وفي هذا كله لا يجوز أن ننسى حين نكون في مجال «الثقافة» أن «الثقافة» - وليس التعليم - هو هدفنا ووسيلتنا معا. وأقول ذلك لما يبدو لي من أن القائمين على اللجان الثقافية المختلفة - وكلهم من صفوة المتخصصين في ميادينهم - قد يميل بهم التخصص إلى الرغبة في إنتاج أعمال «أكاديمية» أو ما يقرب منها، وهي أعمال مكانها الجامعات وما يشبهها؛ فعندئذ يفوتهم أننا ونحن في مجال الثقافة، إنما نستهدف آخر الأمر إيجاد «حالة ذوقية» لا تكديس محصول من المعارف؛ لأن ذلك هو واجب «التعليم».
والحديث في الثقافة يطول ويتفرع، تتقاطع فيه الأفكار وتلتبس المعاني، لكن محاولة التخطيط لها عن فهم واضح، ثم إقامة بنيانها على أسس راسخة، تؤدي بنا إلى قدر من التجانس يجعلنا شعبا واحدا وأسرة واحدة، هو أوجب واجب على من يستطيع؛ فحرام علينا أن نكون نحن من نحن، عراقة ثقافية وحضارة، ثم ينحرف بنا الطريق كما هو الآن منحرف؛ بحيث تتعدد فينا الرؤى، وكأننا عدة شعوب متنافرة النظر، في جوف أمة واحدة.
حتى لا تنفرج الزاوية
لم يكد يستقر الجلوس بزائري، حتى أخذ فيما جاء يحدثني فيه، فقال: لقد أرسل إلي صديقنا فلان ما زعم لي أنها قصة قصيرة كتبها، ويريد أن أنقدها له؛ فهذه أولى محاولاته في هذا الفن الأدبي، برغم تقدمه في السن، وغزارة إنتاجه في فروع أخرى. فلم يكن في وسعي إلا تلبية الرجاء، لكني ما بلغت من القصة المزعومة ثلثها حتى أيقنت أن صديقنا لم يرد قصة ونقدها، وإنما أراد خدعة يتستر وراءها، ليقول لي عن نفسي ما أراد أن يقوله، مما لم تسعفه الشجاعة أن يواجهني به يوم أن التقينا في دارك هنا، واحتد بيننا النقاش.
كان حادا فيما كتبه عني حدة السيف، صريحا صراحة الشمس في ظهيرة الصيف. وأحسست كأنما ألقى بما وصفني به حجرا يدق رأسي لأستيقظ من سباتي إذا كان بي من سبات؛ وذلك أنه رسمني في صورة رجل اعتزل الناس، وأفلت منه تيار الحياة، فنسج لنفسه من أوهامه رواقا يعيش فيه، لا يسمع إلا صوت نفسه، يحسب أن ذلك الصوت هو هتاف جاءه من جمهور المؤيدين.
الحق أن عهدي بصديقنا هذا أنه لا يسيء إلى أحد عن عمد؛ فهو طويل الصمت، عف اللسان، لا ينطق بلفظ إلا إذا راجعه في طوية نفسه مرتين، ليأمن الزلل. فما الذي دفعه إلى هذا الذي وصفني به، سوى أن يكون ذلك هو الحق كما يراه، ويريد نقلي من دنيا الأشباح إلى دنيا الوقائع؟ إنني وإن كنت على اعتقاد بأني لست كما يصفني، إلا أنني تلقيت كلامه كما يتلقى السائر في ظلام الليل سراجا يهديه إلى جادة الطريق. ولقد وجدتني أحفل بما يقوله عني في ثنايا قصته المزعومة، حتى لكأن كلماته حفرت في نفسي كما تحفر النقوش المنحوتة في حجر الجرانيت.
ليس ما يؤرقني هو الفجوة التي يزعم أنها تفصل أوهامي التي أعيش في أباطيلها عن دنيا الناس والحوادث؛ وذلك لأن مثل هذه الفجوة إن كانت قائمة عندي، فهي على درجة ضعيفة، لا تخرجني عن جماعة الأصحاء الأسوياء، ولكن الذي يؤرقني حقا ، هو يقيني بان صديقنا هذا أعمق فكرا وأدق تحليلا من أن يقذف بكلماته قذفا جزافا. وإذن فلا بد لي من التساؤل: ترى هل يريد من كلامه هذا شيئا آخر لا يحب أن يفصح به، ويكتفي بالإشارة الرامزة من بعيد، وعلى القارئ أن يبحث عن المعنى الخبيء؟
هنا قطعت أنا على المتحدث حديثه، وسألته: وماذا في ظنك أنت يكون هذا المعنى الخبيء؟
أجابني بقوله: ربما أراد أن يرمز إلى «المصري» أو إلى «العربي» في مرحلته الراهنة، بينما يشهد التاريخ للمصري خاصة وللعربي عامة أنه ذو لمسة واقعية يعرف بها أسرار دنياه المحيطة به؛ فقد يخيل لصديقنا هذا أنهما يعيشان اليوم في أوهام كثيفة عن مجد غابر، تحجب عنهما الرؤية الصحيحة لما يجري قاب قوس واحدة أو أدنى.
ومضى الزائر في حديثه يقول: كانت «مدام بوفاري» - في رواية الأديب الفرنسي «فلوبير» - تتميز في بناء شخصيتها بصفة بارزة، هي انفراج الزاوية بين أوهامها من جهة، ووقائع الدنيا من جهة أخرى. ولقد أجاد فلوبير تصوير هذا الجانب إجادة جعلت أن مجرد الإشارة إلى «مدام بوفاري» يكفي للدلالة على الهوة العميقة التي تقع بين أوهام الواهم وحقائق الواقع. وها هو ذا صديقنا في قصته المزعومة، يكثر من الإشارة إلى مدام بوفاري، فلا يبقى أمامي إلا السؤال: ترى من هو هدفه المقصود؟
Página desconocida