأوقات أبسط فعلا من خصومهم المدرسيين. وسرعان ما بلغت البحوث عندهم الذروة من حيث الادعاء والدسامة وعمق أساتذة الجامعات. وفي شيء من الخلط حل أفلاطون محل أرسطو كفيلسوف. وحتى في الأدب الخيالي ابتعد الأدباء عن مثل البساطة (وهي المثل التي لم تأخذها النهضة قط مأخذ الجد) حتى إنك لتجد في القرن السادس عشر حركتين أدبيتين أخذتا بنوع من الغلو والغموض في نجاح لم يتحقق مثله حتى عهد قريب جدا - وأقصد بهما «التلطف في التعبير» في إنجلترا «والتلميح» في العبارة في إسبانيا. وقد أدت الشعبية الحديثة بين أنقى رجال الفكر إلى معرفتنا مرة أخرى بالشعراء الميتافيزيقيين في إنجلترا في القرن السابع عشر، أولئك الشعراء الذين لم يكونوا قطعا على بساطة أو وضوح أو منطق معقول، وسرعان ما خلقت النهضة لنفسها فجوتها الخاصة بين الواقعي والمثالي.
ذلك لأن النهضة لم تكن في الواقع فوضوية، شأنها في ذلك شأن حركة الإصلاح البروتستانتي؛ فلقد ثارت النهضة على حلول سلطة - أو مركب من المثل والعادات والنظم - محل أخرى، ولم تكن هذه السلطة الجديدة بأية حال من الأحوال منقطعة الصلة عن سابقتها أو أقل منها تعقيدا. ثم إن الإنسانيين كثوار كان عليهم أن يجاهدوا جهادا شاقا في سبيل الحط من شأن سلطة بائدة. وفي خلال ذلك كثيرا ما لجئوا إلى لغة التحرير، على الأقل إلى حد المطالبة بالحرية في التربية الجديدة، والتحرر من قواعد المدرسية، والمطالبة بالحرية للفرد كي يسير وفق هواه، ولا يكون مجرد ببغاء يردد أرسطو. بيد أن الإنسانيين لم يؤمنوا فعلا بأن الإنسان طيب وحكيم بالطبيعة، وكانوا في ذلك أشد مغالاة من البروتستانت، الذين منهم من كان لا يرى ضرورة تقيد المسيحي بالقواعد الخلقية . أو بعبارة أخرى قل إن شئت إن الإنسانيين لم يتحرروا قط من التقاليد الفكرية الطويلة التي سادت العصور الوسطى، التي كانت تبحث عن السلطان - أو تبحث عن الحل - في الأعمال المدونة للمشاهير من السلف؛ فالإنسانيون في الواقع أحلوا جملة ما بقي من كتابات الإغريق والرومان، الأدبي منها والفلسفي، محل آباء الكنيسة، وأرسطو، وعلماء العصر الوسيط فحسبه وحيثما كانوا يهتمون بالدين اهتماما شديدا اكتفوا بنص الإنجيل ودرسوه دراسة حقة في أصله العبري أو الإغريقي. وسرعان ما وضعوا في المحل الثاني من النفوذ مجتمعهم الخاص يتبادلون فيه الإعجاب، وبدءوا العملية الحديثة التي تتركز في الحواشي الدراسية للمتون. غير أنه ما برح لديهم نفس التقدير لسلطان القديم، ونفس عادة التفكير المجرد، بل التفكير الاستنباطي، ونفس العزوف عن إجراء التجارب، وعن البحث بطريقة غير كريمة، مما نجده عند المدرسين. إنهم لم يكونوا في الواقع طلائع البحث العلمي الحر الحديث، بل كانوا مدرسيين أشد غرورا وأكثر اهتماما بشئون الدنيا.
إن ما ذكرت في الفقرة السابقة فيه مبالغة شديدة، وإنما قصدت به أن أؤكد رأيا بعينه، وهو أن العلماء الإنسانيين لم يكونوا متحررين أو ديمقراطيين بالمعنى الحديث. إنما كانوا فئة ممتازة من رجال العلم، جد فخورين بمعاييرهم العلمية، لديهم أكثر ما عرف من عيوب عن الباحثين: الغرور، والتملك، والشحناء، والفزع الشديد من ارتكاب الأخطاء، وكان عندهم قسط كبير من إحدى الفضائل الكبرى للباحثين، وهي فضيلة الشهوة العارمة للجهد العقلي الشاق. أما نصيبهم من براعة النقد، ومن القدرة على تحديد المشكلات وحلها، فمن المؤكد أنه لم يزد عما ينبغي أن يتوافر للباحث؛ فلم يكونوا عمالقة في الفكر كما يبدون لنا اليوم. إنما كانوا روادا يسيرون في بطء على أرض لم تمهد بعد.
لقد وضعوا للبحث الحديث نمطا ومعايير. وفي دراسة اللغات القديمة أدخلوا النظام، والدقة، والأدوات التي تأخذها كأمر مسلم به، كالمعاجم «القواميس» المرتبة ترتيبا أبجديا. كما طوروا معايير النقد التحليلية والتاريخية. وما برح المثال المشهور من إنجازات هؤلاء الباحثين من الأمثلة الطيبة التي توضح طرقهم في أحسن حالاتها. كان البابوات في مستهل العصور الوسطى قد أيدوا نفوذ «المحكمة البابوية»، التي كانت بالفعل تقوم على أساس ثابت من تقاليد بطرس، بما يعرف ب «هبة قسطنطين»، وهي وثيقة زعموا أنها صدرت من الإمبراطور قسطنطين وهو يغادر روما لكي يؤسس عاصمته في القسطنطينية، وقد استخلف فيها البابا في روما، وأسلمه السلطان المباشر على الأرض التي تحيط بروما، والتي عرفت فيما بعد ب «ولايات الكنيسة»، وقد أثبت أحد الإنسانيين الأوائل - واسمه لورنزو فالا، الذي توفي في عام 1457م - أن هذه الوثيقة مزورة؛ ذلك أن لغة الوثيقة لم تكن تلك اللغة التي كان من الممكن أن تكتب في مستهل القرن الرابع بعد الميلاد. وقد أثبت فالا ذلك بوسائل أصبحت مألوفة لنا اليوم جميعا. أثبت أن بالوثيقة إشارات إلى غير زمانها، كما لو عزا أحد إلى إبراهام لنكولن خطابا وكانت به إشارة إلى عربة بويك.
ولم يكن التفكير الميتافيزيقي الشكلي عند الإنسانيين سمة من سماتهم الواضحة. كان أصحاب العقول المنظمة المصممة على الإجابة عن «المشكلات الكبرى» في تلك القرون الحديثة الأولى إما من رجال الدين، وإما من العقليين على أية صورة من الصور. لم يكن الإنسانيون الإيطاليون من أمثال فسينو وبيكو، ولاميراندولا، مجرد أفلاطونيين. إنما كانوا من أتباع الأفلاطونية الحديثة، كانوا من أصحاب العقول المرنة الذين يعتقدون في هذه الصوفية المدرسية الممعنة في الفكر. ومن الحق - بوجه عام - أن الإنسانيين في أكثر أنحاء أوروبا قد رحبوا بأفلاطون لكي يريحهم من أرسطو، كفيلسوف أقرب إلى المسيحية التي تحجرت برغم بقائها مقدسة، والتي كانوا فعلا في حاجة إليها. ووقع أرازمس وتوماس مور وكوليه وغيرهم من أبناء الشمال تحت تأثير أفلاطون. وليس من شك في أن الرأي القائل بأن هؤلاء الرجال إنما تخلوا عن سلطان أرسطو لكي يحتموا في سلطان غيره يمكن أن يكون محلا للمبالغة. غير أنه من المؤكد أنهم لم يضيفوا إلى المعرفة الأفلاطونية إلا قليلا، ولم يكونوا في الواقع فلاسفة أساسا.
إنما هم الكتاب الخياليون والفنانون الذين يقتربون من صميم النظرة الإنسانية إلى الحياة: بترارك، ورابليه، وشيكسبير، وسرفانتيس، والمصورون، والمثالون، والموسيقيون، ممن لا نزال نذكر أسماءهم - أمثال هؤلاء هم الذين تلمسوا طريقا بين المسيحية التقليدية كما تحددت من العصور الوسطى والتعقل الجديد الذي يبدو كأنه يمحو من الكون كل ما فيه من سحر وغموض. ولما حل القرن السابع عشر استطاع بعضهم - من أمثال ملتن - أن يدخل شيئا من الرهبة والغموض في العالم الذي كان العلم يحاول أن يوضحه. ولكن قل من الفنانين من أمكنه أن يقبل عالم بيكون وديكارت. ومنذ هذه القرون بدأ عند الفنان انعدام الثقة في العالم الذي نعرفه في العصر الحديث.
وقد رأينا أن هؤلاء الفنانين كانوا ثائرين عن عمد - بدرجة ما - ضد التقاليد المسيحية الحديثة. لقد نبذوا سلطة من السلطات، ولكنهم - وهذا أمر غاية في الأهمية - اضطروا إلى البحث عن سلطة أخرى، بل ربما خلقوا هذه السلطة خلقا؛ فإن قبول الباحثين لأية عبارة مما سطر أي كاتب إغريقي أو روماني قديم لم يكف رجال الخيال هؤلاء. وقد رجع هؤلاء الفنانون إلى اليونان وروما، شأنهم في ذلك شأن أي امرئ يمس كل أمر عقلي. ولكنهم - كمهندسي العمارة - أعادوا تشكيل موادهم في صورة جديدة. والواقع أننا نستطيع أن نحاكي فن العمارة - بالرغم من أنه قد يبدو فنا غير شخصي - إذا أردنا أن نقوم بتصنيف هؤلاء الكتاب وفقا لنظام من النظم، بالرغم مما في ذلك من مشقة.
من المهندسين المعماريين لعهد النهضة - ونستطيع أن نربط اسم بلاديو بهذه الفئة - من وجد في نماذجه الكلاسيكية البساطة، والانتظام، والاعتدال (بلا ضخامة)، والهدوء، والزخرفة الرشيقة (بغير خشونة). وكذلك من رجال الفن والأدب في عهد النهضة من رجع إلى القدامى فألفى لديهم نفس هذا السلطان ، ووجدوا أن القدامى كانوا «كلاسيكيين»؛ أي إنهم وجدوا - في الأساس - ذلك المثل الأعلى للجمال والخير، الذي لم يختف قط حتى الآن من التربية الغربية الرسمية. وجدوا أن الإغريق والرومان - أولئك الذين لهم قدرهم، وأولئك الذين نستطيع أن نقرأهم - كانوا قوما مهذبين منظمين، معتدلين في كل شيء، لا يثقون بالحوشي، أو الهائج ، أو المنطلق بغير قيد، أو المتحمس، متحررين من الخرافة ولكنهم ليسوا على غير دين، يسلكون زمام أنفسهم، رجال خيال ناضجين، ولم يكونوا عقليين ذوي أفق ضيق. ويستطيع المرء أن يسترسل في هذا الوصف. والواقع أننا سوف نعود إلى بعض أوجه هذه المثل - ويكفينا هنا أن نذكر أن هؤلاء المعجبين في عهد النهضة بثقافة الإغريق والرومان الكلاسيكية قد وجدوا في هذه الثقافة «النظام» قبل كل شيء، ولم يروا ما يظن الأستاذ جلبرت موري (الذي ذكرنا رأيه من قبل في هذا الكتاب) أنه كان من الممكن أن يشاهد فيها لولا أن أجيالا من أمثال هؤلاء الإنسانيين قد كبتوه كبتا تاما - وأعني به الخصب، واللون، والانطلاق الوحشي، وتطلع الكائن الأرضي الصغير إلى النجم، وإلى المغامرة الجريئة، والخيال البعيد.
Página desconocida