إن من أهم ما تحققه جوائز الدولة في ميادين الفن والأدب والعلم، هو الاعتراف بأن الفائز قد أنتج في هذه الميادين نفسها شيئا ذا قيمة في ذاته، ثم هو ينفع الناس. وأود هنا أن أضغط على كلمة أنتج وعلى عبارة «ينفع الناس»، وفي هذا تختلف جوائز الدولة كما نفهمها اليوم، عما كان يخلعه الأمراء والوزراء في الزمن القديم على الشعراء والعلماء؛ لأن الأمير أو الوزير من هؤلاء كان يخلع خلعته على من شاء بغير حساب من جمهور الناس. وأما اليوم فالذي يعطي هم «الناس»، فإذا أراد الناس أن تخصص جائز للفنون - مثلا - وجب ألا تعطى إلا لرجل من رجال الفن بما أنتجه في مجاله مما لقي تقدير الخبراء.
جوائز الفنون والآداب والعلوم لم تخصص لمن ظفر بشهرة في أي مجال آخر، وكذلك ليست هي وسائل الشهرة أو مال حتى في المجالات التي خصصت لها؛ فمن المفارقات التي تلفت النظر أن الجوائز الكبرى - عندنا وعند غيرنا - لا تجيء في أكثر الحالات إلا بعد أن يصبح أصحابها في غير حاجة إلى شهرة أو مال. إنها - كما قال عنها برناردشو - كطوق النجاة نعطيه لمن نجا بالفعل واستقر على شاطئ الأمان، لكن يبقى «الاعتراف» وأهميته في حياة الفرد وفي حياة المجتمع على حد سواء. ولعل أهم معنى من معاني هذا الاعتراف، هو الإشارة الضمنية بأن الناس يريدون للفائز أن يطمئن على حريته في إنتاجه الفني أو الأدبي أو العلمي على نحو ما كان ينتج، وأن يطمئن كذلك على راحته المادية إن كانت تنقصه.
فالإنتاج الفعلي في الميادين التي تعطى فيها جوائز الدولة أمر محتوم، وبغيره تبطل الحكمة في منحها. وبالطبع ليس هناك ما يمنع من التوسع في الجوائز لتشمل أي ضرب من ضروب النشاط، حتى إذا كان ذلك النشاط «موقفا» معينا اتسم فيه صاحبه بالشجاعة والنزاهة. نعم، ليس هناك ما يمنع مثل هذا التوسع، لكن موضع المؤاخذة هو أن تكون الجائزة موجهة في الأصل إلى رجال البحث العلمي - مثلا - فنوجهها نحو إلى أصحاب «المواقف» المتسمة بالشجاعة والنزاهة، أو نوجهها إلى أصحاب المناصب ذات النفوذ، أو إلى أصحاب الأسماء التي لمعت لأسباب أخرى غير الإنتاج الفعلي في الميدان المعين المقصود. لكن هذا الخطأ في التوجيه عند ترشيح الأسماء للجوائز كثيرا ما يحدث، مما يقتضي - في ظني - أمرين؛ أولهما أن يعاد النظر في طريقة الترشيح، وثانيهما أن تصاغ شروط الجوائز صياغة تزيل عنها أسباب الغموض.
عن الدراسات العليا
الدراسات العليا في جامعاتنا قائمة على غير أساس، وسائرة إلى غير هدف. وحتى إذا كان هذا الحكم ليس صحيحا على إطلاقه، فلا شك أنه صحيح على الأعم الأغلب.
فهي قائمة على غير أساس؛ لأن الأمر متروك فيها لكل طالب على حدة، يقرر مع أستاذه موضوع بحثه الذي يعتزم القيام به للحصول على الماجستير أو على الدكتوراه، كأنما هذا الطالب كائن منعزل يعيش في فلاة وليس معه إلا الأستاذ الذي يكلف بأن يلتقي به آنا بعد آن، التقاء الله أعلم بمدى نفعه ومدى جديته. ويكفي أن نذكر هنا أنه قد يحدث للأستاذ الواحد أن يشرف على خمسين طالبا من طلبة الدراسات العليا، بل هنالك حالات زادت فيها حالات الإشراف العلمي عند الأستاذ الواحد على الخمسين. ولك أن تحسب كم دقيقة يستطيع أن يقضيها مثل هذا الأستاذ مع كل طالب، وبأي تركيز يمكنه الاضطلاع بمهمته.
وبسبب هذه العزلة الغريبة التي يعيشها الطالب في بحثه، تطالعنا الصحف كل يوم بموضوعات الماجستير أو الدكتوراه التي تعرض على لجان الامتحان هنا وهناك من أرجاء جامعاتنا، فإذا بنا نقرأ عن موضوعات ما أنزل الله بها من صلة تربطها بأي وجه من وجوه حياتنا؛ وبالتالي فهي لا تسهم في حل مشكلة واحدة من مشكلاتنا . ولعل القارئ لا يعلم أنه بمجرد عرض الرسالة المعينة على لجنة للامتحان، كان محققا أن تنجح، وكان شبه محقق أن يجيء نجاحها «مع مرتبة الشرف»؛ لأن أمرها في هذه الحالة لم يعد أمر طالب وبحثه، بل يدخل في الموقف عنصر هام، هو كرامة الأستاذ الذي قيل عنه إنه أشرف على البحث. وإني لأتصور أن ما أنجزه الباحثون في هذه الدراسات قد يعد بالألوف، ثم أتصور أن هذه الألوف تنتهي مهمتها بانتهاء الإعلان بأنها نجحت مع مرتبة الشرف. وأما أن نسمع بعد ذلك أنها - أو أن بعضها - قد رسم لنا طريقا لمعالجة هذه المشكلة الفعلية أو تلك من مشكلات واقعنا الذي نحياه، فذلك إن لم يكن معدوما فهو شبه معدوم.
ومن أجل هذا زعمت أن دراساتنا العليا تقوم على غير أساس. وأما الأساس السليم الذي كان ينبغي أن تقام عليه فهو أن تكون هنالك أولا المشكلة التي يراد حلها بأمثال تلك البحوث، ثم تكون هنالك هيئة عليا من علماء الجامعات تتولى تحليل هذه المشكلة إلى جوانبها الفرعية الداخلة في نشأتها وكيانها ثم في علاجها. وعندئذ يكون كل جانب من هذه الجوانب موضوعا لبحث يقوم به طالب من طلبة الدراسات العليا. وقد لا تكون جونب المشكلة الواحدة مما يتم بحثه في قسم واحد من كلية واحدة، بل قد تتنوع تلك الجوانب حتى ليستوجب تنوعها ذاك أن يضطلع بدراستها طلاب من أقسام مختلفة، وربما من كليات مختلفة وجامعات مختلفة؛ وحيث يفرغ هؤلاء جميعا من بحوثهم، كل في الجانب الذي خصه من المشكلة، يمكن عندئذ أن تضم الرسائل لا لتوضع - كالتحف في مخزن الآثار - بل لتوضع في تكامل بعضها مع بعض يجيب عن السؤال الواحد الكبير الذي كان بادئ ذي بدء مطروحا للبحث.
إن أهم المشكلات التي نراها مطروحة أمامنا اليوم - وهذا على سبيل المثال - مشكلة ربط القوانين بالشريعة الإسلامية، فمن الذي من حقه أن يجيب إذا سألنا أنفسنا: كيف يتحقق ذلك؟ أليس للباحثين في الشريعة نفسها مجال، وللباحثين في القوانين مجال، وللباحثين في أوضاع المجتمع كما هي قائمة بالفعل مجال؟ فماذا لو قامت هيئة جامعية عليا بتحليل المسألة إلى أكبر عدد مستطاع من عناصر، ثم وزعت تلك العناصر على طلبة الدراسات العليا بإشراف أساتذتهم؟ وفي هذه الحالة سيشترك في الجواب طلبة من كلية الشريعة وطلبة من كليات الحقوق وطلبة من أقسام الاجتماع وعلم النفس في كليات الآداب.
خذ مثلا آخر. افرض أن البحث المطلوب خاص بالأمراض المتوطنة في إقليمنا، فهل تظن أن المشكلة تنتهي بنا إلى حل كامل وشامل إذا انفرد بها باحثون من علماء الطب؟ أليست عادات الناس في سلوكهم اليومي قد تفسد على علماء الطب كل نتائجهم العلمية؟ وإذن فلا بد من تقسيم الموضوع إلى أكثر من تخصص واحد، وأكثر من كلية واحدة.
Página desconocida