إذن فالكتاب العربي مقروء في أرجاء العالم، حتى وإن يكن مقروءا على نطاق ضيق، أضيق جدا مما كان ينبغي، لكن الأمر الهام الذي سرعان ما يشغل الذهن هو هذا: ترى هل كانت تلك المادة التي نقلت عنا إلى الآخرين مما يمكن في مجموعه أن يحمل وجهة نظر خاصة بنا؛ بحيث تعرف بنا ونعرف بها؟ وإن هذا السؤال نفسه لينقلنا إلى سؤال أسبق منه، هو: ماذا عساها أن تكون رسالتنا إلى الدنيا المعاصرة لو كانت لنا رسالة؟
رسالتنا الثقافية إلى عالم اليوم، إنما يوحي بها ما ينقص هذا العالم برغم تقدمه العلمي الواثب بخطوات الجبابرة، بل إنه نقص بسبب ذلك التقدم العلمي وما أنتجه في علاقات الناس بعضهم ببعض من نتائج رهيبة؛ فهي رسالة إنسانية قبل أي شيء آخر وبعد كل شيء آخر. وإنها لرسالة - فوق كونها تسد نقصا في حضارة العصر - فهي هي الرسالة التي يمليها علينا تراثنا بكل جوانبه.
لقد كانت ساعة من أنفع الساعات التي قضيتها قارئا. وأعني بها الساعة التي طالعت خلالها تقريرا موجزا مكثفا عما أنتجه الأدباء والمفكرون في أرجاء العالم خلال العام الماضي - عام 1975م - فإذا به نتاج يثير الفزع؛ ففي إيطاليا كان من أبرز الحوادث في دنيا الأدب والفكر، أن كاتبا أخذ يطارد بمقالاته وقصصه نزعة العنف الفظيع الذي ساد الشباب، فقتله الشباب! وهنا لم يفت كاتب التقرير أن يقول إن فوز الشاعر الإيطالي مونتالي بجائزة نوبل قد أحدث شيئا من التوازن في حياة إيطاليا الثقافية. وفي فرنسا قدم لنا كاتب التقرير صورة عجيبة من فقدان الثقة فقدانا تاما بين جيل الشباب من الأدباء وجيل الشيوخ، حتى لقد اضطرت سلطات الأمن أن تحيط المكان الذي اجتمعت فيه لجنة المحكمين في جائزة جونكور بقوة ضخمة من رجال الشرطة لحراستهم من جموع الشباب الغاضب. في الولايات المتحدة كان أهم ما أنتجه الأدباء والباحثون فيما يخص حياة الناس الجارية، كتبا خاصة بالحياة الجنسية - سوية أو منحرفة - وقصصا أو كتب تدور كلها حول الرعب والاختطاف والاغتيال والدمار. وقال صاحب التقرير عن ألمانيا الغربية إنها لم تنتج خلال العام شيئا ذا بال، اللهم إلا كتبا يقص فيها مؤلفوها ذكرياتهم الخاصة أو شيئا من التاريخ بصفة عامة. وأما الاتحاد السوفيتي فقد اكتفى صاحب التقرير بذكر قصتين قال عنهما إنهما كانتا أشيع الكتب هناك، وكلتاهما تدور حول التكافل الاجتماعي. وختم الكاتب تقريره بكلمة عن الصين قائلا إن أهم ما صدر عندهم كتاب موجه إلى الشباب يرشدهم إلى طريق الصحة في حياتهم إبان تلك الفترة من العمر.
فلو لخصنا الحصاد الأدبي في العالم خلال سنة 1975 - بناء على هذا التقرير الصحفي الموجز الذي أشرت إليه - لقلنا إنه كان حصادا مداره محوران هما الجنس والعنف! وأما ما عدا ذلك من نوازع الإنسان فلم يظفر عندهم باهتمام. ولكي نتصور كيف أصبح الناس في حضارة السرعة الملهوفة يتجاهل بعضهم بعضا، ننقل صورة رواها مسافر من أستراليا نقلا عن الصحف، وهي أن شيخا تقدمت به السن رئي جالسا على مقعد في جانب الطريق، رأسه ينحني على صدره، وذراعه ملتفة حول ظهر المقعد. وشاءت المصادفة أن يقف أمامه أحد المارة، وربت على كتفه، راجيا إياه أن يشعل له سيجارته، فإذا بجسم الرجل يسقط مكوما ... كان ميتا على مقعده ليومين كاملين، لم يأبه به أحد من المارة في الطريق المزدحم.
الذي ينقص حضارة العصر هو التراحم بين الناس، وليس من شأن الحياة الصناعية أن تخلق هذا التراحم المطلوب، أفلا نجعله نحن محورا لرسالة ثقافية نؤديها؟!
في غرفة الامتحان
وضعوني في غرفة أرقب فيها الطلاب إبان محنتهم، فكنت عندئذ أقرب إلى الشيء يوضع حيث يراد له مني إلى الإنسان يختار لنفسه ما يريد، لم يكن يطلب مني أكثر من جهاز يبصر، وكان رقم الغرفة التي وضعت فيها ثلاثة عشر.
كان من حقي أن أتشاءم لرقم الغرفة، ولكني آثرت ألا أفعل؛ فهذا عدد لا خصوبة فيه ولا مرونة، إنه لا ينقسم إلا على نفسه، إنه لا ينتصف ولا يثلث ولا يتربع أو يتخمس، إنه كالأرض اليباب أو كالصخرة الصلعاء لا تنبت شيئا. ألا ما أبعد الفرق - في ذلك كله - بينه وبين جاره السابق عليه في سلسلة العدد، وهكذا قد يبعد الفرق بين الجار والجار ... كان من حقي - إذن - أن أتشاءم لرقم الغرفة، لكني آثرت ألا أفعل، عسى أن يكون تفاؤلي يمنا على الطلاب في محنتهم.
واستقر الطلاب في أماكنهم، وجلست أمامهم أدير فيهم البصر رقيبا. ما أكثر ما وقفت في هذا «المدرج» بعينه محاضرا، وما أكثر ما راح الطلاب يرقبونني من مقاعدهم وأنا على خشبة المسرح. وقد شاء الله للممثل على المسرح أن ينقلب متفرجا، ولجمهور النظارة أن يصبحوا هم الممثلين؛ ففي هذه الدنيا يوم لك ويوم عليك.
ألقيت نظرة على الأسئلة التي جلس الطلاب يجيبون عنها في عسر أو في يسر. وخلال الأسئلة تصورت نوع المادة المدروسة، فقلت في نفسي يا سبحان الله! اللهم حوالينا ولا علينا، رباه ماذا يكون الفرق في مثل هذا «العلم» بين من يعلمون ومن لا يعلمون؟ إن هؤلاء وأولئك لا يستوون بحكم منك، فاغفر لي اللهم إن ظننتهم في مثل هذه الحالة يستوون. إن العلم لا يكون شيئا إذا لم يكن أداة نغير بها العالم على النحو الذي نريد، ولكن كيف يمكن لمثل هذه المعرفة التي راح الطلاب يسكبونها على الورق بعد أن حفظوها عن الورق، كيف يمكن لها أن تكون أداة في دنيا العمل والنشاط؟ إن فرانسس بيكن حين صاح في أول النهضة الأوروبية قائلا: «العلم قوة» كانت صيحته تلك نذير ثورة كاملة شاملة؛ فلم يعد كل «كلام» يقال علما من العلم بمعناه الصحيح، بل أصبح الشرط هو أن يكون الكلام أداة صالحة نستخدمها في تسيير الطبيعة كما نشاء لها أن تسير ، لكن هؤلاء الطلاب قد حفظوا ما ليس يغير من أوضاع الدنيا شيئا، وإذن فهم لم يتعلموا شيئا.
Página desconocida